بَنْكُ الَحظِّ، وَأَزْمةُ الذَّات!!! د. رضا محمد جبران
تدرجتْ مداركنا، وفهومنا الطبعية الأولى، على ما ساد في محيط منطقة مجدنا العامر، من الألعاب المبتكرة، أو المتداولة بين أقراني، من صناعة السيوف من القزدير ((البيامبو))، أو لعبة ((الكشينيتي))، أو اللعب بما تبقى من إطارات السيارات، أو ((الزندي دحدح))، أو الخدروف (( الزربوط)) أو ((البطش)) الزجاجي الملون والعادي والأبيض، والتير الحديدي، و((الرشقة))، و((السبع رشادات))، و((شدني وانشد معاك))، و((الغميضة))، و((الفليتشة))، و((المقلاع))، و((مهارة القفز على القزة))، و((نصبة الطربيقة))، و((شبكة صيد الحمام))، و((لزقة الفئران))، و((الجري في الغدران))، و((دف الحيط الجربة تطلع))، وكل ما كان يستهوينا في تلك الطفولة النقية والمدهشة، حتى فتحنا أعيننا على لعبة، غيرتْ مجال تفكيرنا، وربطتْ أرجلنا، ومدتْ في فسحة خيالنا، فبعد كل تلك الألعاب الطفولية الجميلة، يتفضل علينا المصريون بلعبة جديدة، لم تألفها مداركنا، ولم تستوعبها عقولنا في بادي الأمر، إلا بعد فضول وتجريب، فكان فيها المتعة والمرح، والتسلية، فأذهاننا متعطشة لكل جديد من الألعاب، وما يميز هذه اللعبة عن مثيلاتها، والتي هي لعبة بنك الحظ، أو ما يطلقون عليها (مونوبولي) أنها كانت في نطاق منزلنا وفي محيط بيتنا، الذي تأسس على الراحة والتسلية من أول يوم، فهذه اللعبة التي وردت على مجتمعنا مع بسكويت ((السامبا)) اللذيذ الملبس بالشكولاطة، والكريمة البيضاء، خلاف ما ألفناه من بسكويت ((الشمعدان في كل مكان))، لم تقف عند حد الدهشة بها، بل أسست لعلاقات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وذهنية عميقة، قد يراها البعض سلبية، ويراها البعض الآخر إيجابية، فهي تنمية عقلية راقية، عرفتنا على مظاهر الحياة ودورتها، وطرق التعامل مع الآخرين، وربما رسختْ بعض الثقافات الطارئة فينًا، منها حب التملك، والنظر فيما بدا في أيدي الغير، رغم اعتمادنا في السابق على الألعاب الجماعية التي تغلب عليها البراءة، والمجهود البدني، والعقلي المحدود، والذي لم يعد له أثر في وقتنا الحالي عند أطفالنا، وساستنا، فبؤرة الذكاء الفطري توسعتْ بشكل ملحوظ، لعله من الانفتاح العجيب على العالم، وبنك الحظ من مميزاته أنه يبني صورة حقيقة في نفس من يمارسها، والحظ قد لا يحالف كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، أو كل لاعب في هذه اللعبة، مما يدفعه أحيانًا إلى التحايل، أو التنمر، وغيرها من السلوكيات غير المرضية، وهناك أُناس لم يحالفهم الحظ في إكمال دراستهم، ومنهم من يحاول أن يكمل نقص نفسه بالتعدي على غيره، ومنهم من يتحايل، ومنهم من يكذب، ومنهم من يعبث بمشاعر غيره، ومنهم من يسعى لتدمير غيره حسدًا وعدوانًا؛ لأنه لم يكن له حظ مثله، فبمجرد رمي النرد أو الزهر، وما أجمل هذا التعبير الذي ألفناه عند المغاربة الكرام ((عنده الزهر)) بمعنى عنده حظ، أو ما ورد عند أهل تونس أيضا في عبارة «يلعب الطرابلسي بس الزهر ما عندوش»، وبمجرد الدخول في مضمار اللعبة، أو الحياة كما تحب أن تسميها، تجد نفسك تتجول بين مدن وطنك، والعالم، وتقف على المحاكم الذي تلزمك أحيانًا بدفع غرامات مالية، أو قد تدخل إلى السجن برمية غير محظوظة، فتحاول أن تخلص نفسك بدفع المال، أو قد تحيلك أرقام النرد إلى الوقوف على خانة الحظ التي تسر قلبك بمفاجآت لا تخطر على بالك، فتشتري بعض المدن، وتستثمر الاستراحات فيها، وتشتري الأبراج، وغايتك أن تحفظ رصيدًا كافيًا من المال، وتحقَّق ذاتك على حساب الآخرين، وذلك بإجبار المارة على دفع إتاوة المرور، وتأجير المكان، وغيرها من الأمور التي تدفعك إلى الحذلقة والمهارة في ذلك المضمار الحياتي الواسع، الذي استثمره كثيرٌ من ضعاف النفوس إلى تضييق المصلحة العامة، إلى مصالح ذاتية، هدمتْ كيان الأسرة الواحدة، بل الوطن بأكمله، للأنانية، وحب الظهور، وتجريد الغير من حظوظ قد من اللّه بها عليهم، وكلنا أمل في أن يلتفت ساستنا وكل من بيده مقاليد أمر الشعوب في هذه الدنيا الفانية، إلى البسطاء والكادحين، وأن يرفعوا عنهم الظلم والقهر، لتتحقق العدالة، وإنصاف أهل الحق، ليكتمل الإيمان في قلوب الخلق، إيمانًا بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، فهي سنة عظيمة جبل اللّه عليها الخلق قائمة على الأضداد، تظهر سلامة القلوب، وللّه در القائل:
وما لبُّ اللبيبِ بغيرِ حظٍ
بأغنى في المعيشة من فتيلِ
رأيتُ الحظَّ يسترُ عيبَ قومٍ
وهيهاتَ الحظوظُ من العقولِ
أو ما قاله المتنبي:
ولو كانت الأرزاق تجري علىٰ الحجا
هلكن إذا من جهلهن البهائم
اللهم سلمنا، وسلم بلادنا من دغل القلوب، وكيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وهوس المنتهزين، واكتب لنا حظًا طيبًا في الدارين.