رأي

الدنيا حظوظ 

نجاح مصدق

أواخر‭ ‬التسعينيات‭ ‬عقب‭ ‬تخرجي‮ ‬‭ ‬الجامعي‭ ‬من‮ ‬‭ ‬قسم‭ ‬‮«‬اللغة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أحبُ‮ ‬‭ ‬وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬التعب،‭ ‬والمثابرة،‭ ‬والالتزام‭ ‬والحضور‭ ‬اليومي‭ ‬لملاحقة‭ ‬المحاضرات‭ ‬والجدية‭ ‬منا‭ ‬كطلبة‭ ‬ومن‭ ‬الأساتذة‭ ‬ودكاترة‭ ‬الجامعة‮ ‬‭ ‬كنتُ‭ ‬أتوق‭ ‬لخوض‭ ‬تجربة‭ ‬العمل‭ ‬بلهفة‮ ‬‭ ‬واتوقع‭ ‬فيما‭ ‬يتوقع‭ ‬الحالمون‭ ‬أنّ‭ ‬الوظيفة‭ ‬والتعيين‭ ‬في‭ ‬انتظاري،‮ ‬‭ ‬وأنا‭ ‬التي‭ ‬تحصلتُ‭ ‬على‭ ‬معدل‭ ‬عالٍ‭ ‬وتقدير‭ ‬امتياز‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الجامعة‭ ‬الجميلة‭ ‬بحلوها‭ ‬ومرها‭ ‬وكفاح‭ ‬والدي‭ ‬معي‭ ‬وهو‭ ‬يخوض‭ ‬أول‭ ‬سنة‭ ‬تقاعد‭ ‬له‭ ‬وانتظاره‭ ‬لساعات‭ ‬ليَّ‭ ‬حتى‭ ‬انهي‭ ‬محاضراتي،‭ ‬وكيف‭ ‬أنهال‭ ‬عليه‭ ‬بحكاياتي‭ ‬طوال‭ ‬طريق‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬وماذا‭ ‬حدث؟،‭ ‬وعن‭ ‬تفاصيل‭ ‬لطالما‭ ‬لمست‭ ‬فيه‭ ‬الرغبة‭ ‬الشديدة‭ ‬لسماعها‭ .. ‬والإجابة‭ ‬عن‭ ‬تساؤلاته‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬يومية‭ ‬تعلمتُ‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬منه‮ ‬‭ ‬حتى‭ ‬أصبحنا‭ ‬صديقين‭ ‬قريبين‭ ‬جدًا‭ ‬نحلم‭ ‬معًا،‭ ‬ونخطط‭ ‬معًا‭ ‬ويعكر‭ ‬صفو‭ ‬أحاديثنا‭ ‬الشيء‭ ‬ذاته‮ ‬‭.‬

أبي‭ ‬بعد‭ ‬فرحه‭ ‬الشديد‭ ‬بتخرجي‭ ‬وشعور‭ ‬الغبطة‭ ‬الذي‭ ‬رافقني‭ ‬وان‭ ‬اقدم‮ ‬‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬له‮ ‬‭ ‬كهدية‭ ‬مني‮ ‬احبها‭ ‬جدا‭ .. ‬وحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تعلق‭ ‬وسط‭ ‬حائط‭ ‬بيتنا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬أطَّرها‭ ‬ببرواز‭ ‬ذهبي‭ ‬جذاب‭ ‬لافت‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يزورنا‭.‬‮ ‬

أبي‭ ‬أكمل‭ ‬المشوار‭ ‬معي‮ ‬‭ ‬وبدأنا‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬وتجهيز‭ ‬ملفات‭ ‬وطرق‭ ‬عدة‭ ‬أبواب‭ ‬أيام‭ ‬وأيام‭ ‬وأشهر‭.‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬انتظرني‭ ‬وأنا‭ ‬ادخل‭ ‬إحدى‭ ‬الإدارات‭ ‬كنتُ‭ ‬أراجع‭ ‬على‭ ‬ملف‭ ‬ليَّ‭ ‬قدمته‭ ‬ولم‭ ‬اتحصل‭ ‬على‭ ‬إجابه‭ ‬بالقبول‭ ‬أو‭ ‬الرفض‭ ‬للوظيفة‭ ‬ووجدتُ‭ ‬إحدى‭ ‬زميلات‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مهتمة‭ ‬يومًا‭ ‬بالحضور‭ ‬والنجاح‭ ‬ولا‭ ‬يختلف‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬إن‭ ‬رسبت‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬أو‭ ‬اكثر‭ ‬أخبرتني‭ ‬أنها‭ ‬تخرجت‭ ‬بتقدير‭ ‬مقبول‭ ‬واليوم‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬تترأس‭ ‬وظيفة‭ ‬في‭ ‬الادارة‭ ‬التي‭ ‬قصدت‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بتخصصنا‮ ‬‭ .. ‬للحظة‭ ‬لم‭ ‬استوعب‭ ‬شيئًا‭ ‬غير‭ ‬أني‭ ‬رسمت‭ ‬ابتسامة‭ ‬باهتة شاردة‭ ‬خبأتُ‭ ‬خلفها‭ ‬اسئلة‭ ‬موجعة‭ ‬وغادرتها‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬علقت‭ ‬بأذني‭ ‬عبارتها‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنس‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ )‬شن‭ ‬درتي‭ ‬بالامتياز‭(‬وضحكة‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬السخرية‭.‬

خرجتُ‭ ‬لأبي‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كنتُ‮ ‬‭ ‬طفلة‭ ‬ألوذ‭ ‬إلى‭ ‬حضنه‭ ‬حينما‭ ‬اعجز‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭ ‬بعد‭ ‬لحظات‭ ‬من‭ ‬نوبة‭ ‬الصمت‭ ‬والحزن‭ ‬انهمرت‭ ‬اسرد‭ ‬الوجع‭ ‬وأرمي‭ ‬ثقله‭ ‬وحين‭ ‬أكملت‮ ‬‭ ‬انهماري‭ ‬صمت‭ ‬للحظة‭ ‬ثم‭ ‬أجابني‭:‬

يابنتي‭ ‬هذا‭ ‬الدروس‭ ‬لا‭ ‬أني‭ ‬ولا‭ ‬القراية‭ ‬حنعلموهالك‮ ‬‭ ‬الدنيا‭ ‬مش‭ ‬بالشطارة‭ ‬والفلاحة‭ ‬مرات‭ ‬بالبخت‭ ‬والحظوظ‭ ‬ويا‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬غصايص‭ ‬تندس‮…‬‭ ‬وتعلمتُ‭ ‬الدرس‭ ‬جيدًا‭ ‬منذ‭ ‬ذاك‭ ‬اليوم‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى