الرئيسيةرأي

خنق الحرية من أجل الحرية

للكاتب: خالد الهنشيري
إن تتبع مسار الأحداث عبر التاريخ غالبا لايقود إلى يقين مؤكد لاستشراف المستقبل، فحركة البشر عبر المجتمعات عملية معقدة وغير ثابتة قياسا بظروفهم المحيطة ودوافعهم المختلفة بدرجة أكثر تعقيداً، يبدو أن جميع الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، وذات الأنظمة الرأسمالية أوغيرها تعيش تناقضات بين والواقع والمُثل التي تنادي بها كحقوق المواطنين ومصلحة الدولة وتطلعاتها العالمية ووقائع تاريخها..
قد تبدو العبارة أعلاه متناقضة ظاهرياً لكنها تلخص جهد فلاسفة السياسة الكلاسيكيون في انجلترا ذات التاريخ الاستعماري الطويل، بُغية تحديد مدى المجال الذي يتمتع فيه الفرد بحريته، وافترضوا أن هذه القيمة لاتكون مطلقة لأنها لو أطلق لها العنان فسوف تُسهم في إيجاد أجواء يكون فيها الأفراد في حالة تصادم لاحدود له مع بعضهم البعض، وهو ماسيحدث فوضى اجتماعية لايستطيع الفرد فيها تلبية الحد الأدنى من احتياجاته وتبدأ مرحلة قمع القوى للضعيف..
يستند أصحاب هذا الاتجاه الفكري على فلسفة مفادها أن الغايات والنشاطات البشرية لاتنسجم تلقائيا مع بعضها البعض وإن توافقت سماتهم العقائدية، حتماً سيكون هناك اهتمامات بأهداف أخرى ستكون مختلفة، كالعدالة والرفاهية والآمان الخ، لذلك كان مبدأ تقليص الحرية من أجل قيم أخرى، وهو ماولّد العبارة السابقة،هناك من أسند مسألة الحرية إلى مفهومين:-
-المفهوم الايجابي للحرية وهو مشتق من رغبة الفرد في أن يكون سيد نفسه في مناحي الحياة دون أن يكون لأي قوى خارجية أي شأن في ذلك ،أي يكون الانسان أداة نفسه وليس أداة يحددها ويتحكم فيها الآخرون وأن يسير بموجب أهداف وغايات شخصية
-بينما هناك مفهوم سلبي للحرية بمعنى أن إجبار الفرد على الطاعة يعني تجريده من حريته،وهذه مسألة شائكة لاتزال محل صدام بين الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. (المصلحة الاقتصادية تتقدم الحرية)..
بعد أن انتصرت بريطانيا في حرب السنوات السبع التي خاضتها ضد فرنسا والنمسا، أثقلتها الديون فقررت أن تُحمل مستعمراتها الأمريكية جزاء منها، فكانت تلك شرارة التمرد على سلطة المستعمر الملك “جورج الثالث”، لم يطالب الأمريكيين الذين تكونوا من أغلب المستعمرات البريطانية واجتمعوا في فيلادليفيا بالاستقلال، بل طالبوا بأن تحترم لندن حقوقهم المنبثقة عن الدستور الإنجليزي، اعتبر جورج الثالث مطالبهم بادرة عصيان ينبغي قمعه بالقوة..
شكل اجتماع الأمريكيين في 5 سبتمبر عام 1774 بفيلادلفيا “الكونغرس” القاري الأول، ولد لاحقاً ماعرف بالإعلان الاجماعي للولايات المتحدة الثلاث عشرة..
حينها قام قائد القوات الإنجليزية “توماس غاج” في بوسطن بتنفيذ أوامر الملك “جورج الثالث” وقمع الثوار الأمريكيين، وعلى الفور تجمع متطوعون أمريكيين لمواجهة القوات الإنجليزية، اطلق عليهم اسم “رجال الدقيقة” لسرعة استجابتهم للموا-هناك حركات أخرى مستقبلاً حملت نفس الاسم تيمناً بتلك المجموعات- ، وهكذا بدأت حرب الاستقلال..
لتنظم بقية الولايات تباعاً لحركة التحرر من المستعمر، واندلعت حروب داخلية أبرزها حرب الشماليين والجنوبيين، كل تلك المراحل يعرضها الكاتب “كلود جوليان” رئيس تحرير “لموند ديبلوماتيك” في كتابه (200 عام من تاريخ أمريكا) أو(الحلم والتاريخ)..
يستدل الكاتب بعض الشواهد التاريخية التي رافقت ميلاد المبادئ الأمريكية التي أطرت مفهوم الحرية لتخرج الممارسات عن تلك الأُطر غالباً:-
-يقول “جيمس هاموند” حاكم ولاية كارولينا الجنوبية الذي انتخب كعضو في الكونغرس عام 1842 قبل الحرب الشمالية والجنوبية، مستهلاً أحد خطاباته المشهورة بعبارة (القطن ملك) قائلاً إن زراعة القطن تتطلب عمل العبيد و(المصلحة الاقتصادية تتقدم الحرية) ولها الأفضلية معتبرا أن إلغاء الرق الذي أقدمت عليه الثورة الفرنسية هو فكرة ضارة، رافضا الاستسلام لفلسفة عاطفية حسب رأيه..
– ريتشارد نيكسون ” و”سبيرو أغنيو”، لم يترددا في الإشارة والتلميح إلى أن المثقفين من معارضي الحرب الفيتنامية خونة..
– “جون كالهون” يقول :-إن الحرية ليست هبة تمنح، فإنجلترا لم تقدم للولايات المتحدة استقلالها منحة بل انتزعته كفاحا وغلاباً، وأمريكا البيضاء لم تمنح للسود المتحررين المساواة منحا، فهم لايزالون يقارعون للحصول عليها، بعد قتال دام أشعل حرائق في جميع المدن الكبرى.
كما أن أمريكا ذات الفضيلة والجدارة، لم تمنح النقابات حقوقها، وقد توقفت النقابات عن إحصاء عدد مناضليها المقتولين اغتالا، فاللائحة خلال قرن ونصف من النضال -العمالي العمالي- ستكون جد مديدة، وظلت النقابات متوقفة حتى اليوم الذي اعترف فيه العهد الجديد الـ”نيو ديل” عام 1935 بأن وجود النقابات هو وجود شرعي.
لذلك لايزال النزاع بين الحرية والسلطة مستمر عالميا، غير أنه يبدو واهيا عندما يعزو إلى التقلص داخل خيار لابد منه وهو إما الحرية وإما السلطة (إما حرية بلا سلطة وإما سلطة بلا حرية)، وهكذا تضع الديمقراطية الإنسان أمام تحد دائم، فالتوتر الحتمي بين حريات المحكومين وسلطة الحاكمين يؤدي إلى توازن هو دائما غير مستقر، أما الذين تقلقهم ممارسة المواطنين لحريتهم فهم لايترددون بالتنديد بالفوضى ويبررون سلفا كل أنواع الاستبداد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى