
لئن اختلفتْ التصريحات حول الخسائر التي أحدثها الهجوم الأمريكي الذي استهدف المنشآت العسكرية الإيرانية، لا سيما النووية منها، تلك الواقعة في أعماقٍ عجزتْ عن الوصول إليها قدرات الكيان الصـهيـوني، وما إذا كانت المشاركة الأمريكية قد حققتْ المنتظر منها بشأن فاعلية السلاح النووي الإيراني، على الأقل بتعطيله لعددٍ من السنين، فإن الذي ينبغي أن ينصرف إليه تفكير كل مراقب أياً كان موقفه بصدد المعركة، هو حرص الطرف الأمريكي على عدم قطع المباحثات غير المباشرة التي كانت قد توقفت قبل العمليات العسكرية واستؤنفت بعدها، فمثل هذا السلوك لا يدل إلا على حقيقةٍ واحدةٍ وهي أن الثابت في العلاقات الأمريكية الفارسية هو التواصل وليس القطيعة، وأن هذه الأخيرة وإن حصلت بعض الوقت فإنها أوهن من أن تستمر إلى الأبد، وما ذلك إلا لأن الفُرس مُكوَّن غير عادي من مكونات الشرق الأوسط، له من المساحة الجغرافية ما له، والقوة البشرية التي لا ينكرها سوى قصير النظر، خاصة عقب الحرب العالمية الثانية التي شهدت فيها إيران الكثير من القلاقل ولم يكن الغرب يوماً بمنأى عما كان يجري، ويكفي أن نعود بالذاكرة إلى ذلك المد اليساري الذي استظل بشخصية الزعيم مصدق إلى الحد الذي تم بموجبه تأميم البترول في خمسينيات القرن الماضي وما نتج عنه من أزمةٍ دفعت الشاه إلى ترك عرشه ومكابدة الغربة، ريثما تمت الترتيبات التي أذُنت بعودته إثر ما قام به الجنرال زاهدي في الخصوص، ليس فقط كي يعود الشاه إلى عرشه وممارسة سلوكه الامبراطوري، وإنما ليكون صاحب الدور الأمني في الخليج بصفةٍ عامةٍ، حتى أنه لم يتأخر يوماً عن الدور المطلوب منه حول كل التوجهات، ولا سيما تلك التي اتخذت من الأحلاف المؤيدة للغرب على رأس خياراتها، وكان التنسيق واضحاً بينه وبين تركيا مندريس وإسرائيل بن غوريون والعداء المكشوف لكل التوجهات الوحدوية التي سادت السياسة المصرية بالحقبة الناصرية حتى لقد رأيناه لا يتحرّج في احتلال الجزر الإمارتية، عندما بدأت رياح الاستقلال تنشط في ستينيات القرن الماضي. إنه التوجه الذي حافظ عليه نظام الملالي عندما تمكنوا من إسقاط الشاه وإقامة نظامهم الذي حافظ على نفس التوجهات، فتبين من ذلك كله أن المكون الفارسي له دوره في المنطقة وأن الولايات المتحدة لن تسقطه من الحساب حتى وهي تضطر إلى مهاجمته بالطائرات والقنابل وبالأطنان، وما أحوج العقل السياسي إلى استدعاء هذه الخلفيات مجتمعة عند النظر في أحداث المرحلة ودور المكونات العرقية في أحداثها ومن باب أولى تقييم المصالح الحقيقية وإملاءات التبادل في المواقف وإكراهات التعاون الذي لا مكان فيه للعواطف وإنما الحسابات ولا شيء غير الحسابات، حيث يعرف كلٌ ما ينبغي له أن يعطي ويحق له في النهاية أن يأخذ، ولا سيما في هذه المرحلة التي امتلك القرار الأمريكي إلى حدً كبيرٍ بها ترامب.