
في هذا التقرير الشامل، نستعرض مسيرة الخطوط الجوية الإفريقية منذ لحظة التأسيس وحتى يومنا هذا، نُسلط الضوء على تاريخها العريق، ونتوقف عند محطات نجاحها وإخفاقاتها، ونكشف عن مكامن الخلل الإداري والمالي، آملين أن يُسهم هذا الطرح في بعث الروح من جديد في هذه المؤسسة الوطنية، وضمان حقوق عامليها، ومسح الغبار عن صورتها التي تستحق أن تعود لِما كانت عليه: فخرًا لليبيين، وسفيرًا يحلّق باسم ليبيا في سماء العالم من رمزٍ للطموح الوطني الليبي إلى شاهدٍ على تآكل الحلم.
ليست شركة بل ذاكرة وطن وهوية شعب
تقف الخطوط الجوية الإفريقية اليوم على حافة الانهيار، بعد أن كانت تُحلق ذات يوم في سماء العواصم الكبرى، ممثلةً للهوية الليبية ومشروعها الطموح للربط الجوي القاري والدولي. فقد تأسست الشركة مطلع الألفية كأحد أهم مشاريع النقل الجوي في شمال إفريقيا، تحمل على جناحيها رؤية دولة تسعى لترسيخ مكانتها في الأفق الإقليمي والدولي. مع أسطول حديث ومعايير تشغيل عالية، سرعان ما رسمت الشركة لنفسها مسارًا واعدًا في عالم الطيران، حتى أصبحت في سنواتها الذهبية نموذجًا للشركات الوطنية الصاعدة.
إلا أن الظروف العامة في ليبيا لم تستثنِ أحدًا، فتحوّلت «الإفريقية» من قصة نجاح إلى ملف أزمات معقدة، تتداخل فيها الظروف المربكة والطموح وقلة الامكانات، والإدارة بالشلل.
فالشركة التي كانت تحمل راية ليبيا في سماء العالم، باتت اليوم تواجه شبح الإفلاس والتفكك، مع توقف معظم أسطولها، وتعليق غالبية وجهاتها، وضياع مواردها بين عقود مثيرة للجدل وممارسات غير شفافة، وبين الحنين إلى أمجاد الماضي، والقلق على مستقبلها، يثور التساؤل الجوهري: هل ما زالت «الخطوط الإفريقية» قادرة على الإقلاع من جديد؟ أم أن أجنحتها قد كُسرت إلى غير رجعة؟
نزيف داخلي .. ومنافسة خانقة
ما تواجهه الخطوط الجوية الإفريقية اليوم لا يقتصر فقط على الخسائر المالية، أو توقف الرحلات، بل يمتد إلى عمق بنيتها التشغيلية، والتنظيمية. فغياب رؤية استراتيجية واضحة، وتعدّد مراكز القرار، والانقسامات السياسية بين حكومتين، ومؤسستين متنافستين، كلها عوامل أسهمت في إضعاف العمود الفقري للشركة. تراجع الصيانة الدورية، وتجميد التوظيف، وهروب الكفاءات، بل وحتى تدهور المعنويات داخل أروقة الشركة، باتتْ ملامح يومية تعكس واقعًا مأزومًا.
وفي الوقت ذاته، لم ترحم المنافسة الإقليمية والدولية هذا التراجع، إذ وجدتْ شركات طيران أخرى الفرصة سانحة للهيمنة على الأجواء الليبية، عبر رحلات بديلة تربط المدن الليبية بالعالم، مستغلة تراجع «الإفريقية»، وغيابها عن خارطة الطيران الفاعل.
العمّالُ والموظفون.. بين الإخلاص والتهميش
يستمر آلاف الموظفين والعاملين في «الإفريقية» في أداء واجبهم رغم الظروف القاسية، دون رواتب منتظمة، وفي ظل غياب بيئة عمل مستقرة. هؤلاء يمثلون الركيزة التي لا تزال تحافظ على ما تبقى من نبض في جسد الشركة، ورغم الإحباط العام، فإن في داخلهم حنينٌ لعودة الأيام التي كانت فيها «الإفريقية» وجه ليبيا الباسم في المطارات العالمية.
أمل في إعادة التحليق؟
ورغم هذا المشهد القاتم، فإن هناك بارقة أمل لا تزال قائمة. إعادة هيكلة شاملة للشركة على أسس مهنية ووطنية، وإبعادها عن التجاذبات السياسية، قد تعيد لها قدرتها على التحليق. لكن هذا يتطلب إرادةً سياسية صادقة، وخطة إنقاذ وطنية مدروسة تشمل مراجعة العقود، وتدقيق مالي شامل، وضخ استثمارات في التدريب والبنية التحتية، إلى جانب شراكات ذكية مع شركات دولية قد تساعد في انتشال الشركة من كبوتها.
في النهاية…
تختصر الخطوط الجوية الإفريقية مأساة وطنًا ضاعتْ بوصلته، وحلمًا انكسر تحت أجنحة الانقسام والفساد. لكن التاريخ يُظهر أن الطيران، شأنه شأن الأوطان، قادر على النهوض من تحت الركام إذا ما توفر العزم والإصلاح. فهل نرى يومًا طائرات «الإفريقية» تحلّق من جديد، لا كرمز للماضي فقط، بل كجسر يربط الليبيين بالعالم وبأنفسهم من جديد؟
ختامًا
ليست الخطوط الجوية الإفريقية مجرد شركة طيران، بل هي جزء من ذاكرة وطن وهوية شعب، ومرآة تعكس صورة ليبيا الطموحة، المنفتحة على العالم. واليوم، وبعد سنوات من التدهور والشلل، بات من الضروري أن تتكاتف الجهود لإعادة هذه المؤسسة إلى مسارها الصحيح، بعيدًا عن المحسوبيات، والفساد الإداري، وقريبًا من معايير الجودة والشفافية.
إن إنقاذ الخطوط الإفريقية ليس خيارًا، بل مسؤولية وطنية وأخلاقية، تقتضي محاسبة المتسببين في تدهورها، وضمان حقوق آلاف الموظفين الذين ما زالوا يقبضون على حلم العودة إلى السماء.
فلنعد للخطوط الإفريقية أجنحتها… ولليبيا مكانتها التي تستحق.