((السنة الهجرية، وهاجس الفتاشة، و “البَالَالَوْ” للدكتور رضا جبران
لقد كان لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، عبر ودورس، ومواعظ جليلة، تظهر قيمة الجهاد النفسي، ومغالبة الظلم، والتضحية، وتستجلي عظمة الاتحاد واللحمة والإخاء في سبيل الحق، ولكل قوم هاد، هكذا تعاظمت هذه الأمة العظيمة وهي تستدعي تلك الأيام والمواسم المشرفة، في كل بقاع الدنيا، وقد تلمسنا شيئا من عظمة تلك التضحيات على موائد احتفائنا بحلول كل سنة هجرية مباركة، تفاؤلا بالخيرات، وانتظار كل جميل مبهج، وبعد انتهاء كل عيد أضحى تلتقي القلوب الصافية، وتشمر السواعد في بيتنا العامر، ككل عام، والكل مبتهج مسرور، جدتي وأمي وأخواتي، في سباق وعناق، أثناء أيام التشريق التي طاب فيها الأكل والشرب وذكر الله، وكانت صفرة اللوح، والقرمة، على الحصير المعد للاجتماع في ساحة بيتنا العتيق، الذي فتحت عيني فيه بمنطقة المجد أو ما يعرف قديما بقرود عرادة، وقد شحذت السكاكين، لتقديد اللحم، بل ولتقديد جل ما حل في جوف تلك الأضحية، الأمعاء، والكرش، وأشياء لذيذة كنا نشتهيها مع كثير من لوازم تقديدها من واسع البهارات، وكذلك تفصيل رأس الأضحية تفصيلا، ونشر كل ذلك على الحبال، لتجف وتقلى، رغم قلة صبرنا عليها، وهي على الحبال، قبل وصولها إلى القدر، وتمر تلك الأيام الجميلة الحانية، وقد أخذ القديد مكانه في أزياره، إلا من رأس الأضحية والأقدام التي جفت لتبقى إلى ليلة عاشوراء.
وما أجمل ترديد المثل الذي كانت تعيده جدتي وهي تستقبل السنة الهجرية، بكل ألوان الفرح الذي زين عتبات بيتنا بالبياض، وهي تقول: (( لا باس على أسبار الناس))، وتعي معنى الفأل بدخول هذه السنة المباركة، وتستدعي بعضا من سيرة المصطفى عليه السلام، وقد كان الإخاء واللحمة عمادها، حيث كنا نجتمع على صحن تعددت أصنافه، وطاب مذاقه، وفاح لكل مستنشق مرقه، الذي تحلى بالقديد، وربما كان يطلق على ذلك الطعام اسم ((الفِتَّاشَة)) فمداركنا محدودة لا تعي تلك التسمية، وإنما ارتبط معناها في مخيلتنا بشيء من الخوف، والرهبة، أثناء أكل تلك الوجبة، ولعله جانب تربوي يحض على تعريفنا بهذه المناسبة، بل هي تراجيديا رسخت تفاصيلها في مخليتنا، وكانوا يقولون لنا: الذي لا يأكل تلك الوجبة تأتيه الفتاشة ليلا، وتفتش بطنه وتأخذه إلى مكان بعيد، فنأكل ونأكل ونأكل، حتى الشبع، ولا أثر لتلك الفتاشة، وربما تأتينا الجثامة من إسرافنا في الأكل وتسمرنا في أماكن نومنا، وما أن نسلم من تلك الليلة الليلاء، ونمرح ونلعب في محيط بيتنا وقد حل الصباح، حتى نتفاجأ بنداء أمي وهي تمسك بما تبقى من الأضحية، الكتف الذي سيكون هدية لجدتي، ونحن نتجهز لشد الرحلة إلى بيت جدنا في تلك الآونة، وهو مؤقت، وكان يطلق عليه ((بيت محارم))، ربما تخدعني خريطتي الذهنية وأنا أصف ذلك البيت وتفاصيله، ولكنه جاء في سنوات الضيق والضنك، التي أصبح فيها الإنسان زاحفا، لا ساعيا، وطفولتنا لا تطيق الضيق، فقد فتحنا أعيننا في بيت فسيح عمره أبي رحمه الله تعالى من مقسوم إرث جده، أما البيت الذي بقيت ذكراه في مخيلتنا بعد زيارتنا لجدي فقد نسجت حوله روايات رهبتها لم تختلف على الفتاشة، بل أسوأ، حيث تحلقنا على العشاء، وانطفأت الأضواء لا نعلم هل لخلل كهربائي، أو هو مسلسل من مسلسلات شركة الكهرباء التي التزمت بعدها وانتظمت، ولكن لسوء حظنا انقطع عنا النور في تلك الليلة، ورجع إلينا هاجس الفتاشة، وزاد عليه هاجس آخر هو ((البالالو))، حيث كنا نجلس في تلك الليلة وهناك بعض الأصوات الغربية، وهنا بدأت الحكاية، حيث رويت لنا قصة بأن هذا البيت تم فيه جريمة قتل لرجل، داخل الدكان الذي رأيناه مغلقا في أسفل البيت، وحاول ذلك الرجل الفرار وهو مكبل بالسلاسل، فصعد إلى أعلى البيت ومات، وبقيت روحه تلف في ذلك البيت، وهو ما أطلقوا عليه البالالو، والرعب قد قطع قلوبنا ولا نعرف معنى هذه التسمية إلى يومنا هذا، ولما أحس القاص قدر تيبسنا وخوفنا، حاول أن يسلينا وقد عاد النور إلى ذلك البيت بقوله:(( قطوس ماشي بيغني قدام جزار، قدام جزار، لما شاف اللحمة والشحمة يحاسبها فار، يحاسبها فار، برم شنباتو، واخنبها وفاتو ، شنو هالقطوس شنو هالقطوس، ميو، كس))، ثم ردد علينا أهزوجة أخرى فقال: ((في ليلة الجمعة، الله، الناس مجتمعة، الله، ركب العجوز، الله، في الأتوبيس، الله، قال: ما هذا؟ الله، ضربوه برشادة، الله، قال: ما هو، الله؟ ضربوه بالقوة، الله، قال: ما هي، الله؟ ضربوه بونية؟ الله))، فكان في ترديدنا كلمة الله راحة ملأت نفوسنا أمنا وطمأنينة، فهو كان ينشد العبارة الأولى، وطلب منا أن نردد كلمة الله، ما أسعدنا بتلك الأيام رغم قسوتها، ووحشتها، ورغم بساطة طفولتنا، إلا أننا نشفق على ما تعيشه هذه الطفولة في وقتنا الحالي، التي لم تعد تأنس بتلك الأحاديث التي تحرك المخيلة، بل أصبحت تعاني من الصور المأساوية، وربما الدموية، في هذه الأيام، التي قد يفقد فيه الواحد الأمن والأمان إلا من وقوف الواحد أمام ثلاث أربعات، فنسأل الله أن يجعل عامنا الهجري عام خير وبركة وألفة، وأن يحفظ بلادنا، من كيد الكائدين، ومن زيف الأدعياء الطامعين، وأن يولي علينا خيار خلقه.
د. رضا محمدجبران