ثقافة

أمل‭ ‬بنود‭ ‬وخيري‭ ‬جبودة..التجربة‭ ‬الذاتية‭ ‬والتفاعل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬والتاريخ

د‭. ‬خالد‭ ‬مطاوع

أمل‭ ‬بنود‭ ‬وخيري‭ ‬جبودة

خلال‭ ‬تجميع‭ ‬نصوص‭ ‬أنثولوجية‭ ‬‮«‬شمس‭ ‬على‭ ‬نوافذ‭ ‬مغلقة‮»‬،‭ ‬جذب‭ ‬انتباهي‭ ‬شاعران‭ ‬فريدان،‭ ‬أمل‭ ‬بنود‭ ‬وخيري‭ ‬جبودة‭. ‬كان‭ ‬لديهما‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لإصدار‭ ‬ديوان‭ ‬أول‭ ‬لكل‭ ‬منهما،‭ ‬وكنت‭ ‬أتوق‭ ‬لهذا‭ ‬الحدث‭ ‬الذي‭ ‬اعتقدت‭ ‬حينها‭ ‬أنه‭ ‬قادم‭ ‬قريباً‭. ‬ولكن،‭ ‬للأسف،‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬هذا،‭ ‬ومع‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬متفائلاً‭ ‬بحدوثه،‭ ‬فقد‭ ‬أردت‭ ‬بعد‭ ‬قراءة‭ ‬نصوصهما‭ ‬مجددًا‭ ‬أن‭ ‬أعيد‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أعمالهما‭.‬

في‭ ‬بنود‭ ‬وجبودة،‭ ‬سيجد‭ ‬القارئ‭ ‬نفسه‭ ‬أمام‭ ‬تجربتين‭ ‬شعريتين‭ ‬مدفوعتين‭ ‬بطموح‭ ‬اكتشاف‭ ‬الذات‭ ‬والطبيعة‭ ‬والتاريخ‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬اجتماعي‭ ‬وسياسي‭ ‬ينفر‭ ‬الانفراد‭ ‬ونقد‭ ‬الذات‭ ‬والتأمل،‭ ‬وبأدوات‭ ‬شعرية‭ ‬متينة‭ ‬يقودها‭ ‬موقف‭ ‬شعري‭ ‬متوازن‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬الدهشة‭ ‬والتأمل‭ ‬والمفارقة‭ ‬وسرعة‭ ‬البديهة،‭ ‬تحصنها‭ ‬من‭ ‬اليأس‭ ‬الذي‭ ‬يغلف‭ ‬محيطهما‭.‬

أمل‭ ‬بنود

أمل‭ ‬بنود،‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬صوت‭ ‬شعري‭ ‬تبدو‭ ‬جرأته‭ ‬مغمورة‭ ‬بالهدوء،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يتهاون‭ ‬في‭ ‬رؤيته‭ ‬ونقده‭. ‬تمزج‭ ‬بنود‭ ‬في‭ ‬نصوصها‭ ‬بين‭ ‬الصياغة‭ ‬الشعرية‭ ‬الحميمية‭ ‬والفكاهة‭ ‬الذكية‭ ‬والنقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬وتمثل‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬انعكاساً‭ ‬لصراع‭ ‬الذات‭ ‬مع‭ ‬المجتمع‭ ‬والتاريخ‭. ‬وهي،‭ ‬بينما‭ ‬تسبر‭ ‬أغوار‭ ‬الشخصية‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬تقدم‭ ‬أيضاً‭ ‬رؤية‭ ‬نقدية‭ ‬لما‭ ‬يدور‭ ‬حولها‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭. ‬قصائدها‭ ‬تظهر‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬اللغة‭ ‬بأسلوب‭ ‬مرن‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الرمزية‭ ‬والواقعية،‭ ‬ويتيح‭ ‬للقارئ‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬مستويات‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬المعنى‭.‬

تظهر‭ ‬قدرة‭ ‬الشاعرة‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الحميمية‭ ‬والحنين‭ ‬الشخصي‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬مثل‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬نتناول‭ ‬البوظة‮»‬‭. ‬هنا‭ ‬تعبر‭ ‬الشاعرة‭ ‬عن‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الطفولة‭ ‬والأمان‭ ‬الأسري،‭ ‬حيث‭ ‬تقول‭:‬

‮«‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أبي‭..‬

أي‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬فرحتي‭ ‬اليتيمة،

أي‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬اليد‭ ‬الوطن‮»‬،

ليظهر‭ ‬هنا‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬البعد‭ ‬الشخصي‭ ‬والرمزي،‭ ‬إذ‭ ‬يمثل‭ ‬الأب‭ ‬رمز‭ ‬الحماية‭ ‬والأمان،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تعكس‭ ‬الطفولة‭ ‬البراءة‭ ‬المفقودة‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭. ‬كما‭ ‬يظهر‭ ‬النص‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تصوير‭ ‬المشاعر‭ ‬بدقة‭ ‬شديدة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تفاصيل‭ ‬بسيطة‭ ‬مثل‭ ‬شراء‭ ‬البوظة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يشارك‭ ‬الشاعرة‭ ‬شعورها‭ ‬العميق‭ ‬بالألفة‭ ‬والفرح‭ ‬الصغير‭.‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬تكشف‭ ‬الشاعرة‭ ‬عن‭ ‬مهارتها‭ ‬في‭ ‬الفكاهة‭ ‬وسرعة‭ ‬الخاطر،‭ ‬والتي‭ ‬تستخدمها‭ ‬لانتقاد‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بأسلوب‭ ‬مرح‭ ‬وساخر‭. ‬ففي‭ ‬نص‭ ‬‮«‬كمنجات‭ ‬قديمة‮»‬،‭ ‬تقدم‭ ‬وصفاً‭ ‬ساخراً‭ ‬للرجال‭ ‬والمجتمع،‭ ‬قائلة‭:‬

‮«‬نساؤنا‭ ‬كمنجات‭ ‬قديمة،

ورجالنا‭ ‬لا‭ ‬يجيدون‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬الكمنجات‮»‬،

وهو‭ ‬تصوير‭ ‬ذكي‭ ‬يسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬القصور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة،‭ ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬تشبيه‭ ‬مبتكر‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الموسيقى‭ ‬والمرأة‭ ‬والمجتمع‭. ‬هنا‭ ‬يظهر‭ ‬الطابع‭ ‬الفكاهي‭ ‬الساخر‭ ‬الذي‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬وطأة‭ ‬النقد،‭ ‬ويجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يلتفت‭ ‬إلى‭ ‬الرسالة‭ ‬دون‭ ‬الشعور‭ ‬بالمباشرة‭ ‬المؤلمة‭.‬

تتناول‭ ‬بنود‭ ‬أيضاً‭ ‬الأبعاد‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬وتأثير‭ ‬الأحداث‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭. ‬ففي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬ثلاثينية‭ ‬الحلم‮»‬،‭ ‬تقدم‭ ‬الشاعرة‭ ‬صورة‭ ‬مأساوية‭ ‬لوضع‭ ‬الحرب‭ ‬والدمار‭:‬

‮«‬من‭ ‬ذهبوا‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬لم‭ ‬يعودوا،

ومن‭ ‬لم‭ ‬يذهبوا‭ ‬رجالاً‭ ‬في‭ ‬عيوننا‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‮»‬‭.‬

من‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات،‭ ‬تصور‭ ‬بنود‭ ‬أثر‭ ‬الحروب‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الليبي،‭ ‬وتأثيرها‭ ‬العميق‭ ‬على‭ ‬الأفراد‭ ‬والأسر‭. ‬يستخدم‭ ‬النص‭ ‬صورًا‭ ‬مكثفة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الألم‭ ‬والفقد،‭ ‬لتبرز‭ ‬مأساة‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬الشخصيات،‭ ‬ما‭ ‬يعكس‭ ‬وعيها‭ ‬النقدي‭ ‬بالواقع‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬المحيط‭ ‬بها‭.‬

كما‭ ‬تمزج‭ ‬أمل‭ ‬بنود‭ ‬في‭ ‬شعرها‭ ‬بين‭ ‬التجربة‭ ‬اليومية‭ ‬والتأمل‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬والذاكرة‭. ‬ففي‭ ‬نص‭ ‬‮«‬المِرآة‭ ‬الجانبية‮»‬،‭ ‬تستخدم‭ ‬الشاعرة‭ ‬الوصف‭ ‬التفصيلي‭ ‬للمكان‭ ‬والأشياء‭ ‬لتعكس‭ ‬شعورها‭ ‬بالحنين‭ ‬والفراغ‭:‬

‮«‬فناجين‭ ‬القهوة‭ ‬مكومة‭ ‬فوق‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬الغسيل،

قطعة‭ ‬توست‭ ‬محمرة‭ ‬يابسة‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬الأكل،

كوب‭ ‬عصير‭ ‬برتقال‭ ‬نصف‭ ‬فارغ‭ ‬بجانب‭ ‬قطعة‭ ‬التوست‭.‬‮»‬

من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التفصيل‭ ‬الدقيق،‭ ‬توصل‭ ‬بنود‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الحميمية‭ ‬اليومية‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالذاكرة،‭ ‬وأن‭ ‬الأشياء‭ ‬الصغيرة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحمل‭ ‬معانٍ‭ ‬كبيرة‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬والمدينة‭ ‬والحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يبرز‭ ‬الجانب‭ ‬الانعكاسي‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬شعرها‭. ‬وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أرفعك‭ ‬وأسكب‭ ‬وأحتسي‮»‬‭ ‬نجد‭ ‬نموذجاً‭ ‬يعكس‭ ‬قدرة‭ ‬الشاعرة‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الجانب‭ ‬الحسي‭ ‬والتجربة‭ ‬العاطفية‭ ‬للشخصية‭ ‬الأنثوية،‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬لغة‭ ‬شعرية‭ ‬راقية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الجسد‭ ‬والعاطفة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬النصوص‭ ‬متعددة‭ ‬الطبقات،‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التجربة‭ ‬الشخصية‭ ‬والعمق‭ ‬الفلسفي‭.‬

في‭ ‬المجمل،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬شعر‭ ‬أمل‭ ‬بنود‭ ‬يتسم‭ ‬بتعدد‭ ‬الأبعاد،‭ ‬فهو‭ ‬شعر‭ ‬شخصي‭ ‬يعكس‭ ‬التجربة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وفكاهي‭ ‬ساخر،‭ ‬ونقدي‭ ‬سياسي‭ ‬واجتماعي،‭ ‬وحسي‭ ‬عاطفي‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المزيج،‭ ‬استطاعت‭ ‬الشاعرة‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬نصوصاً‭ ‬غنية‭ ‬بالمعاني،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استثارة‭ ‬العقل‭ ‬والمشاعر‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬واحد،‭ ‬مما‭ ‬يجعلها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الأصوات‭ ‬الشعرية‭ ‬النسائية‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭.‬

خيري‭ ‬جبودة

في‭ ‬قصائد‭ ‬خيري‭ ‬جبودة،‭ ‬تتجلى‭ ‬تجربة‭ ‬طازجة‭ ‬تتلاقى‭ ‬فيها‭ ‬الحيرة‭ ‬الوجودية‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬دائمة‭ ‬من‭ ‬الاندهاش‭ ‬أمام‭ ‬العالم‭ ‬والذات‭. ‬يتحول‭ ‬الإنسان‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬يبحر‭ ‬بين‭ ‬الفراغ‭ ‬والمعنى،‭ ‬بين‭ ‬الفعل‭ ‬والتأمل،‭ ‬وبين‭ ‬الطبيعة‭ ‬واللغة،‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬الذات‭ ‬ومكانها‭ ‬في‭ ‬الكون‭.‬

في‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬نبع‮»‬،‭ ‬تتجلى‭ ‬الحيرة‭ ‬الوجودية‭ ‬منذ‭ ‬السطر‭ ‬الأول‭:‬

‮«‬هناك

قرب‭ ‬شيء‭ ‬لم‭ ‬يشيأ

قرب‭ ‬حانة‭ ‬لم‭ ‬يشرب‭ ‬أحدٌ

قرب‭ ‬طائر‭ ‬لم‭ ‬يفرد

قرب‭ ‬ميت‭ ‬حي

ابحث

لن‭ ‬تجد‭ ‬شيئاً

لك‭ ‬لتحفر‭ ‬بقلبك

ولترشي‭ ‬موتك‭ ‬بجنونك‮»‬

هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬ليس‭ ‬مهمة‭ ‬سهلة،‭ ‬فالوجود‭ ‬نفسه‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬أشياء‭ ‬قريبة‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تمنح‭ ‬الجواب،‭ ‬فيترك‭ ‬الإنسان‭ ‬حائراً‭ ‬أمام‭ ‬فراغ‭ ‬الحياة‭. ‬هنا‭ ‬تصبح‭ ‬الحيرة‭ ‬تجربة‭ ‬شعورية‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬فكرة‭ ‬فلسفية؛‭ ‬فالإنسان‭ ‬مضطر‭ ‬إلى‭ ‬الحفر‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬ومزج‭ ‬الجنون‭ ‬بالموت‭ ‬كطريقة‭ ‬لفهم‭ ‬واقعه‭. ‬النبرة‭ ‬التي‭ ‬تتخلل‭ ‬النص‭ ‬تحمل‭ ‬شعوراً‭ ‬مستمراً‭ ‬بالاندهاش‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬المحيط‭ ‬الفارغ‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يحيط‭ ‬بالإنسان،‭ ‬وكأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لملء‭ ‬الفراغ‭ ‬الداخلي‭.‬

قصيدة‭ ‬‮«‬المطر‭ ‬الخفيف‮»‬‭ ‬تعكس‭ ‬اندهاشاً‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭: ‬الطبيعة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬خلفية،‭ ‬بل‭ ‬فضاء‭ ‬للحرية‭ ‬والتحرر،‭ ‬ومجالاً‭ ‬لتجربة‭ ‬اللغة‭ ‬ككائن‭ ‬حي‭:‬

‮«‬المطر‭ ‬الخفيف‭ .. ‬هو‭ ‬الخلفية‭ ‬التي‭ ‬يحاول‭ ‬فيها‭ ‬الوجود‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬لعنة‭ ‬الكينونة

المطر‭ ‬الخفيف‭ .. ‬ثقب‭ ‬أبيض‭ ‬لتحرر‭ ‬لغاتنا‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬الزمن‮»‬

هنا‭ ‬يظهر‭ ‬المطر‭ ‬كرمز‭ ‬لانفتاح‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وإدراكه‭ ‬للكون‭ ‬بطريقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭. ‬الاندهاش‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬نتيجة‭ ‬معرفة‭ ‬مرسخة‭ ‬أو‭ ‬فهم‭ ‬قديم،‭ ‬بل‭ ‬نتيجة‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬اللحظة‭ ‬الطبيعية‭ ‬والوجودية،‭ ‬حيث‭ ‬يصبح‭ ‬المطر‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬تتجاوز‭ ‬فيه‭ ‬اللغة‭ ‬والزمان‭ ‬حدودهما‭. ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬يبدو‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬ثقب‭ ‬أبيض‮»‬‭ ‬من‭ ‬الإمكانيات،‭ ‬محاولاً‭ ‬الإمساك‭ ‬بلحظة‭ ‬تحرره،‭ ‬ولكنه‭ ‬يظل‭ ‬مذهولاً‭ ‬أمام‭ ‬اتساع‭ ‬الكون‭.‬

قصيدة‭ ‬‮«‬المتاهة‮»‬‭ ‬تطرح‭ ‬الحيرة‭ ‬الوجودية‭ ‬بصورة‭ ‬فلسفية‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحاً‭:‬

‮«‬في‭ ‬اللون‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نكتشفه‭ ‬بعد

بين‭ ‬ضدينا‭ ‬المبجلين

في‭ ‬الطريق‭ ‬الثالثة

التي‭ ‬تسقيها‭ ‬الأمطار‭ ‬ويموهها‭ ‬العشب‮»‬

‮«‬أيتها‭ ‬الكلمات‭ ‬التائهة

مات‭ ‬نيرون‭ .. ‬وتضحك‭ ‬أسوارك‭ ‬الهمجية‭ ‬يا‭ ‬روما‮»‬

العالم‭ ‬هنا‭ ‬متاهة‭ ‬مزدوجة‭: ‬متاهة‭ ‬خارجية‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬الطبيعة‭ ‬والمدينة،‭ ‬ومتاهة‭ ‬داخلية‭ ‬تتشكل‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬والفكر‭. ‬الإنسان‭ ‬متحير‭ ‬بين‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬وارتباطه‭ ‬بالرموز‭ ‬والتاريخ،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬مستمرة‭ ‬من‭ ‬الاندهاش‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬ألوان‭ ‬لم‭ ‬نكتشفها‭ ‬بعد‮»‬‭ ‬و»كلمات‭ ‬تائهة‮»‬‭. ‬هنا،‭ ‬الحيرة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬تساؤل،‭ ‬بل‭ ‬تجربة‭ ‬شعورية‭ ‬كاملة‭ ‬تغمر‭ ‬كل‭ ‬حواس‭ ‬الإنسان،‭ ‬حيث‭ ‬تتحرك‭ ‬الطبيعة‭ ‬والتاريخ‭ ‬واللغة‭ ‬في‭ ‬بوتقة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الدهشة‭ ‬والبحث‭.‬

أما‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬هل‭ ‬نحن‭ ‬أسماك‭ ‬تفكر‭ ‬أنها‭ ‬صقور‮»‬‭ ‬فهي‭ ‬تعكس‭ ‬الانزعاج‭ ‬والدهشة‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬والعالم‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭:‬

‮«‬هل‭ ‬كان‭ ‬الإنسان‭ ‬نملة‭ ‬تفكر‭ ‬أنها‭ ‬أسد

أم‭ ‬سمكة‭ ‬تفكر‭ ‬أنها‭ ‬صقر؟

لست‭ ‬أدري

ولكنني‭ ‬أتحسس‭ ‬طرقات‭ ‬الحدادين‭ ‬في‭ ‬بصري‮»‬

التساؤل‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومقارنته‭ ‬بالمخلوقات‭ ‬الأخرى،‭ ‬يفتح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬الإحساس‭ ‬بالضياع‭ ‬أمام‭ ‬الغموض‭ ‬الكوني‭. ‬هنا،‭ ‬الحيرة‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬العقل‭ ‬لتصبح‭ ‬شعوراً‭ ‬جسدياً‭ ‬ونفسياً،‭ ‬حيث‭ ‬يواجه‭ ‬الإنسان‭ ‬عدم‭ ‬اليقين‭ ‬واللا‭ ‬معنى،‭ ‬ويتساءل‭ ‬عن‭ ‬موقعه‭ ‬بين‭ ‬الكائنات‭ ‬والوجود‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬يتحرك‭ ‬القارئ‭ ‬مع‭ ‬الشاعر‭ ‬بين‭ ‬الدهشة‭ ‬أمام‭ ‬الطبيعة،‭ ‬الاضطراب‭ ‬أمام‭ ‬الذات،‭ ‬والحيرة‭ ‬أمام‭ ‬التاريخ‭ ‬واللغة‭. ‬الطبيعة‭ ‬تتفاعل‭ ‬مع‭ ‬التجربة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والمكان‭ ‬يصبح‭ ‬محملاً‭ ‬بالغموض‭. ‬الطقس،‭ ‬المطر،‭ ‬الطريق،‭ ‬والألوان‭ ‬كلها‭ ‬عناصر‭ ‬تستدعي‭ ‬التأمل،‭ ‬وتفتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬وعي‭ ‬لحظي‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالدهشة‭. ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬ينجح‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الشعر‭ ‬كرحلة‭ ‬وجودية‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬الفضول‭ ‬والبحث‭ ‬الدائم،‭ ‬والانبهار‭ ‬أمام‭ ‬عظمة‭ ‬الوجود‭ ‬وفراغه‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭.‬

خاتمة

نصوص‭ ‬أمل‭ ‬بنود‭ ‬وخيري‭ ‬جبودة‭ ‬تظهر‭ ‬أن‭ ‬تجربتهما‭ ‬الشعرية‭ ‬تتسم‭ ‬بالانفتاح‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بعد‭: ‬تجربة‭ ‬ذاتية،‭ ‬تأمل‭ ‬في‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وتفاعل‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬والتاريخ‭. ‬النصوص‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬سرد‭ ‬الأحداث‭ ‬أو‭ ‬الصور،‭ ‬بل‭ ‬تحاول‭ ‬خلق‭ ‬مساحة‭ ‬للتفكير،‭ ‬والوعي‭ ‬اللحظي‭ ‬لدى‭ ‬القارئ‭. ‬كما‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬قصائدهما‭ ‬مستويات‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬المعنى،‭ ‬من‭ ‬الفكاهي‭ ‬إلى‭ ‬النقدي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬ومن‭ ‬الحسي‭ ‬إلى‭ ‬العاطفي،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬القارئ‭ ‬يتنقل‭ ‬بين‭ ‬الانطباع‭ ‬اللحظي‭ ‬والتأمل‭ ‬العميق‭. ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬يعكس‭ ‬أسلوباً‭ ‬شعرياً‭ ‬مرناً،‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬متعددة‭ ‬دون‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬أو‭ ‬اتجاه‭ ‬محدد‭.‬

مسيرتا‭ ‬أمل‭ ‬بنود‭ ‬وخيري‭ ‬جبودة‭ ‬الشعريتان،‭ ‬اللتان‭ ‬تعثرتا‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُبهجانا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تُقلقاننا‭: ‬فهما‭ ‬يُمثلان‭ ‬حساسية‭ ‬شعرية‭ ‬خصبة‭ ‬وحيوية،‭ ‬تُولي‭ ‬اهتماماً‭ ‬بالغاً‭ ‬لصراعاتنا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والفلسفية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬النفسية،‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬في‭ ‬بلدنا‭. ‬إن‭ ‬وجود‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬مدعاة‭ ‬للاحتفال،‭ ‬أما‭ ‬بقاء‭ ‬أعمالهما‭ ‬بعيدة‭ ‬المنال‭ ‬فهو‭ ‬خسارة‭ ‬حقيقية‭ ‬علينا‭ ‬تداركها‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى