فِراقُ عَزيزٍ وخَيمةُ عَزَاءٍ وَنِيَاحَة!!!
د. رضا محمدجبران
كَأَيِّ يَومٍ نَفتحُ فِيه أَعْينَنَا لِنَستقبلَ بَراحاً جَميلاً مِن الأُمنياتِ، وَنمرحَ فِي مَجْدنا العَامرِ، عِند كُلِّ مُشَوِّقٍ، فَإِذْ بِصَرخاتٍ تَعلو، وَتَعلو، وَتعلو، مَعَ بُكاءٍ، وَنَحيبِ، وَنَحنُ فِي حَيرةٍ، وَاستغرابٍ، وَذَهولٍ، فَلم تَألف أَنْفسنا وَقْتئذ إِلا المرحَ وَالفرحَ، أَمَّا التَّرحُ وَالحزنُ فَلم تُدْركهُ عُقُولنا، وَلم يُلامس قُلوبَنا، وَلَم تَشْهده أَبْصَارُنا، وَلَكنَّها بَقيتْ صُورةً مُؤثِّرةً مُؤلمة جِدَّاً، رُغم إيجابيتها التي غَابتْ عن وَاقعنا الحَاضرِ، حَيثُ أَظهرتْ أَجمل مَعاني المُواساةِ، وَالنَّجدةِ، وَالُّلحمةِ الحَقيقيةِ الصَّادقةِ، المُسْتَقاةِ مِن أَعرافنا الاجتماعيةِ المَحمودةِ آنذاك، فِي مُحيطِ حَيِّنَا الذي كُنَّا نَسْكُنُهُ، وَيَسْكُننا، فَالجِيرانُ كَانوا فِي ذَلكَ الحَيِّ أُسرةً وَاحدةً، فِي أَفراحِهم وَأَحْزَانهم، وَهِي صَورةٌ تَلاشتْ مِن حَياتِنا، رُغم قَسْوتِها، وَغَرابةِ تَعاطيها.
وبَعد تِلكَ الصَّرخاتِ المُدّوِّيةِ التي هَزَّتْ مُحيطَ مَجْدنا مُعْلنةً عَن مَوْتِ أَحدِ أَبناءِ جِيْرَاننا، وَقد استَرقْنا السَّمعَ، لِتَلَقُّفِ نَبأِ سَبب مَوْتهِ، فَشَاعَ أَنَّهُ غَرِق في البحر بَعد أَنْ ارتطم رَأَسهُ بِصَخرةٍ، لا نَعرفُ حَقَّاً صِدق الخَبرِ مِن عَدمهِ، أَوْ هُو كَما جَرتْ العَادةُ فِي إخفاءِ جَرائمِ التَّصفياتِ الجَسَديةِ المَقصودةِ، فَالفَقيدُ كَانَ ضَابطاً بِالجَيشِ، وَعَندما بَلغَ خَبرهُ بَدَأْنا نَسمعُ هَمْهَمةً غَيرَ وَاضحةٍ، وَقُيّدت الوَاقعةُ ضِدَّ تِلك الصَّخرةِ المجهولةِ، هُنا أَخَذَنا الفُضولُ، وَبَدأنا نَتَسَلَّلُ بِكُلِّ أَريحيةٍ، لِنَتعرفَ عَلى هَذَا الحَدثِ الغريب، الذي لَم تَسْتَوعبهُ مَدَارِكنا، خَاصةً وَقَد طَلبَ جَارُنَا الحَاج صَالح، مِن وَالدي رَحمهما اللهُ تعالى، أَنْ يَكون بَيْتنا مَقَرَّاً لاستقبالِ المُعَزِّين مِن الرِّجال، الذين تَنَادَوا بَعدها، لِتركيبِ خَيمةِ العَزَاءِ في بِيتنا، وَفِي بَيتِ جَارنا الذي خُصِّصَ لاستقبال النِّساءِ، فَرَأينا صُورةً لَم تَتَكرَّر فِي مُخَيِّلتي مِثلها، مِن التَّعاونِ وَالإيثارِ، وَالمُواساةِ، رُكبتْ خَيمةُ الرِّجالِ التي اتسعتْ بِمِقدارِ عُمقِ أَرضنا، وَقد اجتمعوا حَولَ مَوقدِ النَّارِ، وَنار الفِراقِ، لِصُنع الشَّاي، الذي صَاحَبَتهُ أَواني الخُبزِ المَغْمُوسِ فِي زَيتِ الزَّيتونِ، يَتساءلون عَن سَببِ مَوتِ ابن جَارنا، وَقد خَيَّمَ الصَّمتُ عَلى الجَميع، فِسِرُّ مَوته غَريبٌ، وَالكلُّ لا يَأمنُ عَلى نَفسهِ، وَبَدأتْ عِباراتُ المُوَاساةِ بِقَولهم: البَركةُ فيكم، عظم الله أجركم، لِلهِ مَا أَخذَ، وَلِلهِ مَا أَعْطَى، وَغَيرها مِن العَبَاراتِ التي تُظهرُ حَجمَ المُواساةِ وَالتَّعزيةِ، بَينما تَسَلَّلنا مِن جَديدٍ إِلى الشَّارعِ نَتتبَّعُ أَصواتَ النِّساءِ التي تَعالتْ، وَهَزَّت الأَرضَ وَالسَّماءَ، وَقد دُهشنا لأَوَّلِ مَرةٍ، رأينا فِيها تَطايرَ مَلاءات نِسَائِنا أَو مَا نُسَمِّيه (الفَرَّاشِيَّةَ)، وَهُو نَوعٌ مِن الأَرْديةِ تَتَسَتَّر بِه النِّساءُ، وَقَد خَلعنَ ذلك الّلباس، مِن شِدَّةِ أَلمِ المَوتِ، وَالفِراقِ، بَعدَ تَقَافُزِهنّ مِن أَعَالي ظُهورِ السَّياراتِ (البِيجُو)، اللاتي كُنّ يَرْكَبْنها، صُورةٌ مُذهلةٌ خَياليةٌ، وَبَدأنا الاقترابَ مِن ذلك المَشهدِ، وَلَا أَحدَ يمنعنا مِن ذَلك فَنحن صِغارٌ غَير مُكَلَّفين، وَهَو أَمرٌ يَستحيلُ عَلى كَبارِ السِّن، فَالحَياءُ وَالحِشمةُ كانتا أَعظم مَا عُرفَ بِه أَهل تِلك المنطقة، اقتربنا وَتَتَبَّعنا حَركةَ النَّساء المُتَدَفِّقة مِثلَ السَّيلِ، بَعدَ أَن صَعدتُ أَنا وَأَخي عَلى أَسوارِ مَزْرعتنا، حَتّى وَصلنا إِلى عُمقِ دَارِ جَارَنا، وَمِن ذَلك اليوم عَرفتُ سِرَّ تَحريمِ شَرعنا الحَنيفِ لِلنِّياحةِ عَلَى المَيت، الذي يَفقدُ فِيه الإنسانُ صَبره، وَيَختلُّ فِيه أيضا شَرطُ عَقيدتهِ الذي قَوَامهُ الإِيمانُ وَالتَّسليمُ بِقَدَرِ الله، حَيثُ وَجَدنا بَعضَ النِّسوةِ يَجمَعنا الصَناديقَ الخَشَبِيَّةِ، ثُمَّ بدأنا يَتَحَلَّقنَ حَوْلهنّ، وَيَتخالفنَّ فِي جَلَبَةٍ مِن أَصواتِهِنَّ بِالنِّياحةِ، بِقَولِهنّ: (وُوكْ عَلَيَّ وُوكْ، وُوكْ اصغير وُوكْ)، وَهُنَّ يَلطُمنَ خُدُودهنَّ، وَيَنْتفنَ شُعورهنَّ، لَعَلَّهُنّ بِذَلكَ يُظْهرن قَدْرًا مِن المُواساةِ لِأُمِّ ذَلكَ الفَقيد، وَلَكن العَجيبَ أَنَّ تلك الصَّناديقَ لَم تَعد كَافيةً لِكُلِّ النِّساءِ القَادماتِ لِلّمواساةِ، بَعد تَحطيمِهِنَّ بِأَرجُلِهِنّ، هُنا كَانت المُفَاجأةُ بِإحضارِ بَعضِ الصُّحون الكَبيرة، أَوْ مَا يُعرف آنذاكَ (بِالِّليَّانِ)، وَهي صُحونٌ تَسْتعمِلُهُنَّ النِّساءُ لِغَسلِ الثِّيابِ قَبلَ اكتشافِ الغَسالاتِ الحَديثةِ، وَلِأَوَّلِ مَرةٍ نَعرفُ فَائِدتها فِي النِّياحةِ على الميت، فَبِالإضافةِ إِلى الأَصواتِ المُتَعَالِيَةِ بِالنِّيَاحةِ، عَلتْ أَصواتُ تِلك (الَّليَايِينِ)، وَكَأَنَّهُنَ طُبولُ حَربٍ، زَادَ وَقْعها وَلَم يَفتُر خَاصةً عِندما جَهَّزوا الفَقيدَ وَأَدخلوه لِأُمِّهِ لِتُوَدِّعه الوَداعَ الأَخير، وَقَد سِرنا خَلفه لِتوديعهِ في مَقبرةِ (أَبوعَائشة)، وَنَحن فِي رَهْبَةٍ، مَا هَذَا الصُّندوقُ الذي يَعْلو أَكتافَ الرِّجالِ؟!! وَقَد تَقَدَّمتهُ شَاشِيَّةٌ سَوَداءُ، وَأَصواتُ الرِّجالِ تَبْتَهلُ بِصَوتٍ شَجِيٍّ حَزينٍ عَلَى إِيقاعٍ مُتَناسقٍ، بِقَولهم: لَا إِله إِلّا الله، مُحمّدٌ رَسولُ الله، وَهُناكَ مَن كَانَ يُرَدِّدُ، يُرَجِّعُ، فَيقول: الله، وَكَان عُنوانُ المَوتِ مُنذ ذَلك الوَقتِ وَاضحاً عِندما نَرى ذَلك الصُّندوقِ، أَو مَا يُسمّونَهُ نَعْشَاً، وَقَد وَقفَ الجميعُ لِلصَّلاةِ عَلى ذَلك الشَّابِ، ثُمَّ تَنَكَّبَ زُملاؤه أَسلحَتَهم لِيُودّعوه بإطلاق الرَّصاصِ، الذي سَمِعنا دَوِيَّهُ لِأَوّل مَرّةٍ، وَاختفى مِن حَياتنا حَتّى صَارَ مَألوفاً فِي كُهُولَتنا، التي لَمْ يَعد لِلموتِ فِيها أَيّ مَعنىً، وَقَد بَرَدَتْ حَرارةُ المُواساةِ، وَغَصَّتْ لَوعةُ المُعَزِّين، فَالفَقيدُ أَصبحَ وَطناً لَا بَواكي لَه.
حَفظَ اللهُ بِلادنَا وَرَحمَ مَن فَقَدنا مِن أَحبابنا.