ثقافة

النص المثالي

ناصر سالم المقرحي

بين الفينة والأخرى يفاجئنا الشاعر المهدي الحمروني بقصيدة خارجة عن المألوف مسافرة في مدارات الدهشة والأعياد، وإلا بماذا سنصِف هذا الذي يتحفنا به كل مرة فيأخذ بألبابنا ويذهب بنا نحو مراتع السحر قبل أن يتركنا معلقين في عروة العذوبة متأرجحين في مباهج حكمته، مُترعين بالنور وفي حالة شبع واكتفاء من الشعر، لأنه من الدسامة بمكان ومن الكثافة بمكان.

هنا وفي هذا النص ينتبه الشاعر الذي يقوده حدسه وسرعة بديهته إلى ما لم ينتبه إليه الأخرون، يتفطن الشاعر إلى النص الشعري ذاته، ليس بوصفه حاملا لخلجات النفس وكوامن الذات بل بوصفه شكل جمالي مكتفيا بذاته ولا يحتاج إلى أية معاضدة من خارجه، وفي سبيله لاجتراح نصه الحُلم، نصه المأمول الذي سيشعر بعده بالارتياح والرضى لا ينفك الشاعر يكتب بكل قواه الشعرية وبضراوة لا تنقصها الحكمة ولا التبصر.

هو هنا يقترب كثيرا من ذاك النص الذي يسعى إليه الجميع، يرونه من بعيد يلمحونه لوهلة قبل أن يختفي ويتوارى تاركا وراءه لوعة وحسرة لعدم قدرة أحد على الإمساك به وترويضه، إنهُ النص الحر النص المطلق الذي لا يقبل أن يُسجن في كلمات ولا أن تؤطره اللغة ويُفضل أن يظل هكذا بلا شكل متعين محلقا في فضاءات الغيب، النص الذي يأتي ولا يأتي، الذي يكاد أن يظهر ولا يظهر، النص المتمنع والمتاح العصي والسهل الانقياد القريب البعيد.

والشاعر في سعيه المحموم لكتابة الحياة بالشعر وليوثق حالات النفس اقترب كثيرا من النص الحلم وكاد أن يقترفه قبل أن يتملص هذا الأخير ويترك صياده في حيرة من أمره منتظرا فرصة أخرى قد تسنح أو لا تسنح ، سوى أن الشاعر لم يخرج من المغامرة بلا مكاسب فها هو على الأقل يعطينا أوصاف هذا النص المتعالي حتى إذا ما صادفنا هنا أو هناك عرفناه وانكشف لنا بناء على توصيفات الشاعر، فالقصيدة التي يحلم بها الشعراء ولا زالت في ثنايا الخفاء متحصنة بغموضها مزهوة بعدم انكشافها يجب أن تتوفر على كل أو بعضاً من الاوصاف التي حشدها الشاعر في نصه المنفلت من ربقة المعتاد والمُتداول، هنا الشاعر ونيابة عن كل الشعراء قال ما يحلمون به ويتمنونه، هنا الشاعر كانً واحدا بصيغة الجمع.

 

أتوق إلى نص آخر

نص بغلاف جوي خاص

ومدار منفرد

على مقاسك تماما

كصباح من خلد

وقيامة من فراديس

وأودية ممرعة في سفانا الشعر

وربوات الخيال

نص موحي من ضياء عرشك الخاتم

مشتق من مدار الحرف الأول لاسمك

ملهم ككمال مسودة قصيدة بكر في

مديحك

نص مُجمع عليه

لا تختلف عليه الملائكة

ولا يستثنيه طغيان ولا كبر

نص من ضلع مستقيم

غير منهي عنه

ولا قولان فيه

يؤتي أُكله كل حين

يغوي الجاذبية إلى الأعلى

نص مسجود له

لا رقابة على قطافه

تتوق لسلاله العناقيد

تحل لكأسه أنهر الخمر

وتؤذن لكفه منابع النبيذ

نص كتجليك في سدرة منتهاه

يصغى له بانحناءة خشوع

في مثول الأقداس

وركوع الكهنة

وحديث المتصوفة

نص تتسارع على خدمته السدنة

والحرس والمبشرين

والدعاة

والأولياء

يتنازع على ادعائه الأنبياء والمرسلين

نص يصطفيني شاعره الأوحد لأجلكِ.

الجميل هنا هو حشد كل هاته المفردات الموحية في حيز واحد متسق والأجمل من ذلك التلامس الواضح والتقاطع المبين مع النص المقدس والبلاغة القرآنية التي عكست تمثل الشاعر للقرآن ووسعة اطلاعه عليه، لا بل تأثره بهذا النص المتعالي إلى حد أنه لا يتوانى متى ما سنحت الفرصة أو فرض البناء الشعري الاستعانة بمعانيه أو بمفرداته أو بتعابير البليغة، وذلك ملمح أساسي في شعر الحمروني لا بد من أن يلفت انتباه كل قارئ ومتابع لما يُنشر من قصائد، ويضع نص ” الشاعر الأوحد ” للحمروني بقية الشعراء في ورطة لعلو سقفه وصرامة معاييره، إذ حتى يدرك الشاعر – أي شاعر – أنه اجترح نصه المرجوّ والمحلوم به يجب أن يُخضعه لبعض أو كل المعايير الواردة بنص الحمروني.

فلكي يكتب الواحد منا نصا متعاليا مكتملا ومرضيا عنه لا بد من أن يشبه قيامة من فراديس ويكون مشتقا من مدار الحرف الأول لأسم حبيبته أو يغوي الجاذبية بعكس وظيفتها الأبدية أو تتوق لسلاله العناقيد الغافية في الحقول أو تتسارع لخدمته السدنة والأولياء والمبشرين ولا بد من أن يكون متفقا عليه وملهم كقصيدة تتخلق، غير منهيا عنه ولا يحتمل إلا قولا واحدا ويؤتي أُكله كل حين.

(نحن حكومة الانتداب الفرنسي قادمون لطرحكم يوم الاحد السابع من اغسطس 1949)

تعالت الاصوات بين ناحب ومتحدي وكثرت التفسيرات لماذا يريد الفرنسيس معاقبة سكان البلدة

قال أحدهم المرة الماضية كان الغداء صامط.

وقال اخر ممكن فيه حد مبلغ عليكم لأنكم تحكوا علي الفرنسيس.

لكن الشيخ قاطعهم قائلا:

كان فيها طريحة ناكلها بروحي، ونتم كلكم امشوا اندسوا في الحطية والنسوان والعويل بس يقعدوا في البلاد.

وبقي الشيخ وحده ليستقبل الوفد القادم ويواجه مصيره لوحده.

(غير تعال يا شيخ وحد الله من جاي يطرحكم)، قال الحاج “علي”.

بصوت مخنوق قال الشيخ: انتم دازين مكتوب بتطرحونا.

وبعد نقاش حاد اتفق الجمع علي استدعاء “الفقيه يونس”. جلس “يونس” متقرفصا وامسك بالورقة وهو يقرا البرقية بصوت متلعثم حتي وصل الي قادمون لطرفكم اصطدم بالحاج “علي” ينهره بشده هل هده طرحكم ام طرفكم.

طأطأ “يونس” راسه وفي عقله فكرة واحدة هي كيفية الافلات من قبضة الفرنسيس، وفي غفلة من الجمع الذي انهمك في طمأنة الشيخ اطلق “يونس” ارجله النحيلة للريح مخلفا ورائه حذائه المصنوع من جلد الاغنام  وليختفي بين نخيلات الحطية يحمل غصة في حلقه وحسرة علي ذاك الحذاء الذي كان يقيه شوك العاقول وحبيبات الرمل الساخنة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى