ثقافة

أسمعني يا منحوس جزءٌ من رواية (إيشي) للروائية الليبية عائشة الأصفر

ذات‭ ‬ليلة؛‭ ‬برقت‭ ‬عواصفها‭ ‬الحمراء‭ ‬في‭ ‬عينيه؛‭ ‬أغلق‭ “‬جدي‭” ‬النوافذ‭ ‬والأبواب،‭ ‬خفتُ،‭ ‬صرت‭ ‬أجري‭ ‬وأستغيث؛‭ ‬اكتشفت‭ ‬أني‭ ‬مصاب‭ ‬برهاب‭ ‬الاحتجاز؛‭ ‬حاولت‭ ‬الهرب،‭ ‬قبض‭ ‬على‭ ‬عنقي‭ ‬وهمس‭ ‬في‭ ‬وجهي‭: (‬عليك‭ ‬سماع‭ ‬الحقيقة؛‭ ‬نلد‭ ‬أبناءنا‭ ‬كبارا؛‭ ‬والديّك‭ ‬مذ‭ ‬يفقس‭ ‬يرفع‭ ‬عقيرته‭ ‬بالآذان؛‭ ‬علا‭ ‬الزغب‭ ‬شاربك؛‭ ‬ولابد‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬سرك؛‭ ‬أنت‭ ‬ابن‭ ‬أبيك؛‭ ‬لكن‭ ‬القصة‭ ‬كبيرة‭ ‬يا‭ “‬معتوه‭”!).‬

عندما‭ ‬رفع‭ ‬كمّه‭ ‬لتجد‭ ‬يده‭ ‬وأصابعه‭ ‬الكبيرة‭ ‬فرصتها‭ ‬في‭ ‬التعبير،‭ ‬وزاد‭ ‬وجهه‭ ‬اقترابا‭ ‬من‭ ‬وجهي،‭ ‬حتى‭ ‬كنسه‭ ‬بحاجبيه،‭ ‬وتنهد‭ ‬فيّ‭ ‬قرقرة‭ ‬هوائية‭ ‬طويلة،‭ ‬عرفتُ‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬مثير‭! ‬

ــ‭ ‬اسمعني‭ ‬يا‭ ‬منحوس‭ ‬ــ‭ ‬قال‭ “‬جدي‭” ‬وزاد‭:‬

بحثنا‭ ‬طويلاً‭ ‬عن‭ “‬والدك‭”‬،‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬العام؟‭! ‬ربما‭ ‬قبل‭ ‬ميلاد‭ ‬أخويك؛‭ ‬أو‭ ‬بعد؛‭ ‬ربما‭ ‬أواخر‭ ‬الستينات‭ ‬أو‭ ‬قبل،‭ ‬ربما‭ ‬السبعينيات؛‭ ‬لكن‭ ‬القاطع‭ ‬هو‭ ‬اختفاء‭ ‬والدك،‭ ‬قِيل‭ ‬خُطف؛‭ ‬فوالدك‭ ‬فتق‭ ‬تاجرا‭ ‬يكبر‭ ‬مع‭ ‬بضاعته؛‭ ‬قيل‭ ‬قد‭ ‬تعرض‭ ‬لقطاع‭ ‬طرق،‭ ‬خُمن‭ ‬قد‭ ‬تطاول‭ ‬على‭ ‬بوابة‭ ‬طلبت‭ ‬رشوة،‭ ‬أُشيع‭ ‬قبل‭ ‬يومين‭ (‬جاب‭ ‬سيرة‭ ‬البَيّ‭ ‬في‭ ‬هدرزة‭ ‬دكانية‭)..‬

كنتُ‭ ‬أطالع‭ ‬شفتي‭ “‬جدي‭” ‬لأستوعب‭ ‬بلا‭ ‬فائدة،‭ ‬وهو‭ ‬يسهب‭: ‬

يتاجر‭ “‬والدك‭” ‬بالمقايضة‭ ‬مع‭ ‬تجار‭ “‬النيجر‭”‬،‭ ‬و‭”‬تشاد‭”‬،‭ ‬يرسل‭ ‬شاحنات‭ ‬السلع‭ ‬التموينية‭ ‬المدعومة،‭ ‬يشتريها‭ ‬بثمن‭ ‬زهيد‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬باسم‭ ‬جمعية‭ ‬استهلاكية‭ ‬وهمية،‭ ‬تحمل‭ ‬الزيت‭ ‬والدقيق‭ ‬والسكر،‭ ‬لتعود‭ ‬بأعواد‭ ‬الطيب‭ ‬والبخور‭ ‬والعطور‭ ‬الأفريقية،‭ ‬التي‭ ‬اجتاحت‭ ‬السوق‭ ‬الليبية،‭ ‬بتزايد‭ ‬طلبها‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬الليبي،‭ ‬خاصة‭ ‬بمدن‭ ‬سبها‭ ‬واجدابياوالكفرة،‭ ‬ذات‭ ‬الخيوط‭ ‬المتصلة‭ ‬بالعائدين‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬الجنوب،‭ ‬خرج‭ “‬والدك‭” ‬ولم‭ ‬يعد،‭ ‬كلما‭ ‬عصف‭ ‬القبلي‭ ‬بوهجه‭ ‬تُذيب‭ ‬الدموع‭ ‬الساخنة‭ ‬عيني‭ “‬جدتك‭” ‬حتى‭ ‬أظلمت،‭ ‬وأكل‭ ‬الحزن‭ ‬ربيع‭ ‬أمك،‮ ‬‭ ‬واستمر‭ ‬الحال‭ ‬على‭ ‬الحال،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬ليل‭! ‬

ذات‭ ‬ريح‭ ‬سوداء‭ ‬خانقة‭ ‬حاصرت‭ ‬أنفاس‭ ‬أمك؛‭ ‬دخل‭ ‬عليها‭ ‬مندفعاً‭ ‬يشدّ‭ ‬بطنه‭ ‬كأنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬احتباس‭ ‬أو‭ ‬إمساك،‭ ‬لم‭ ‬يكلّمها،‭ ‬يلوج‭ ‬ويموج؛‭ ‬يتوجع‭ ‬في‭ ‬وتيرة‭ ‬تطول‭ ‬مع‭ ‬الشهيق‭ ‬لترتخي‭ ‬هنيهة‭ ‬مع‭ ‬زفرة‭ ‬لا‭ ‬تكتمل،‭ ‬أخذ‭ ‬يدور‭ ‬وسط‭ ‬الدار‭ ‬ويتأوه،‭ ‬أشقاها‭ ‬حاله‭ ‬عن‭ ‬الفرح‭ ‬به،‭ ‬أقفلت‭ ‬مخارج‭ ‬البيت‭ ‬وفتحاته‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسمعه‭ ‬الجيران،‭ ‬ثم‭ ‬عزلته‭ ‬بغرفة‭ ‬قصيّة‭ ‬في‭ ‬جزع‭ ‬وذهول،‭ ‬تحاول‭ ‬التماسك‭ ‬وهي‭ ‬تهوّن‭ ‬عليه‭ ‬وتطببه‭ ‬بالأعشاب‭ ‬المهدئة،‭ ‬يتلوى‭ “‬والدك‭” ‬وكأنه‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬مخاض؛‭ ‬يرفع‭ ‬عقيرته‭ ‬ويخفضها‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬طلقة‭ ‬وجع؛‭ ‬هزّته‭ ‬أمك‭ ‬ما‭ ‬الأمر؟‭! ‬لماذا‭ ‬تنوح؟‭! ‬أين‭ ‬كنت؟‭!‬

ـــ‭ (‬وسط‭ ‬ديكة؛؛‭ ‬ديكة‭ ‬شرسة‭”)! ‬لفظها‭ ‬ثم‭ ‬تشنّج‭ ‬وأكل‭ ‬لسانه،‭ ‬أوحت‭ ‬إليه‭ “‬أمك‭” ‬أن‭ ‬ارم‭ ‬وجعك‭ ‬بعيدا،‭ ‬هام‭ ‬أبوك‭ ‬لأيام‭ ‬في‭ ‬الوادي‭ ‬تحت‭ “‬انْخِيلَة‭” ‬حتى‭ ‬تنفس،‭ ‬انزوى‭ ‬بعدها‭ “‬والدك‭” ‬غارقًا‭ ‬في‭ ‬صمته؛‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬طال‭ ‬العهد‭ ‬بما‭ ‬أصابه؛‭ ‬حاول‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬سوقه‭ ‬التجاري‭ ‬الذي‭ ‬أوكله‭ ‬لأحد‭ ‬عملائنا،‭ ‬وإلى‭ ‬حياته‭ ‬الطبيعية؛‭ ‬لكن‭ ‬الإعصار‭ ‬قوي،‭ ‬والقادم‭ ‬كان‭ ‬طوفانا‭! ‬

ـــ‭ ‬أرجوك‭ “‬جدي‭” ‬دعني‭ ‬أخرج‭! ‬صفعني‭ ‬وصاح‭: ‬

ـــ‭ (‬ديك‭ ‬جبان‭.. ‬استمع‭ ‬إلىّ‭):‬

‮  ‬‭ ‬أنت‭ ‬ذاك‭ ‬الكائن‭ ‬المشئوم‭ ‬قرب‭ “‬انخيلة‭”‬،‭ ‬والذي‭ ‬عاد‭ ‬به‭ “‬والدك‭” ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الظهيرة‭ ‬القائظة‭ ‬حيث‭ ‬التهب‭ ‬الوادي‭ ‬وتقيأ‭ ‬جوفه‭! ‬

لن‭ ‬أفضحني‭ ‬لك‭ ‬يا‭ “‬إيشّي‭”! ‬

‮ ‬‭ ‬لن‭ ‬أكون‭ ‬سوى‭ ‬جينة‭ ‬شاذة‭ ‬تسلقت‭ ‬خيبات‭ ‬الحياة،‭ ‬ألا‭ ‬تكفي‭ ‬هذه‭ ‬المقدمة‭ ‬الدميمة‭ ‬لعزلتي؟‭ ‬نعم‭ ‬أنا‭ ‬ديك‭ ‬ومنتوف،‭ ‬وإلا‭ ‬لما‭ ‬استباحني‭ “‬توكة‭”‬،‭ ‬وطردتني‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولم‭ ‬أحظى‭ ‬حتى‭ ‬باسم‭ ‬أو‭ ‬وظيفة‭!‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى