
في كل بيت ليبي هذه الأيام، حكاية صامتة من الكفاح اليومي…
عرسان يلغون أعراسهم، أمهات يختصرن قوائم الطعام، وآباء يتهربون من طلب العيدية” بوجه حزين.
الأسواق تشتعل، والدينار يتهاوى، والمواطن بين مطرقة الغلاء وسندان الواجبات الاجتماعية التي لا ترحم.
تزامن موسم الأعراس والمناسبات مع موجة جديدة من ارتفاع الأسعار، واختفاء السلع التموينية، فجّر أزمة خانقة يعيشها كل بيت ليبي بصمت ومرارة.
هل أصبح الفرح ترفًا؟ وهل تحوّلت الموائد إلى اختبار لقدرة الاحتمال؟
وهل الدولة غائبة… أم المواطن وحده هو من يدفع الفاتورة؟
الجيب ما عادش يكفي.. والأسواق نار هكذا وصف أحد المواطنين حاله وسط موجة غلاء تزداد شراسة مع كل يوم جديد، خصوصًا مع دخول موسم الأعراس والمناسبات الاجتماعية الذي تحوّل من فرصة للفرح إلى عبء ثقيل على كاهل الأسر الليبية.
منذ أشهر، يشهد الدينار الليبي تراجعًا مقلقًا أمام الدولار، ما انعكس بشكل مباشر على الأسعار، خاصة السلع المستوردة والمواد الغذائية الأساسية. حيث ارتفعت أسعار الزيت، السكر، الدقيق، والأرز بنسبة تصل إلى 40% شفي بعض المناطق.
يقول أحد التجار في سوق الكريمية
حتى المواطن ما عادش يلوم فينا، الكل عارف إن الأسعار قاعدة تطلع من المصدر، والتجار مضطرين يتماشوا مع السوق السوداء.
السلع التموينية التي كانت في السابق تشكل متنفسًا للأسر الفقيرة، باتت اليوم هي الأخرى نادرة الوجود أو مرتفعة الثمن. ويشتكي مواطنون من تأخر وصول التموين، وضعف جودته، واختفاء بعض الأصناف الأساسية مثل الحليب، الزيت، والمعكرونة.
أم فهد، ربة منزل من طرابلس، تقول:
كنا ننتظر التموين بشغف، لكن اليوم حتى التموين أصبح بلا طعم ولا فائدة. الأسعار نار وجودة ضعيفة، والمناسبات زادت الطين بلة.”
يتزامن هذا الوضع مع موسم الأعراس الذي عادة ما يشهد حركة اقتصادية ونفقات كبيرة. لكن الغلاء أجبر كثيرًا من العائلات على تقليص مصاريف الأفراح، أو حتى تأجيلها.
تشير الشابة إيلاف التي كانت تستعد لزفافها في أغسطس:
حاولنا نختصر في كل شيء، حتى الفستان استأجرته بدل ما نشتري، والقاعة ألغيناها ودّرنا العرس في الحوش.”
يرى الخبير الاقتصادي د. موسى الساعدي أن التضخم في ليبيا ليس فقط بسبب تراجع الدينار، بل لغياب الرقابة على الأسواق، واستغلال التجار لمواسم الطلب المرتفع.
الحل لا يكمن فقط في دعم الدينار، بل أيضًا في بناء جهاز رقابي صارم يُتابع الأسعار ويضبط التلاعب بالسوق، خصوصًا في المواسم
ويؤكد الأخصائي الاجتماعي د. أشرف العروسي أن ضغوط الإنفاق، خاصة في الأعراس، تسبب توترًا نفسيًا داخل الأسر، وتُشعل الخلافات الزوجية وتؤثر سلبًا على العلاقات الأسرية.
”المظاهر الاجتماعية أصبحت تُثقل كاهل الأسر، وتحولت من فرح إلى قلق.. نحتاج إلى تغيير في الثقافة المجتمعية، ونشر الوعي بالاكتفاء بما هو متاح. الحاجة والكرامة.. المواطن الليبي في معركة مفتوحة
في ظل استمرار تدهور الوضع الاقتصادي، وغياب حلول جذرية حقيقية، يظل المواطن الليبي في معركة يومية بين سعيه لتوفير لقمة العيش، وحفاظه على كرامته وسط غلاء لا يرحم.
ومع كل مناسبة تمر، تكبر الفجوة بين ما يستطيع أن يقدمه، وما يفرضه الواقع عليه.
أم ياسين
كل يوم نخرج للسوق نحس روحي داخلة لمعركة.. السكر من 4 دنانير ولى 8، الزيت مش متوفر إلا في السوق السوداء، واللحمة تحولت لحلم! كيف نجهز عرس بنتي ونصرف على الحوش في نفس الوقت؟”
معاد الحسناوي
المرتب ما يكفيش أسبوع، الأسعار قاعدة ترتفع والدينار كل يوم أضعف. حتى الكتيبة التموينية ما عادتش توصل بانتظام، والتجار كل واحد يحط السعر اللي يبي!
إيلاف طالبة جامعية
كنا نحلم نعمل حفلة تخرج محترمة، بس مع الغلاء قررنا نلغوها ونكتفوا بلمة عائلية بسيطة. الفرح ولى مكلف والفرحة تقيلة على الجيب.”
رمضان بائع متجول يقول
حتى المواطن البسيط ما عادش يشري مني. الناس تحسب الدينار قبل ما تمد إيدها. الأسعار نار، والعرسان الجدد بدل ما يبدأوا حياة، يبدأوا ديون.”
سعيدة خياطة
موسم الأعراس زمان كان رزق، توا الناس كلها تختصر وتبخل حتى على الفستان. الزبونة تجيني تقول: ما عنديش، داريلنا حاجة بسعر رخيص.”
مليود يقول
أنا خاطب من سنة، لكن كل مرة نقرب نكمل ونعرس، الأسعار تضرب. الذهب نار، القاعات نار، حتى الشبكة ما عادش فيها بركة. معاش نعرف شن نأجل وشن نختصر.”وما يتداول في الشارع الليبي هو :
المرتب ما يغطيش نص المصروف.
الأسواق تشتعل والأسرة في دوامة اختيارات صعبة.
الأعراس من فرحة إلى أزمة مالية. الدينار في هبوط مستمر والدولار سيد الموقف. غياب الدعم والرقابة يزيد من معاناة المواطن. بين مطرقة الأسعار وسندان التقاليد.. من يُنقذ المواطن؟”
هكذا يعيش الليبي اليوم:
يحارب على جبهتين، جبهة السوق الملتهبة، وجبهة المجتمع الذي لا يرحم حين يفرض عليه مظاهر فرح أكبر من قدرته.
في بلدٍ تتآكل فيه القوة الشرائية، وتغيب فيه الرقابة، تتحول الأفراح إلى اختبارات مؤلمة، وتُختزل الموائد إلى ضرورات، وتصبح أبسط متطلبات الحياة ترفًا بعيد المنال.
ورغم الصبر والصمت، ما زالت الأسئلة الكبرى قائمة:
إلى متى يستمر النزيف في جيب المواطن؟
وأين هي الخطط الاقتصادية الحقيقية لإنقاذ ما تبقى من كرامة العيش؟
وهل حان الوقت لمراجعة ثقافتنا الاستهلاكية ومفاهيمنا عن الفرح والتكافل؟
فالمواطن الليبي لا يريد معجزة…
كل ما يطلبه هو حياة كريمة لا يسرقها منه موسم، ولا يبتلعها سعر، ولا يُهدّدها صمت!