اخـتلال.. لشكري الميدي أجي
خلال جلستنا خرجتْ الأوضاع عن السيطرة، كنا نتحدث عن تبدل مجتمعاتنا مؤخراً. لم تعد الأخلاق مهمة. أصبح للجميع وجهة نظر وامتزج السيء بالجيد.
«مجتمعنا مختل تماماً، نحن منافقون». قال إيسا واستفز هذا الحديث ماهموداً فأعلن: «كل شخص يتحدث عن نفسه».
رد جعل إيسا يؤكد بعناد: «جميعنا ننافق». مبعث هذا النقاش حادثة وقعتْ قبل عشرين سنة كالتالي: كنا صغاراً قسمنا الكون إلى جيدين وسيئين. في إحدى جلساتنا جاء «تشني-بو» وهو سكير وقاطع طريق ممتلئ بالأمراض النفسية وأحد أسوأ أبناء البلدة بحسب تصنيفنا، فلا يُمكن التفاهم معه أثناء سكره كالحمل خلال صحوه الأسطوري، صحو يتحدث عنه الجميع ولم يشهده أحد، فهو دائم الفقدان والجنون، بلا جدوى يلتهي بالمشروبات الروحية.
ادعى ماهمود –يومها– أنه أفضل سُكان الحي في اللغة العربية، ولم نكن نستخدم العربية إلا لدقائق معدودة ضمن الساعات الدراسية، لكن هذا الادعاء أهاننا في الصميم، فأردنا الرد عليه. جلب إيسا مصحفاً –كان في الخامسة عشرة آنذاك- فتح على سورة مريم طلب منه قراءة كهيعص بثقته المعهودة حاول ماهمود قراءتها باعتبارها كلمة واحدة، فبدأنا حفلة ضحك مع محاولاته البائسة، كلما ضحكنا ازداد عناداً على قراءتها، نجحنا في النيل منه وإهانته، أحس بوجود خلل ما، لكنه لم يعرف موضع الخلل وليؤكد تمكنه من العربية أفضل منا، بدأ يلقي على مسامعنا أشعاراً لـ: إيليا شوقي وأحمد أبو ماضي، لم ينج أحدٌ من السخرية.
كنا نضحك عندما ظهر «تشني بو» غاضباً، وهو يفوح بالخمور المنقوعة من جواربه القذرة. «لماذا تضحكون؟». سألنا، عادة هو لا يفعل. أحس الجميع بخطورة الموقف، روينا له كل ما حدث بهدوء وبأمانة حتى لا يعتقد أننا نسخر منه. فهم سبب ضحكنا، فسألنا: «هل أنتم مؤمنون جيدون وتحفظون القرآن؟». هززنا رؤوسنا «نعم ولا» تباعاً ولم نعرف بما نجيب عندما سألنا أن كنا نعتقد أننا أفضل منه. أصغر نملة أفضل منه، كذلك نحن. ربما فهم هذا من نظراتنا، طلب فتح المصحف على سورة مريم ثم اعتدل مثل صاري سفينة حربية، شرع يتلو الآيات غيباً، مثل عبد الرحمان السديس، تجويد رائع ومتزن، دون سقطات، لم نشعر بأنفسنا إلا وهو يتلو: «أو تسمع لهم ركز؟».
«لا». أجبنا على سؤاله: «هل أنتم مؤمنون، جيدون؟». عاد يترنح كالشراع المرخي ودون أن ينتظر أي إجابة منا تركنا وابتعد مترنحاً. في تلك الليلة أدركنا أننا في مجتمع مختل، لكننا نسينا بسرعة».