عَاشُورَاءُ عِبَادةٌ وَعَادَةٌ.. د. رضا محمد جبران
الإسلام منة عظيمة على سائر المخلوقات، ختم الله به وبنبيه عليه السلام كافة الأديان، ومن أجل سماته أنه يخاطب الفطرة السليمة في مكنون وجدان البشرية، ويستجلي حصافة العقل الراجح، فجعل قوامه سنة حبيبه المصطفى عليه السلام الذي اقترنت طاعته بطاعة الله سبحانه وتعالى، فهو دين فطرة أوراده تستوعب أسمى معاني الإنسانية فيما صح من قوله: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ»، بمعنى أن يستسلم الإنسان لله، لا لغيره، إيمانا مطلقا نستشعر منه القدرة والإرادة، واللطف بالخلق، ونحن نعايش يوم عاشوراء، الذي أنهى الله فيه طغيان فرعون ونصر موسى عليه السلام، فأستحال شكرنا لله عبادة وصياما وابتهالا واجتماعا، وما أجمل هذا الموسم الذي تظهر فيه العظة والتوسعة، ويطيب لنا أن نغتنم فضله ونحن نجمع سعف النخل مع جدتي رحمها الله التي تستظهر عظمته بزيارة المقبرة وطلاء قبر من فارقنا من أهلنا، وتحمل المال لتوسع علينا، وعلى من تأنس حسن الصوت في قراءة القرآن على جدي وباقي الأهل، في مقبرة الصحابي الجليل سيدي منيذر الأفريقي، وعندما تنتهي من هذه العادة التي ألجأتها إليها الفطرة وتأمل الثواب من الله، تتوجه بعدها إلى أزقة المدينة القديمة لتشتري لنا حلوة الشاكار، إن صح نطقها وتحدثنا عن حلوة التصق اسمها بهذا اليوم المبارك، يطلق عليها العاشوراء والتي لم تعد متداولة كما ألفتها هي في طفولتها، وما ألذها!! حيث لم يقف تشويقها لنا عند حد الكلام بل تجاوزته إلى صنعها، وجعلته في باب التوسعة علينا وعلى أولاد الجيران، قبل الاستعداد لوجبة الغذاء التي عمادها الكسكسي المغمور برأس الأضحية المجفف، والحمص والفول، الذي أصبح غريبا في أيامنا هذه، من كثرة الشطط حول أكله، فما هي إلا عادات ألفها هذا المجتمع، وهذا ما رويته عن والدي رحمه الله تعالى الذي فصل القول في هذه العادات السائدة، عندما قال: ((فمن هذه المظاهر الباقية من العادات في يوم عاشوراء مما أدركته أن الكثير من الأسر الليبية خاصة في طرابلس ظلت إلى السنوات القريبة الماضية تذهب في هذا اليوم إلى زيارة المقابر لقراءة القرآن والترحم على الموتى حاملة معها سعف النخل وأنواع البقوليات المطبوخة وبخاصة الفول والحمص لتتصدق به على الفقراء بعد أن كانت قد طبخته في ليلة عاشوراء حيث يتحلق أفراد الأسرة على غير العادة لأكله وقد يبقى الاستمتاع بأكل هذا الفول مدة يومين أو ثلاثة على الأكثر ولا يعلم الناس تفسيرا لذلك والغالب أنه من آثار تقاليد الشيعة في عاشوراء.
ومما لا حظناه وعايشنه وشاهدناه من عادات الأطفال والصبيان بل من عادات بعض الشباب والرجال قبل أربعين أو خمسين سنة أنهم يخرجون في ليلة عاشوراء بل في مسائه وفي اليوم الثاني الذي يلي تلك الليلة يوم عاشوراء في مظهر احتفالي يجتمع فيه حشد من الأطفال والشباب ومعهم (الشيشباني) وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الشيشباني أنه مظهر من مظاهر الثقافة الأفريقية في أفريقيا السوداء وهو عبارة عن فتى لطيف نشط يحسن الحركة والرقص والجري ومداعبة من حوله بعصاه الطويلة يلبس بل يغطي جميع جسمه بليف النخل الإ يسيرا من وجهه يقابل عينيه والأطفال والشباب يمشون وراءه هاتفين وضاربين على طبوله وهم يرقصون مع هذا الشيشباني ويقولون: (شيشباني ياباني هذا حال الشيباني_ هذا حاله وأحواله ربي يطيح مزاله) وأيضا قولهم: عاشورة عاشورتي أمليلي داحورتي داحورتي مليانة بالششي والعصبانا هذا حوش عمنا يطعمنا ويلمنا هذا حوش البوبشير فيه القمح والشعير.. في المقابل كان الشبان والرجال الكبار يخرجون في مظهر احتفالي مواز وغالبا ما يكون في الليل حتى يتاح لهم الانطلاق في التعبير عن مشاعرهم وفرحهم ورقصهم في غير تحفظ فيما يسمى ( الجمل) فتراهم يحملون رأس جمل أو ما يشبهه ويطوفون به بيوت القرية فإذا أعطوا الفول أو الحمص_ وهذا أيضا حال جماعة الشيشباني من الأطفال والصبيان فرحوا ورضوا وأظهروا السرور بعبارات محفوظة وذهبوا غانمين فرحين وإذا لم يعطوا شيئا غضبوا وثاروا وهتفوا بعبارة مشهورة تنذر بالشؤم تقول: (المرا مطلقه والرحى معلقه) أي دعوا على ربة البيت بالطلاق ودعوا على البيت نفسه بالفقر والإملاق أي أنهم دعوا بعدم استمرار الحياة والسعادة فيه.. ومن العادات التي كان معمولا بها في ليبيا وفي طبقات النساء وطبقات الصبايا والبنات الصغيرات ضمن أعمال الصدقة والزكاة أنهن يأخذن من رؤوسهن شيئا قليلا يقص بالمقص يقصدن به الإنفاق الجالب لكثرة الشعر في رؤوسهن.
ثم نعود بعد ذلك إلى ما يتصل بالأطعمة والأغذية فنقول: إن من العادات الغذائية التي عرفت في ليبيا أوفي أجزاء منها ما عرف بالرياشة وهو مصطلح مجهول المصدر ويبدو أنه من عادات الشيعة في ليبيا قديما ويقصد به من الناحية العلمية إخراج اللحم المجفف( القديد) وهو اللحم المقلي في أيام عيد الأضحى والمقلي بالزيت وشحم الشاة والمسمى في ليبيا ( القرقوش) أو القريش عند بعض المناطق ليطهى ويؤكل في يوم عاشوراء وتسمى الأكلة كما تقدم الرياشة كما أنهم يعمدون في الأيام التي تليه إلى طهي لحم الرأس وأرجل الأضحية المجففة بالشمس ليأكلوها مع وجبة ( الكسكسي) كذلك ينعم الأطفال بشراء نوع من الحلوى التي تباع في هذه المناسبة تصنع من الدقيق والنشأ والسكرو وتزين بالألوان والأصباغ المختلفة تسمى ( عاشوراء) وقد كان الباعة ينادون في ترويجها بقولهم: ( عاشورا يا احْبَيبْ اللي يَاكلها رَاجلْ طَيبْ) وقد أكلنا كثيرا من هذا النوع من الحلوى في طفولتنا فنرجو الله أن نكون من الطيبين))
فنسأل الله العظيم لأبي الرحمة والمغفرة ولجدتي ولسائر المسلمين، وأن يحفظ بلادنا وينجينا كما نجى نبيه موسى من سطوة الطغيان، وأن يلم شمل أهلنا والأمة الإسلامية كافة، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه.