أمين مازن يكتب.. أقصى الملك إدريس حكومته العاشرة فصار لابد من إقصائه
تتيح لي العودة إلى مسقط الرأس عندما أقوم بها بين الفترة والفترة فرصة المراجعة على الصعيدين الشخصي والعام، بداية من الخلود إلى مكاني بالبيت الذي تيسر لي بناؤه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حينما اتخذت من الانشغال في ببنائه ستارًا لترك المدينة، مكان إقامتي و عملي، و قد كانت مزدحمة بعديد المصاعب الناتجة عن احتدام معارك المعارضة الوطنية للنظام وما أقدمت عليه السلطة من توجيه الضربات العنيفة لكل من لم يسارع بالتأييد ويزايد بإدانة الخصوم فلم أتمكن من التعايش إلا مع ما أحدثه التدخل في تونس عبر قفصة فكانت الثغرة التي استفادت منها المعارضة التونسية ومثلها الليبية بما جنب الوطنيين الليبيين المقيمين ونظراءهم الليبيين المهاجرين التلاسن بين الذين اتخذوا من تونس وتعكر العلاقات بين النظامين فرصتهم للتنديد بما يجري في ليبيا و المقيمين الذين اكتفوا بإعادة عرض ما تحفل به المكتبة العربية من كتابات الناشطين التونسيين وهي منسوبة إليهم فكانت فرصة بناء البيت و نقل الأثاث وشيء من المراجع المكتوبة التي يمكن الرجوع إليها كلما وجب الحلول هناك، فتستدعي الأرائك وجوه الأعزاء الذين طالما انتعشت الذاكرة الغنية بمواقفهم المشرفة و مساهماتهم الجادة و ما كان يتوفر عليه جميعهم أو بعضهم من الانشغال بما كان يتهدد البلد من سيء المصائر و ما يشهدونه من عقيم السياسات فلا يجدون الفرصة لإعطاء ما لديهم من المساهمة بالعمل بل لا يضمنون لأنفسهم السلامة من الأذى الرسمي لمجرد أنهم قد حملوا المسؤولية ذات يوم و كانوا ملء السمع و البصر فيما تود السلطة القائمة و في أعلى رموزها لو لم يكن أمثال هؤلاء من الأحياء. و إذ كان أول المراجع التي برزت أمامي لمجرد جلوسي في المكان المعتاد هو المجلد الخامس من السلسلة التاريخية و التي دأب على إنجازها الدكتور محمد المقريف بالفترة التي سبقت فبراير 2011 و تتابعت بعده و كان آخرها الموسوم بالحقبة النفطية و بالتحديد حكومات محمود المنتصر الثانية و وزير خارجيته حسين مازق ثم السيد عبدالقادر البدري و وزير عدل الاثنين عبدالحميد البكوش و التي تعتبر آخر محاولة إصلاحية كان يمكنها انقاذ الكيان مما تهدده من التفسّخ و مسببات الزوال و على رأسها غياب الإحساس بالانتماء بما انتهجته من أنضج السياسات و التي كان يمكنها أن تحقق الكثير لو لم يستسلم الملك إدريس لهواجس سوء الظن فيأمر بإقصاء رئيس الوزراء و استخلاف من لا شك في إخلاصه و راقي خلقه و لكنه دون مستوى المرحلة فمثل وجود الفترة الانتقالية بأتم المعاني فيسّرَ الإجهاز على العهد من أقصر الطرق و أسهلها مصدقاً رؤية البكوش التي سمعتها منه بتلك الصائفة و هو يشبه النظام بحائط الكرتون الذي لا يحتاج إلا المغامر الذي يلقي عليه ضربة واحدة من عصا خشبية ليتهاوى أرضاً، و كان قد أكد لي في حديث سابق أن القواعد لا تحمي و لكنها «تهوّب» كما عبر بلهجتنا الشعبية. لقد جاءت الضربة في ذلك الخريف و حلَّ نظام أدى الدور المطلوب دون أن تأتيه الأوامر و لعقود أربعة إلى أن حان وقت النهاية ضمن زوابع الربيع العربي التي عمت المنطقة و يكون ما أصابنا أسوء من سوانا، فكانت هذه العودة للخلود إلى الركن الذي اعدته لأقرأ و أدوِّن لتقديم ما تيسر لي من آراء بعض الرموز و لاسيما ما يتعلق بدولة الاستقلال و بالذات الذين يعتمدون الوثائق الحاوية آراء السفراء، تلك التي حوت ضمن ما حوت من آراء عدد من الرموز الوطنية في السنوات الأخيرة من عمر النظام الملكي و التي يتأكد منها أن الملك قد أقصى الحكومة العاشرة وسط يأس من ولي عهد اختاره و لم يعد يطيق وجوده و لا الأسرة السنوسية جميعاً و ملكة لا تخفي رفضها لولي العهد و ليس لها سوى شيء من العطف على ابن شقيقها العربي، يقابلها الملك المسن بشيء من الأمل في المهدي الصديق الرضا، و أدلة تؤكد أن لابد من إقصاء العرش بالكامل مادام الصراع بين المتعايشين عليه قد بلغ هذا المستوى من الاستخفاف بالمسؤولية و عدم الحذر مما تنذر به الأيام.