أمل بنود وخيري جبودة..التجربة الذاتية والتفاعل مع اللغة والتاريخ
د. خالد مطاوع

أمل بنود وخيري جبودة
خلال تجميع نصوص أنثولوجية «شمس على نوافذ مغلقة»، جذب انتباهي شاعران فريدان، أمل بنود وخيري جبودة. كان لديهما من الأعمال ما يكفي لإصدار ديوان أول لكل منهما، وكنت أتوق لهذا الحدث الذي اعتقدت حينها أنه قادم قريباً. ولكن، للأسف، لم يحدث هذا، ومع أنني لا أزال متفائلاً بحدوثه، فقد أردت بعد قراءة نصوصهما مجددًا أن أعيد إلقاء الضوء على أعمالهما.
في بنود وجبودة، سيجد القارئ نفسه أمام تجربتين شعريتين مدفوعتين بطموح اكتشاف الذات والطبيعة والتاريخ في مناخ اجتماعي وسياسي ينفر الانفراد ونقد الذات والتأمل، وبأدوات شعرية متينة يقودها موقف شعري متوازن يمزج بين الدهشة والتأمل والمفارقة وسرعة البديهة، تحصنها من اليأس الذي يغلف محيطهما.
أمل بنود
أمل بنود، بالنسبة لي، صوت شعري تبدو جرأته مغمورة بالهدوء، لكنه لا يتهاون في رؤيته ونقده. تمزج بنود في نصوصها بين الصياغة الشعرية الحميمية والفكاهة الذكية والنقد الاجتماعي والسياسي، وتمثل في مجملها انعكاساً لصراع الذات مع المجتمع والتاريخ. وهي، بينما تسبر أغوار الشخصية الإنسانية من جهة، تقدم أيضاً رؤية نقدية لما يدور حولها من أحداث اجتماعية وسياسية. قصائدها تظهر قدرتها على توظيف اللغة بأسلوب مرن يجمع بين الرمزية والواقعية، ويتيح للقارئ الانغماس في مستويات متعددة من المعنى.
تظهر قدرة الشاعرة على التعبير عن الحميمية والحنين الشخصي في نصوص مثل قصيدة «نتناول البوظة». هنا تعبر الشاعرة عن رغبتها في العودة إلى الطفولة والأمان الأسري، حيث تقول:
«أن تكون أبي..
أي أن تعود فرحتي اليتيمة،
أي أن تعود اليد الوطن»،
ليظهر هنا المزج بين البعد الشخصي والرمزي، إذ يمثل الأب رمز الحماية والأمان، في حين تعكس الطفولة البراءة المفقودة والحنين إلى الماضي. كما يظهر النص قدرتها على تصوير المشاعر بدقة شديدة من خلال تفاصيل بسيطة مثل شراء البوظة، مما يجعل القارئ يشارك الشاعرة شعورها العميق بالألفة والفرح الصغير.
وفي المقابل، تكشف الشاعرة عن مهارتها في الفكاهة وسرعة الخاطر، والتي تستخدمها لانتقاد الواقع الاجتماعي بأسلوب مرح وساخر. ففي نص «كمنجات قديمة»، تقدم وصفاً ساخراً للرجال والمجتمع، قائلة:
«نساؤنا كمنجات قديمة،
ورجالنا لا يجيدون العزف على الكمنجات»،
وهو تصوير ذكي يسلط الضوء على القصور الاجتماعي بطريقة غير مباشرة، معتمداً على تشبيه مبتكر يجمع بين الموسيقى والمرأة والمجتمع. هنا يظهر الطابع الفكاهي الساخر الذي يخفف من وطأة النقد، ويجعل القارئ يلتفت إلى الرسالة دون الشعور بالمباشرة المؤلمة.
تتناول بنود أيضاً الأبعاد السياسية والاجتماعية وتأثير الأحداث الكبرى على الفرد والمجتمع. ففي قصيدة «ثلاثينية الحلم»، تقدم الشاعرة صورة مأساوية لوضع الحرب والدمار:
«من ذهبوا إلى الحرب لم يعودوا،
ومن لم يذهبوا رجالاً في عيوننا لم يعودوا».
من خلال هذه الكلمات، تصور بنود أثر الحروب على المجتمع الليبي، وتأثيرها العميق على الأفراد والأسر. يستخدم النص صورًا مكثفة تجمع بين الألم والفقد، لتبرز مأساة الواقع الذي تعيشه الشخصيات، ما يعكس وعيها النقدي بالواقع السياسي والاجتماعي المحيط بها.
كما تمزج أمل بنود في شعرها بين التجربة اليومية والتأمل في الزمن والذاكرة. ففي نص «المِرآة الجانبية»، تستخدم الشاعرة الوصف التفصيلي للمكان والأشياء لتعكس شعورها بالحنين والفراغ:
«فناجين القهوة مكومة فوق بعضها البعض في حوض الغسيل،
قطعة توست محمرة يابسة على طاولة الأكل،
كوب عصير برتقال نصف فارغ بجانب قطعة التوست.»
من خلال هذا التفصيل الدقيق، توصل بنود فكرة أن الحميمية اليومية مرتبطة بالذاكرة، وأن الأشياء الصغيرة يمكن أن تحمل معانٍ كبيرة عن الذات والمدينة والحياة اليومية، وهو ما يبرز الجانب الانعكاسي العميق في شعرها. وفي قصيدة «أرفعك وأسكب وأحتسي» نجد نموذجاً يعكس قدرة الشاعرة على التعبير عن الجانب الحسي والتجربة العاطفية للشخصية الأنثوية، مع الحفاظ على لغة شعرية راقية تجمع بين الجسد والعاطفة، مما يجعل النصوص متعددة الطبقات، تجمع بين التجربة الشخصية والعمق الفلسفي.
في المجمل، يمكن القول إن شعر أمل بنود يتسم بتعدد الأبعاد، فهو شعر شخصي يعكس التجربة الإنسانية، وفكاهي ساخر، ونقدي سياسي واجتماعي، وحسي عاطفي. من خلال هذا المزيج، استطاعت الشاعرة أن تخلق نصوصاً غنية بالمعاني، قادرة على استثارة العقل والمشاعر في آنٍ واحد، مما يجعلها واحدة من أهم الأصوات الشعرية النسائية في المشهد العربي المعاصر.
خيري جبودة
في قصائد خيري جبودة، تتجلى تجربة طازجة تتلاقى فيها الحيرة الوجودية مع حالة دائمة من الاندهاش أمام العالم والذات. يتحول الإنسان هنا إلى كائن يبحر بين الفراغ والمعنى، بين الفعل والتأمل، وبين الطبيعة واللغة، بحثاً عن فهم الذات ومكانها في الكون.
في قصيدة «نبع»، تتجلى الحيرة الوجودية منذ السطر الأول:
«هناك
قرب شيء لم يشيأ
قرب حانة لم يشرب أحدٌ
قرب طائر لم يفرد
قرب ميت حي
ابحث
لن تجد شيئاً
لك لتحفر بقلبك
ولترشي موتك بجنونك»
هذه الصورة الشعرية تؤكد أن البحث عن المعنى ليس مهمة سهلة، فالوجود نفسه يظهر في شكل أشياء قريبة لكنها لا تمنح الجواب، فيترك الإنسان حائراً أمام فراغ الحياة. هنا تصبح الحيرة تجربة شعورية لا مجرد فكرة فلسفية؛ فالإنسان مضطر إلى الحفر في قلبه ومزج الجنون بالموت كطريقة لفهم واقعه. النبرة التي تتخلل النص تحمل شعوراً مستمراً بالاندهاش أمام «المحيط الفارغ» الذي يحيط بالإنسان، وكأن كل ما هو موجود لا يكفي لملء الفراغ الداخلي.
قصيدة «المطر الخفيف» تعكس اندهاشاً من نوع آخر: الطبيعة ليست مجرد خلفية، بل فضاء للحرية والتحرر، ومجالاً لتجربة اللغة ككائن حي:
«المطر الخفيف .. هو الخلفية التي يحاول فيها الوجود التحرر من لعنة الكينونة
المطر الخفيف .. ثقب أبيض لتحرر لغاتنا من يد الزمن»
هنا يظهر المطر كرمز لانفتاح الإنسان على العالم وإدراكه للكون بطريقة لا يمكن السيطرة عليها. الاندهاش هنا ليس نتيجة معرفة مرسخة أو فهم قديم، بل نتيجة التفاعل مع اللحظة الطبيعية والوجودية، حيث يصبح المطر نافذة على عالم تتجاوز فيه اللغة والزمان حدودهما. إن الإنسان في هذه القصيدة يبدو أمام «ثقب أبيض» من الإمكانيات، محاولاً الإمساك بلحظة تحرره، ولكنه يظل مذهولاً أمام اتساع الكون.
قصيدة «المتاهة» تطرح الحيرة الوجودية بصورة فلسفية أكثر وضوحاً:
«في اللون الذي لم نكتشفه بعد
بين ضدينا المبجلين
في الطريق الثالثة
التي تسقيها الأمطار ويموهها العشب»
«أيتها الكلمات التائهة
مات نيرون .. وتضحك أسوارك الهمجية يا روما»
العالم هنا متاهة مزدوجة: متاهة خارجية تتشكل من الطبيعة والمدينة، ومتاهة داخلية تتشكل من اللغة والفكر. الإنسان متحير بين محاولة فهم الواقع وارتباطه بالرموز والتاريخ، في حالة مستمرة من الاندهاش أمام «ألوان لم نكتشفها بعد» و»كلمات تائهة». هنا، الحيرة ليست مجرد تساؤل، بل تجربة شعورية كاملة تغمر كل حواس الإنسان، حيث تتحرك الطبيعة والتاريخ واللغة في بوتقة واحدة من الدهشة والبحث.
أما قصيدة «هل نحن أسماك تفكر أنها صقور» فهي تعكس الانزعاج والدهشة من الذات والعالم في آن واحد:
«هل كان الإنسان نملة تفكر أنها أسد
أم سمكة تفكر أنها صقر؟
لست أدري
ولكنني أتحسس طرقات الحدادين في بصري»
التساؤل عن طبيعة الإنسان، ومقارنته بالمخلوقات الأخرى، يفتح نافذة على الإحساس بالضياع أمام الغموض الكوني. هنا، الحيرة تتجاوز حدود العقل لتصبح شعوراً جسدياً ونفسياً، حيث يواجه الإنسان عدم اليقين واللا معنى، ويتساءل عن موقعه بين الكائنات والوجود.
في هذه القصائد يتحرك القارئ مع الشاعر بين الدهشة أمام الطبيعة، الاضطراب أمام الذات، والحيرة أمام التاريخ واللغة. الطبيعة تتفاعل مع التجربة الإنسانية، والمكان يصبح محملاً بالغموض. الطقس، المطر، الطريق، والألوان كلها عناصر تستدعي التأمل، وتفتح الباب أمام وعي لحظي ممتلئ بالدهشة. في النهاية، ينجح الشاعر في تقديم الشعر كرحلة وجودية مفتوحة على الفضول والبحث الدائم، والانبهار أمام عظمة الوجود وفراغه في آن واحد.
خاتمة
نصوص أمل بنود وخيري جبودة تظهر أن تجربتهما الشعرية تتسم بالانفتاح على أكثر من بعد: تجربة ذاتية، تأمل في الطبيعة، وتفاعل مع اللغة والتاريخ. النصوص لا تقتصر على سرد الأحداث أو الصور، بل تحاول خلق مساحة للتفكير، والوعي اللحظي لدى القارئ. كما تتراوح بين قصائدهما مستويات متعددة من المعنى، من الفكاهي إلى النقدي والاجتماعي، ومن الحسي إلى العاطفي، ما يجعل القارئ يتنقل بين الانطباع اللحظي والتأمل العميق. هذا التنوع يعكس أسلوباً شعرياً مرناً، يعتمد على المزج بين عناصر متعددة دون الانحياز إلى شكل أو اتجاه محدد.
مسيرتا أمل بنود وخيري جبودة الشعريتان، اللتان تعثرتا حتى الآن، يجب أن تُبهجانا بقدر ما تُقلقاننا: فهما يُمثلان حساسية شعرية خصبة وحيوية، تُولي اهتماماً بالغاً لصراعاتنا الاجتماعية والسياسية والفلسفية، بل وحتى النفسية، في اللحظة الراهنة التي نعيشها في بلدنا. إن وجود هؤلاء الشعراء مدعاة للاحتفال، أما بقاء أعمالهما بعيدة المنال فهو خسارة حقيقية علينا تداركها.



