رأي

‎الكاتب والمنفى..

 

خالد الهنشيري

المثقف الذي لايرضخ للأنظمة القمعية  يضطر أن يتخذ المنافي وطناً أمناً، وهموم أخرى يراها الكاتب «عبدالرحمن منيف»، عندما تكون منفياً يعني أنك متهم منذ البداية، إنسان متهم ، ليس المهم نوع الاتهام أو الجهة التي تتهم لأن ذلك لاحق ومتعدد وشديد التباين، الأكثر أهمية أنك اكتسبت وضعاً ، ولوكان غير محدد أوغير معلن، وتترتب عليه مجموعة من الصفات الملتبسة، وهذه الصفات لاتقتصر على المنفي وحده ، إذ تمتد إلى أسرته حتى الأطفال وإلى الأصدقاء والمعارف، وإن كان القادة السياسيون للمنفيين أكثر حذراً ويحيطون أنفسهم غالباً بالحراسة، ولأن المجابهة في الإطار السياسي لاتكون ساخنة في كل الفترات، فإن الأنظمة القمعية تحاول أن تفرغ الجبهات المقابلة من رموزها الفكرية والفنية ، سواء بالشراء والإغراء أوبالحذف، خاصة وأن هذه الرموز لاتملك الخبرة الدراية والتخفي والتمويه ، وتعتبر أن قوتها تتزداد من خلال التواصل والمشاركة العلنية، فتصبح صيداً متاحاً وسهلاً، لذلك يختار الكثير من المثقفين المنفى كملاذ أمن.

‎أما الوسيلة الأكثر خطورة التي تلجأ إليها الأنظمة القمعية فهي «شراء المنافي»، لقد كان المنفى في فترة سابقة يختار منفاه وكان يغيره إذا لم يجده ملائماً كانت المنافي من الكثرة والتنوع إلى درجة أنها كانت وطناً ثانياً، وفي تلك الأوطان قامت منظمات سياسية وصدرت أعمال أدبية وفنية ساهمت في تطوير المناخ العام لطرفي العلاقة، وجرى الاعتراف والتكريس لمجموعة بارزة من الكتاب والفنانين، هكذا كانت المنافي في وقت سابق وهكذا كان المنفيون.

‎ أما في الحقبة السوداء الراهنة فإنه بالإضافة إلى انحسار المنفى وانعدام الخيار، فإن القيود القانونية والنفسية المفروضة، تجعل المنفى مكاناً قاسياً وموحشاً، وتجعل المنفى بقايا إنسان ومشروعاً خائناً للأمل والمستقبل، وتعرضه للاستغلال والابتزاز بأشكال عديدة، فبعد أن ضاقت المنافي كمجال، لم تعد أكثر الدول ترحب بهؤلاء «المشاغبين» حفاظاً على مصالحها، فإنها حين تضطر لإيواء عدد من هؤلاء فإن القيود التي تفرض عليهم تصل في بعض الأحيان لدرجة يفضل المنفي أن يسلم نفسه إلى سجانه تخلصاً من الإذلال والابتزاز الذي يتعرض له في المنفى، فالقيود المفروضة تجعل المنفى مكاناً وهمياً للحرية، لأنه لم يعد يتيح إمكانية للحركة أو فرصة للتعبير.

‎هذا عدا التنسيق الخفي بين أجهزة الدولة والمنافع التي يمكن أن تجنيها من وراء ذلك الأمر الذي يؤدي في حالات معينة إلى انتهاء المأوى الآمن وربما تسليم بعض المنفيين بتهم ملفقة أو غض النظر عن تصفيتهم جسديا.

‎ليس ذلك فقط فالخروج عن هذه القاعدة يرتب نتائج قد لايقوى الكاتب المنفي على تحملها لأن الحصار الأول، أي الوطن إذا كان ينبغي إلغاء إحدى الرئتين بالنسبة للمنفي ، فإن التجاهل ثم الغياب أو التغييب في المنفى يعنى إلغاء الرئة الثانية، الأمر الذي يفقد المنفي مبرر وجوده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى