تدابير «وطاحت في بئر»
بعد قرار الرئاسي بشأن اقرار رسوم على بيع النقد الاجنبي لم نعد نسمع بالحاويات الفارغة، وتلك التي تصل الموانئ الليبية محملة بالطوب الاسمنتي، وحتى بأكياس الرمل.
فما قبل تنفيذ حزمة الاصلاحات الاقتصادية، ليس كما بعد تنفيذ هذه الاصلاحات، فتحسن الشأن العام في المستوى المعقول حتى ولو لم يكن بحجم المأمول.
الأسعار حينها بدأت في النزول بعد أن طارت إلى مستويات قياسية، وأداء الدينار الليبي أخذ في التحسن بعد أن تراجع إلى معدلات تاريخية، وأزمة السيولة صارت أقل حدة، وانتشار واسع في عمليات الدفع الالكتروني، وتضييق الفجوة في أسعار الصرف بين السوقين الرسمي والموازي.
وهكذا بدأت الاصلاحات تحقق بعض المكتسبات حتى وأن كان الكثير من الأسئلة قد طرحت بإلحاح.
اسئلة مشروعة ومازالت مشرعة
……..
متى نصل إلى سعر تعادلي للدينار، ما بين السعر الرسمي والموازي عبر آلية متابعة فعّالة، ليأخذ مكانه ما بين الثلاثة فاصلة ثمانية، والوحد فاصل أربعة؟
ومتى يتم استعادة كتلة النقود المتداولة خارج المصارف مع استمرار رفع القيود على بيع النقد الأجنبي من قبل مصرف ليبيا المركزي لتختفي نهائيا مشكلة كان اسمها شُح السيولة؟
متى تنتهي التشوهات الاقتصادية من خلال التخلي عن سياسة الدعم العيني مرحليا، وتكوين هوية للاقتصاد الليبي مؤسس على التنافس الخلاق، وإتاحة الفرصة، وإنتاج القيمة المضافة؟
متى يتحرر المستهلك الليبي من ثقافة استهلاكية أو نمط استهلاكي غير صحي تكون عبر تخفيض اسعار السلع، خلال فترة طويلة من الزمن؟
متى تتكون شبكة امان لحماية سلة المستهلك الليبي بعيدا عن المنتجات الاقتصادية النمطية السابقة، والتي كرست لما هو غير منتج، ولا يقدم أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني
وقبل كل ذلك متى تختفي الطوابير الطويلة، والبهدلة، وسهر الليالي على عتبات المصارف؟
المهم ظلت الأسئلة دائما تعكس مساحة الأمل مع فائض عالي من الالم.
بين استسهال المشكلة
وغياب الحل
….. ..
ولعل أهم ما قدمته هذه الاصلاحات هو جرعة التفاؤل المهمة، وخاصة أن هذه الاصلاحات لم تكن جراحة مؤلمة ككل الاصلاحات التي تحتاج الى الكثير من التضحيات، وحتى الكثير من الضحايا.
لقد كان ينبغي علينا في ظل هذه الحالة من التفاؤل أن لا
ننزلق إلى حالة من الاستسهال، فلا المشكلة سهلة، ولا حزمة الاصلاحات كانت تعويذة سحرية يمكن أن تعطي مفعولها في الحال.
مازلنا في حاجة إلى الكثير من الوقت، والكثير من الصبر، والكثير من العمل، أمام تحديات كبيرة، وإدارة لا تملك المقدار الضروري من الجدارة.
هناك حالة انقسام مؤسستي يضرب أهم مؤسسة سيادية وطنية، وهي مصرف ليبيا المركزي.
وهناك حالة انقسام سياسي انتج كل مشتقاته من خطاب ضغينة، ومزايدة، وشيطنة، وصراع عبثي عنوانه الدائم إزاحة الأخر.
وهناك حالة امنية ليست حسنة حتى وأن تحسنت، ولا يمكن تحقيق اصلاحات اقتصادية بدون توفير الظرف الأمني المناسب.
وهناك جملة من المختنقات الاقتصادية أو الازمات الاقتصادية التراكمية، والتي لا يمكن حلحلتها بين ليلة وضحاها.
ريح الواقع وسفينة الاحلام
……
وككل مرة تأتي رياح الواقع بما لا تشتهي سفن الاحلام، وتوقف انتاج النفط من جديد، وعادت القيود على بيع النقد الاجنبي، لتفرخ لن نفس المختنقات التي كدنا ان نتخلص منها، فأزمة شح السيولة عادت، وتعدد سعر صرف الدولار عاد، حيث دولار في المركزي بشكل وفي السوق الموازي بشكل، واختلاف بين السعر بالكاش والسعر بالصك، حتى اختلاف بين مصرف ومصرف.
والأسوأ انه قد عاد حتى فساد الاعتمادات المستندية، والاعتمادات برسم التحصيل، وبدأت الاسعار تطير، ومعدلات التضخم تتجاوز كل الحدود الامنة.
طبعا هذا كله غير التراشق بين مؤسسات الدولة، المصرف المركزي والمالية من جهة، والمصرف المركزي والمؤسسة الوطنية من أخرى.
لماذا الرقم 4.480 ولماذا الخوف
………
ورغم حجم الاحباط الثقيل، امام تفاقم المشاكل وندرة الحلول جاءت نقطة الضوء من اخر هذا النفق الضيق والطويل، واجتمعت لجنة ادارة مصرف ليبيا بعد غياب دام لنحو ستة سنوات، واتخذ القرار الذي كان منتظرا، وهو تعديل سعر الصرف.
الكثير رحب بالقرار والكثير كان القرار صادما لهم، فكانوا يتصورون التعديل يكون تحت الثلاثة هجاء فوق الأربعة.
ولكن لماذا هذا الرقم، ولماذا لم يقر فريق الخبراء رقم اقل يتماشى مع مزاج الليبيين، ورغباتهم؟
يقول خبراء المصرف: ان هذا الرقم هو الذي يستطيع المصرف ان يفي به ويلبي كل الطلب على العملة الاجنبية، ولجميع الاغراض.
فلا تجار اصحاب حظ او يحتكرون الاعتمادات، ولا فساد ولا سعرين، ودولار بالكاش ودولار بالصك.
تعديل سعر الصرف هو نصف الحل، يعني الحل لابد ان يذهب في اصلاح السياسة النقدية من جهة واصلاح السياسة المالية والاقتصادية من جهة اخرى.
والاهم هو شبكة الامان التي تحمي الطبق الهشة، اذن المطلوب الآن هو تدابير عاجل من قبل الحكومة تعالج المضاعفات المترتبة عن قرار تعديل سعر الصرف، حتى لا يدفع المواطن وحده فاتورة الاصلاح، وهو ذاته الذي دفع فواتير الفساد.
سعر الاحتكار وسعر السوق
……
التجار الذي قاموا بتوريد السلع وتحديدا الغذائية والدوائية ومواد التنظيف، وبالسعر الرسمي للدولار، زائد الرسوم هم من يقوم الآن بزيادة الاسعار واشعال النار في السوق.
لانهم يحتكرون هذه السلع، وهؤلاء هم اعداء للشعب الليبي لانهم يستغلون احتكارهم للسلع لرفع اسعارها وذبح الناس.
هذه الاسعار لن تستمر، لان الاحتكار لن يدوم لهم.
فمع رفع القيود على بيع النقد الاجنبي سيتحول اقتصاد الاحتكار إلى اقتصاد سوق ومنافسة نظيفة تعتمد على سلع اكثر جودة واقل سعرا.
وهنا علينا أن نكون أكثر أدراكا بحجم التحديات، وأكثر تفهما لوعورة الطريق، ولكن تظل المسألة مسألة وقت، ووقت فقط، إذا ما توفرت الإرادة القوية، وحسن الأداء، وحسن النية.