
في النصف الثاني من شهر رمضان الفضيل تتوشح الدكاكين في مدينة بنغازي لوناً آخر، وتستقبل الأسواق زواراً غير الذين اعتاد عليهم التجار، لعل أشهر هذه الأسواق وأهمها سوق الجريد وسوق الظلام.
وسط فرحة تكسي الوجوه باستقبال أول أيام عيد الفطر المبارك، لا يخفي على أهل مدينتي، التغيرات التي لحقت بالمجتمع وعاداته وتقاليده، مما أفقد هذه المناسبة إحساسها القديم، كانت الأجواء تسودها مشاعر الحب والاحترام المتبادل فيما بينهم، لكننا نشهد الآن شبه انقطاع للتواصل الاجتماعي، شيء دخيل احزن كل أهل المدينة الطيبون.
كان الاحتفال بعيد الفطر المبارك في البيوت والأزقة والحواري، وكانت الفرحة ظاهرة على الكل، منذ أن يعلن عن رؤية هلال )العيد الصغير( بالرؤيا من أمام المحكمة الشرعية التي تظل تنتظر ذلك الشاهد الذي يحمل النبأ بنهاية شهر رمضان المبارك وإطلالة عيد الفطر السعيد
)العيد الصغير(، ومع أصوات التكبيرات والتهليلات في الصباح الباكر من أول أيام
)العيد الصغير( تدب الفرحة في النفوس، ويبحث كل شخص عن الفرح في هذا اليوم الذي يعلن عن انتهاء شهر رمضان المبارك، ويبتهج الصائم بالإفطار، وأنه أنهى شهرا في العبادات والطاعات، وترتسم السعادة بقدوم العيد على وجوه الصغار والكبار.
يأتي العيد السعيد، وتقام صلاة العيد مبكراً في الساحات والجوامع الكبيرة، ويذهب إليها الناس جماعات مرددين بصوت عالي (الله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، تبدأ التكبيرات ويسترق المصلون النظر لمن يدخل إلى الجامع، وبعد الانتهاء من صلاة العيد يقوم المصلون بتهنئة بعضهم البعض بهذه المناسبة السعيدة، وتتولى النساء إعداد وتجهيز الأكلات والمشروبات والحلويات الخاصة بالعيد قبل قدوم الرجال من الجامع بعد تأدية صلاة العيد، ويرتدي الأطفال الزي الليبي التقليدي، التي اشتراها رب الأسرة ، وعادة ما يكون حريص على أن يرتديها أطفاله في هذه المناسبة، ويتبختر أصحاب الكاط وترفع اليد جبة السكاروتا، وتظهر للعيان الشنة بلونها القرمزي، والفرملة والسورية الليبية القصيرة، والجرود الجديدة التي تنوعت من دكاكين خواجه، وبن غربال وغوقة، وزيو، والفلفال، والكردي، وبالروين، والقصير، والكنيالي.
يتعانق الناس، ويتبادل الرجال والأطفال التهاني والتبريكات بالعيد المبارك، تسيل الدموع، يتزاور كل أبناء بنغازي، وتُشرع أبواب البيوت، ويتوافد عليها المهنئين، ثم يتوجه جميع الرجال وفي الساعات الأولى من الصباح إلى بيت أكبرهم سنًّا، من أجل تناول )العصيدة( التي يختلط الرُّب بالزبدة الوطنية والعسل حولها، والمشروبات والحلويات بأشكالها المختلفة لتقديمها إلى المهنئين بالعيد وخاصة الكعك والغريبة والمقروض، التي تعدها النساء اللواتي يجتمعن بدورهن في بيت واحد من أجل تبادل التهاني وتناول الطعام، ويفرح الأولاد بالعيد ويقرعون بيوت الأقارب والجيران للحصول على العيدية، وكانت ألعاب الأطفال بريئة، وكانت بسيطة تدخل السعادة والفرح على قلوب الأطفال، وليس مثل الألعاب النارية والمسدسات التي تضرر منها كثير من الأطفال والتي تسببت لهم بالعاهات.
وفي الغذاء تختلف الوجبة من بيت إلى آخر، هناك أسر تجهز طبيخة البطاطا والفاصوليا، لكن في بيتنا كانت أمي رحمها الله تحضر طبق البازين الليبي، في العيدين، وكان جيراننا ضيوف على هذه المائدة، لدرجة كان جارنا الحاج مسعود العرفي رحمه الله يأتي لمعايدته أقاربه من المرج، ويتناولون في بيتنا البازين، حتى اصبحوا يذكرون بعضهم بهذا الجملة )بسرعة نمشوا لبنغازي نعيدوا على الحاج مسعود ونلحقوا على بازين عمتك فاطمة(، ويكون لنكهة المشروب الغازي البتر، والبيبسي، و)سينالكو( الدنيني مذاقاً مميزاً، وبالطبع من بعدها )طاسة الشاهي( الاخضر.
وما يحزن اكثر اليوم هو التغير الذي طرأ بين الناس الذين تباعدت المسافات فيما بينهم، وعدم احتفاظهم بالعادات والتقاليد التي كانت تحمل الحب والتسامح والتقارب بين العائلات في بيت واحد وعلى مائدة واحدة، لقد تغير كثيرًا عيد الفطر ولم يعد ذلك العيد البسيط في تجهيزاته الكبيرة بمعانيه التي تحمل الحب والترابط والمودة والرحمة بين الناس.
كل شيء اليوم مصنوع ومستورد من الخارج البائس، ليس له طعم ولا رائحة، ولا طعم للأكل والشراب الذي يصنع منها، عكس ما كان في السابق عندما كانت البركة واللمة الحلوة بينهم.
اتذكر، أنا واصدقائي دكتور عبدالسلام الزنتاني ودكتور عادل العلواني، والراحلون سالم العبيدي وعيسى العريبي وموسى الورشفاني، كنا نجوب الشوارع والأزقة التي كانت تلمع بالنظافة وتفوح منها الروائح الزكية، والورود في كلّ مكان، في البيوت والشوارع الطويلة والمحال والحدائق، ورائحة البخور في كلّ مكان، وصوت القرآن والتراتيل من الجوامع، والفوانيس المرصوفة على طول الشوارع والبيوت والساحات والحدائق تنتظر أن تضيئ ليل المدينة، ورائحة خبزة التنور التي تحضرها أمهاتنا وجداتنا، وخبز الكوُشة التي كان يحضرها لنا خبازون ليبيون شرفاء، أبناء بيتية لا يتاجرون في قوت أبناء مدينتهم، ولا يستغلون الظروف التي فُرضت، وكانت حلويات العيد التي تحضر في البيت، الكعك، والغريبة، والمقروض، لها طعم ومذاق خاص، واشاهد الأطفال وهم يتسابقون، وتسبقهم اصواتهم وضحكاتهم، والرجال في قمة الوسامة والأناقة بالزي التقليدي الليبي الأصيل، زي فاخر يرتديه الرجل الليبي، متمثلًا في الكاط الليبي الذي يتكون من ثلاث قطع، هي الفرملة، والزبون والسروال، وجميعها من نسيج القماش الفاخر، مطرزة كل قطعة من هذه القطع الثلاث بطرز ليبي خاص يأخذ أشكالاً زخرفية متنوعة تشكل بواسطة مفتول الحرير الخالص بيدي صانع ماهر يستعمل فيها الإبرة فقط، بالإضافة إلى القميص
)السورية الليبية القصيرة( والشنة وهي غطاء للرأس، ويلحق بها البُـسكل، والنعل)البلغة(، وقد تعطروا بأطيب العطور الأصلية. والنساء بلباس ملكي حريري طويل يغطين أوجههنّ، والحلي والجواهر النفيسة، فالأناقة الليبية في كلّ الألبسة، والجميع بمظهر الفخامة والغنى، الألبسة حريرية مطرزة والأحذية جلدية فاخرة، كنت اشاهد طلبة العلم يعبرون الشارع في صف طويل مع معلميهم، اسراب من الحمام والطيور المهاجرة تحط وتطير اينما تواجدت أكوام الحبوب والغذاء التي يضعها أهلنا، وأصوات الفرح والدعاء في كل مكان في المدينة، المتاجر عبقة برائحة الحلويات والعسل والفواكه والخضر الطازجة والمكسرات، وأواني الفخار والطين والسجاد، أسماء الشوارع ولافتة
)العدل أساس الملك( معلقة في كلّ شارع، اصوات خرير المياه في كل بيت ونافورة وشارع، اصوات العربات، افراد شرطة الأمن يراقبون التجار والنظافة وكلّ شيء، والجاليات التي تعيش معنا، وعمال الشركات الأجنبية من كلّ العالم منبهرين، وأهل الخير مصطفين لمنح الصدقات والملابس الجديدة والطعام لمن هم بحاجة لها، كنت صحبة أصدقائي نشارك في بعض المبادرات التطوعية لمساعدة المغتربين في مدينتنا، وكنا نحرص على أن يكون لنا دور في بث الفرحة في نفوسهم في أيام العيد؛ ونحرص خلال يوم العيد على تخصيص جزء من وقتنا لزيارتهم والمعايدة عليهم وتقديم بعض الحلويات الليبية، كنوع من التكافل والإحساس بالآخرين. ونتفقد المحرومين في هذا اليوم ومعايدتهم، ومحاولة بث الفرح في نفوسهم، والتواصل معهم، كما في حالة الأطفال الأيتام، الذين يفتقدون من يسهم في نشر الفرحة في قلوبهم، ونقوم بزيارة المريض الذي لا يستطيع الخروج من منزله، وزيارة كبار السن غير القادرين على التحرك بحرية، بالرغم من وجود أبنائهم حولهم، لأنها من الواجبات التي تربينا عليها وحرصنا على القيام بها، فهي دليل على احترام الكبير وإظهار المحبة له، وكذلك زيارة أهل المتوفى، الذين يمر عليهم العيد لأول مرة بعد رحيل عزيز من بينهم؛ حيث يستعد أهل المتوفى لذلك من خلال تحضير الكراسي والقهوة والشاي والحليب والتمر لتوزيعها على الحضور، الذين يعلنون بذلك مواساتهم لأهل المتوفى والمعايدة عليهم، وقع الكلمة الطيبة في النفوس في يوم العيد، والابتسامة في الوجه، عند تبادل التهاني، سواء على من نعرف ومن لا نعرف، من شأنه أن يزيد أواصر المحبة والاحترام بين أفراد المجتمع، ليترسخ لدى الأبناء مفهوم الصلة بين الأقارب والجيران والأرحام.
في العيد، تظهر الكثير من العادات التي ترتبط بالمجتمع، والتي يؤكد فيها الجميع أهمية التواصل الاجتماعي بين الناس من خلال الزيارات الخاصة التي يقومون بها، فهذه الزيارات من أكثر الصور التكافلية الموجودة في مجتمعنا.
لكن هناك أشياء سُلطت علينا، بمسميات مختلفة، ، التي هي بريئة منهم، وأخرون باسم الحريات والحقوق، ولم يبقوا لنا شيئا من هذه المظاهر السعيد التي كنا نسعد بها، ولم يتبق لنا سوى أرواح أجدادنا التي نحيا بها.
عيد سعيد بجمال عيد أجدادنا زمن الحضارة، لقد حاولوا دفننا، ولكنهم لم يعلموا بأنّنا بذور.