بعضاً من سيرة العبودية قراءة في رواية “زرايب العبيد”
نقد :
* ناصر سالم المقرحي
لطالما كانت هذه الأرض مسرحاً للعبث، وهذه الرواية تكشف عن فصل من فصول العبث الذي طالَ كل مناحي الحياة، والذي لم نكن لنحيط به بكل هذا الأتساع والشمولية لولا قراءة هذه الرواية الوثيقة، رواية #زرايب_العبيد التي امتزج فيها كمنظومة روائية متكاملة الأركان، التاريخ بالموروث والواقع الأجتماعي بالظلم والقهر والجهل وقدمت من منظور آخر تفسيرا لسيرة العبودية وللحب وللشهوة وللغيرة وللجنس وللخسة الإنسانية وللأنانية وللحياة في ظل الفقر، وذل الحاجة والقيود التي تكبل الروح قبل الجسد .
وقبل ذلك أماطت اللثام عن ظاهرة ونشاط إنساني بكل ما فيه من قسوة وظلم واضطهاد وإلغاء وتعارض مع الشرائع والنظم الحياتية، وقبل هذا وذاك التعارض مع العقل، وقدمته على عكس الكتب التاريخية الصارمة بشكل فني ممتع، وأتصور أن الصورة وصلت إلى القارئ بشكل سلس وسهل وعميق وممتع أكثر مما فعلت كتب التاريخ القليلة التي أشارت إلى هذه الظاهرة في ليبيا وتناولتها بشيء من التوضيح، ففي حين قذ يُقبل الكثيرين على قراءة الرواية ويجتذبهم موضوعها قد لا يقرأ الكتب التاريخية ويهتم بها إلا المتخصصين وطلاب الدراسات العليا ومن شابههم، فالرواية وهذا أمر لا ريب فيه، أكثر انتشارا وذيوعا من المتون الأخرى المختلفة، وهذا يجعل منها متن توعوي إلى جانب مهامها الأخرى المعروفة.
ولا يعني تركيز الرواية على ظاهرة الرق في شرق ليبيا عدم وجودها ووجود تداعياتها حتى اليوم في غربها وعمقها الصحراوي، إذ نلاحظ ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرون بعض ما يحيل إلى تلك الحقب التي كان فيها الرق أمرا بديهيا مسلما به، فهنالك حتى اليوم فوق هذه الأرض من يعامل ذوي البشرة السوداء كعبيد بشكل واضح كما يحدث عند أهل المنطقة الواحدة أو القبيلة الواحدة، حيث يُقسم الناس إلى درجات أولى وثانية ويعاملون على هذا الأساس ولا يتزوج كل منهم من نسل الآخر رغم أنهم من منطقة أو قبيلة واحدة ويحملون ذات اللقب أحياناً، ونستطيع أن نرى تجليات هذا الأمر عند بعض قبائل الأمازيغ وغيرهم من أهل الجنوب، وهنالك من يضمر أمر التعالي عن أصحاب البشرة السوداء ولا يُصرح به لأسباب شخصية، غير أنه في قرارة نفسه لا يؤمن بمساواته بمن يعتقد أنهم عبيد أو نسل العبيد، والغريب في الأمر أن هنالك من السود من يتماهى في لعب دور العبد بل أن منهم من لا يزال حتى اليوم يمتهن العزف بالزكرة والطبل في المناسبات والأفراح ولا يجد غضاضة في ترسيخ صفة العبودية بلعبه لهذا الدور لأن العزف بالزكرة شيء ارتبط بلون البشرة، إذ كان الأحرار أو البيض يعتبرون العزف والغناء مهن وضيعة كما يبدو ولهذا عهدوا بها إلى عبيدهم، والرواية وإن اقتصرت في سردها على مساحة جغرافية محددة إلا أنها أحاطت بالظاهرة في كل أماكن تواجدها في ليبيا، بشكل مضمر أحيانا، وبشكل صريح أحياناً أخرى من خلال إشاراتها المركزة إلى مواطن العبيد الأولى أو إلى الأماكن التي قدموا منها إلى بنغازي وغيرها من الإشارات العابرة التي تبين ذيوع الظاهرة ووجودها في كل مكان، وما سردته الرواية شيء قليل من ظاهرة كانت منتشرة ومتعارف عليها ولا تجد أية معارضة أو استهجان خاصة وأن المسألة لها جذور دينية تؤيدها، وإذ تنبش الرواية في هذا الموضوع وتغوص في حيثياته فإنها بمقدورها أن تطرحه للنقاش بهدف استجلاء بعض غوامضه ووضعه في سياقه التاريخي والأجتماعي والديني.
هذه رواية تنتمي إلى ذلك النوع من الادب الذي لن يترك قارئه قبل أن يؤكد له على أن الحياة هشة إلى حد أنها يمكن أن تنهار في أي لحظة لا لشيء إلا لأن الظلم مكون رئيسي من مكوناتها ولا يمكن أن تستقيم إلا به للأسف.
ومن ناحية البناء والهيكلية نحن إزاء رواية دائرية يؤدي أولها إلى آخرها ويؤدي آخرها إلى أولها، كما لو أنها حكاية دائرية لا متناهية قد حدثت ألاف المرات قبل ذلك وما تنفك تتكرر بضراوة في مكان جديد كل مرة.
ذكّرتني هذه الرواية في آخرها وأحالتني دون أن أدري إلى رواية “مائة عام من العزلة” عندما وصلت إلى موت الجدين وبعض الشخصيات الأخرى الفاعلة ووفاة البطل في بقعة بعيدة عن موطنه، وفي الإشارة إلى المواليد الجدد كادت الرواية أن تأخذ صفة الملحمية حيثُ تعاقب الأجيال، وإمكانية بدء الحكاية من جديد بشخوص جديدة عنصران في الرواية يحكيان سيرة الحياة المحكومة بالموت والموصومة بالفناء في نهاية المطاف.
لفت نظري في الرواية كثرة تناولها لعنصر الجنس وإيحاءاته، ما يجعلهُ ملمح رئيسي فيها ستُسفر دراسته من قبل النُقاد والمختصين عن دلالات عدة وتأيلات متباينة، خاصة وأنه وعلى عكس الروايات الأخرى ينخرط بحيوية في السياق العام للرواية ولا يبدو كدخيل عليها، ولا يحس القارئ مع كثرته أنهُ مجرد حشو أو توسل بعنصر تشويقي لترصيع الرواية أو محاولة تسويقها على أنها رواية تحررية أو ما شابه، فالجنس هنا جزء من الحياة لا يمكن إقصاءه والتغاضي عن سلطته وجزء من العمل السردي ككل وليس مجرد إقحام في غير أوانه ومكانه.
وسيؤدي تجاوزه وتخطيه من قبل القارئ إلى خسارة الكثير من المتعة، وأتصور أن السرد لا يكتمل ولا يأخذ مداه ولا يكتسب حيويته إلا بوجود قدر منهُ، سيما وأن بعض الأحداث تتأسس عليه وتحتاجه وارتباطه بالحبكة وثيق جدا إلى حد الذوبان فيها والتماهي في هندستها.
ولا نخالف الحقيقة حين نقول أن أجمل الروايات، تلك التي لا ينتهي تأثيرها بانتهاء قراءتها وقد تعيش إلى حين مع قارئها حتى بعد الأنتهاء منها، والرواية التي تحثك على طرح الأسئلة والبحث عما وراء أحداثها لا شك في أنها رواية ناجحة، وصحبة “زرايب العبيد” سنتوقف عديد المرات لنتساءل عن بعض الأشياء وعن بعض الإلماحات التاريخية، وقد لا نظفر بالإجابة، غير أن طرح السؤال في حد ذاته غاية وهدف لا يمكن الأستهانة به، وأكبر سؤال قد تواجه به نفسك وتتمنى أن تحصل على إجابة له هو إشارة الرواية في صفحاتها الأخيرة إلى أن الفضل في التخلص من نظام الرق في هذا الركن من العالم يعود للإستعمار الإيطالي، وبين أن تصدق أو لا تصدق، وبين أن تشك