نجاح مصدق تكتب.. يامطر صبي صبي
في ذاكرة الاجيال السابقة صورة محفورة مخزنة من شريط الحياة العابر خبئت لمواسم الحنين حفظها اطفال تلك السنوات واستقبلوها كرسائل خاصة لهم دون سواهم
تفسح المجال لبراءتهم واسرارهم المدفونة ان تطل برأسها مصافحة اول قطرات من الغيث الذي يأتي به الشتاء
رائحة المطر والتراب المبتل الكنزات الصوفية وبخار الماء الذي يتشكل على هيئة سحب ضبابية تخرج من افواهنا مؤكدة برودة الطقس رائحة الاطعمة والشاي والبطاطه الحلوة والكانون والاهازيج الفرحة التي كانت تصاحب سقوط المطر كتف بكتف
يامطر صبي صبي.صبي على حوش القبي والقبي ماعنده شي كان خبيزه والششي.يامطر يابشباشه طيح حوش الباشا والباشا ماعنده شي كان قطيطيسه وجدي
كل هذه المشاهد كانت ترسخ مهرجان الفرح وحفاوة الاستقبال بالمطر الساقط عرس للغناء والبهجة وولحظات للرقص والنط ورفع الايدي تتجاوز فيها الامهات نوبات الحرص الشديد على ابنائهم ويخاتل فيها الاطفال ببراعة ذاك الحرص متى حل للظفر بخلوة لا تظاهى مع المطر وغزارته
اليوم ونحن نحتضن المطر كغائب عاد من بعيد طال انتظاره بعد صيف شديد طويل بلا كهرباء ولا قدرة على صنع معجزات تأتي بنسمات الشتاء في مواسم الصيف لازلت التقط تلك الحميمية في عيون الرفيقات وابتسامة المارون في شوارع طرابلس متجاوزين كل ما قد تحدثه الزخات من ازمات تعيق التنقل والمسير لازال للمطر قدرته المتفردة لاخراج الطفولة من داخل صناديق الرجال المسنين وملامح السيدات الوقورات اللاتي ترك العمر على تفاصيلهن اثره المحبب
لازال يفعلها
وحده الصبي الذي كان يقف تحت مظلة المخبز في نهاية شارع النصر كان خائفا يداري خوفه بملابسه ويخفي وجهه في غطاء معطفه ويتحين الفرصة للعبور للناحية الاخرى مسيطرا عليه القلق حاملا باحدى يديه كيس الخبز وباليد الاخرى خبأ هاتفه في جيب معطفه
تنتظرة سيارة هونداي بيضاء لتقله بعد لحظات جاء صوته المشحون وهو يرد على اتصال
:امي مانقدرش نطلع نقالي بينبل وبتعيطوا عليا كان حوايجي انبلوا
ظل الصبي عالق في مكانه واستمر المطر في تساقطه الجميل ومضى كثيرون بكل سعادة وسط الطرقات وجوههم والمطر في همس وملامسة يرسلون اسرارهم معه ويفرغون اهاتهم مع سحب البخار الضبابية ويعدهم هو ان يعود كل شتاء وان طال انتظاره.