ثقافة

سردية الجسد في روايتي “عار” و “ضحايا” لجمعة الموفق 

مسكون أنا على نحو خاص بكتّاب الظلّ أولئك الذين لم تنل كتاباتهم ما تستحق من شهرة، المكتفون بالحبر وهم يحرثون شساعة البياض دون انتظار مواسم المديح. يشكّل الراهن الليبي مرجعاً لرواية (عار) للصديق جمعة الموفق، فهي تبتني متخيّلها السردي من الحرب الليبيّة الأخيرة دون أن تتحوّل إلى وثيقة تسجيّليّة؛ لأنها مسكونة بما هو إنساني فلا تتبنّى مواقف سياسية واضحة على لسان أيّ من الساردين اللذين يتوليّان السرد فيها، وهما سارد داخلي ضمن بنية الحكي متمثّل في شخصيّة (منير)، وسارد خارجي. وفي رواية (عار) يتجلّى بوضوح التعارض بين الإنسان وجسده الذي يضحي في هذه الصراعات والحروب فخّاً، ويتمثّل بوصفه آخر معادياً، و الشكل الأولي للعذاب، والعدو الذي يمنح موطناً لشطط الجلّادين. يبتني المتخيّل السردي موقفاً عدائيّاً من الجسد الذي يُمثّل الهويّة المادية للإنسان، وفي ظلّ حرب تستعر يغدو الإنسان مطارداً بسبب جسده، فمعاناة الشخصيّة الرئيسة (منير) تنشأ بالأساس من تشابهه مع شخصيّة أخرى ضالعة في الحرب، وهو ما يعرّض جسده لانتهاك قداسته عبر فعل الاغتصاب، ومن ثمّ يتحكّم هذا الفعل لاحقاً في البناء النفسي لشخصيّة (منير)، ويرسم لها مساراتها السردية، لأنه يتعرّض للانتهاك بسبب هذا التشابه مرتين، مرة بالاغتصاب، ومرة بالقتل. لا يمكن قراءة رواية (عار) دون الوقوف على دلالات الجسد المُعذّب، الجسد المحتشد بالمعنى، الجسد بوصفه متناً مفتوحاً على قراءات متعددة، ومنطوياً على شفرات تحيل على لغة ما داخله. في رواية (ضحايا) التي ستصدر قريباً للصديق جمعة الموفق يكون القارئ إزاء ما يمكن تسميته (شعرية البشاعة)، فأجساد الضحايا التي تؤثث مشاهد البشاعة تبتني في الوقت نفسه جماليات هذا المتخيّل السردي الذي يتخذ من المذابح الأخيرة في ترهونة مرجعاً له، فالأجساد المعذّبة والمنتهكة والمأزومة والجثث هي السارد الفعلي في هذه الرواية التي تنفتح كثيراً على السينما عبر تضاؤل دور السارد، رواية تفعّل العين من خلال مشاهد البشاعة، لكنّ هاته العين تلتمس مع تنامي السرد في تلك الأجساد المتعفنة جماليات كتابة سردية مغايرة، ويشتم الأنف رغم نتانة الجثث رائحة سرد حقيقي، إنها رواية المتناقضات تجعل من الجناة ضحايا، ضحايا ثقافتهم ورغبة مستبدة في الانتقام، وفي سياق سردية الأجساد الميتة نعاين السرد التالي على لسان إحدى الضحايا فيما يشبه سرداً مستحيلاً: شاهد من عالم آخر» «أنا هنا الآن.. لم أع نفسي مرة أخرى، إلا بين كومة أجساد، كان الزمن ليلا في ليل، ليل ليس كمثله ليل، لحظة ادراكي أني أنسل من جسدي، جسدي بين الأجساد، بين الكومة التي ارتفعت ما يزيد عن المترين من حفرة عميقة، من كان أوحش المكان أو الزمان، عرفت بعض الوجوه، نصر كان معي في الزنزانة، وكان كثير الصلاة والدعاء، أذكر هيئته النحيفة، ولحيته الطويلة، وعينيه الصغيرتين مثل حبتي عدس، أصابعه الرفيعة والطويلة، أذكر أكثر كفيه المرفوعتين نحو السماء تتضرعان الخالق. عرفته في مارس الماضي، كان يجره من ذراعيه سجانان نذلان، كان عاري الصدر، خطوط حمراء وزرقاء على ظهره وصدره وذراعيه، رمياه بيننا، بينما كان هو يرتعد ذاكرا الله. أذكر ابتساماته، هدوءه، صبره، صلواته، وكان قليل الكلام. زياد ليس هنا، لا، كنت سأعرفه من ملامحه الحادة، لن يزيل الموت تلك الملامح، كان سيكون له بريق، من يدري ربما يلحق بنا في موكب آخر. آخر شيء أحسست به هو صوت الرصاصة تخترق فمي وتدخل رأسي، ثم لم أعد أسمع شيئا. وعيت بنفسي أول مرة على ظهر شاحنة مركونة أمام السجن، كنت مرميا على ظهري، رأيت القمر، وكان بكامل نوره.  كنا ثلاثة أجساد، ثم شعرت أني خارج جسدي، خمنت أني أحلم، رأيتهم يقودون المساجين عبر الممر، وجوههم مغطاة، وأيديهم مقيدة، لا أحد كان يتكلم، أصوات وقع الأقدام، ثم أصوات تنفسهم خلف الخرق، بالإضافة لضربات قلوبهم، كانت واضحة. فرت من قمقم واحد، حاولت أن أعدهم، لكن تداخلهم أربكني، عاودت العد بلا فائدة، أراهم يردمون أجسادنا، أسمع أصواتهم» هيا بسرعة» أسمع صوت محرك المجرفة، الجرافة تدفع التراب، تسوي الحفرة، أرى البعض يدخن، أرى عند التلة شابا متخفيا، يبكي ويراقب» تمتاز رواية (ضحايا) بقيمة أخرى بالإضافة إلى قيمتها الفنية تتمثّل في كونها فعل إدانة، تتخذ من الحبر وسيلة لكتابة سيرة أجساد ميتة لم تجد من يكتب سيرتها، وتبحث في تلك الجثث عن معنى، وتصغي على نحو لافت إلى سردها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى