رأيقانوني

شرعنة ثقافة الفساد.. للدكتورة فائزة الباشا

 

الانتماء للوطن ارتباط وثيق يجب أن يعلو ويفوق الارتباط العائلي والعشائري والقبلي، والمنظور المصلحي الخاص، إن مصلحة الوطن في تكاثف الجميع من أجل التقدم والازدهار الجماعي لأجل أن يعم الخير العام ويتحقق الرفاه في كافة أرجائه، والمبادرات الفردية فاعلة ومجدية عندما تطبق من أجل المصلحة العامة ، لذلك فإن إسباغ صفة المشروعية على القرارات التي تصدر من السلطة التنفيذية فاقدة لقيمتها القانونية لعدم توافر ركن من أركانها، إذا شرعنت للفساد مما يعد يجعلها معدومة، وكذلك القرارات التي تصدر عن السلطة التشريعية مثل التكليفات التي تصدر للنواب لتولي وظائف إدارية أو تكليفهم كسفراء، الأمر الذي يخل بالأمانة التي كلفوا بها من قبل ناخبيهم، وهو مسلك لم يحدث في أي دولة في العالم تحترم نظامها الديمقراطي وتريد أن تؤسس لدولة القانون.

ولقد صادقت ليبيا على العديد من الاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقية مكافحة الفساد لمواجهة كافة صور الفساد، ومظاهر التمييز والتخلف والاستغلال في القطاع العام والخاص على حد سواء، وضمان احترام حقوق المواطن وحرياته الأساسية، وفي مقدمتها حقه في التنمية الذي يتسبب إنتشار الفساد في تقويضه، وبغض النظر عما تم إبرامه من اتفاقيات؛ فأن قيمنا الأخلاقية التي مصدرها ديننا الحنيف تنهى عن استباحة المال العام المملوك للدولة أو الخاص؛ وعن نشر الفساد بمختلف صوره في الأرض لأن الله لا يحب نشر الفساد وتوعد المفسدين بعذاب عظيم، إلا أن المطلع على واقع الحال يلمس مدى الانهيار الذي تعاني منه القيم الأخلاقية والمجتمعية بانتشار ثقافة الفساد، فالرشوة والمحسوبية والقرابة هي سبيلك للترقي وللحصول على حقوقك ويقال عمن يتحصل على منافع ليست من حقه بكافة الوسائل (فالح) ومن يكسب المال بطرق غير قانونية ولا شرعية فهلوي يصفق له ويقتدى بسلوكه المشين .

ولقد أشار أبن خلدون إلى ” الجاه المفيد للمال” وإنه بمثابة ريع للمنصب، وإن من أسباب إنهيار الحضارات تفشي الرشوة والمحاباة والمحسوبية، وإرساء أسس لتقنين الفساد كالقول ” نعم الشيء الهدية أمام الحاجة “؛ ” من قدم هديته نال أمنيته”.

ولاشك أن عدم الرفض الاجتماعي لهذا السلوك أدى إلى المزيد من الانهيار القيمي، فمن يستحوذ على أموال الدولة بطرق غير مشروعة نمجده ونقدره، لأنه بماله الملوث يسيطر على العقول والنفوس، ولأن المال أتاح له مكنة الحياة بمستوى اجتماعي متميز، أما الإنسان الشريف فننظر إليه نظرة دونية، وقد ينبذ إذا رفض الاستجابة لمواجهة الفساد، فكيف نتجاوز هذه النظرة ؟ وكيف نعيد الأمور إلى نصابها ؟ في زمن أصبح كل شيء يقاس بثمن، الكلمة الإعلامية، الأعمال الإدارية، والحصول على الحقوق، ولا يتبوأ المكانة إلا من كان لديه واسطة أو من أصحاب النفوذ المالي أو الاجتماعي، وقد يكون الثمن ماليا أو سياسيا أو جسديا ( متاجرة بالعرض) أو إعتبارات أخرى، حتى اعتبر الفساد جريمة بيضاء لأنه نشاط غير مرفوض ولا يتبعه رفض اجتماعي، وأن جرمته القوانين التي لا تجد طريقها للتطبيق إلا في مواجهة صغار المفسدين كغطاء على المفسدين الكبار، وهو أحد المعاول التي تدق في نعش آليات مكافحة الفساد.

لذلك يجب ألا يفلت المفسدين من العقاب سواء كانوا مسئولين في الجهاز التنفيذي أو القطاع الخاص ممن يشترون الضمائر، وأن نلغي الحصانات الإجرائية التي تحول دون تقديم المفسدين للقضاء، ولا نقبل أن يعين من تسبب في إفلاس شركة رئيسا لمصرف أو سفيرا .. وغيره، لما لذلك من تأثير مدمر على أفراد المجتمع كافة، وبالأخص فئة الشباب الذين يجب أن نقدم لهم المثل والقدوة الحسنة، لأننا تسببنا بصورة ما في تنامي ظاهرة الفساد، عندما نسند إلى شخص غير مؤهل أو سبق ارتكابه جريمة فساد مالي أو إداري أو أخلاقي، مهمة تقديم خدمة عامة أو الاضطلاع بمهمة الرقابة والأشراف والمتابعة، وعندما تتداخل الاختصاصات بين الأجهزة الإدارية وتضعف الرقابة الذاتية والمجتمعية والرسمية يكون المردود سيئ، لأن من نخر السوس نفوسهم يرون فيها فرصة للمتاجرة بالوطن والاسترزاق والإثراء السريع الذي قد لا يتكرر ولا يتاح أمامهم مرة أخرى.

في الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مؤشرات منظمة الشفافية العالمية لنعلن عن وجود فساد، لأن ما ينفق من ميزانيات لا تؤتي أكلها يظهر بجلاء وجود خلل وترهل، ولو قارنا بين ما يخصص لمشروع في الجمهورية التونسية، البلد المحدود الموارد، مقابل ما يخصص لنفس المشروع الذي ينفذ بميزانية طائلة وعلى نحو رديء وسيء لدينا، يلمس دون حاجة لخبراء حجم الفساد الذي ينخر في جسد المجتمع، الذي يتقبل نجاحه أبنائه بشراء الأسئلة أو تمكينهم من الإجابة بطريق الغش، مجتمع يقبل بتعين من تحصل على شهادته بالتزوير في مناصب عليا، ويقبل بمنح تراخيص لدكاكين التعليم الخاص دون متابعتها والتحقق من نزاهتها وأمانتها في الاضطلاع بدورها .

ان مكافحة الفساد لن تتحقق طالما نتمسك بالمظاهر والقشور ونترك الجوهر، ونستحل مال اليتيم، وميراث النساء، ومال الدولة والغير، ونحرم المجتمع من حقه في التنمية المستدامة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى