ثقافة

الأنثى‭.. ‬والوجود‭ ‬المشترك

‬إنتصار‭ ‬بوراوي

تُعدّ‭ ‬الرواية‭ ‬مرآةً‭ ‬تعكس‭ ‬رؤى‭ ‬الكتاب‭ ‬الفلسفية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تختار‭ ‬النصوص‭ ‬الروائية‭ ‬تفكيك‭ ‬الأفكار‭ ‬السائدة،‭ ‬لتقديم‭ ‬صيغ‭ ‬بديلة‭ ‬للواقع‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تأتي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الأنثى‮»‬‭ ‬‮ ‬للروائية‭ ‬البريطانية‭ ‬‮«‬دوُريس‭ ‬ليسينج‮»‬،‭ ‬الحائزة‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬نوبل‭ ‬للآداب‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2007،‭ ‬لتقدم‭ ‬طرحًا‭ ‬جريئًا‭ ‬حول‭ ‬أصل‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬ودور‭ ‬الأنثى‭ ‬فيه‭ ‬عبر‭ ‬سردية‭ ‬آسرة‭ ‬تقع‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬نسائي‭ ‬خالص‭ ‬معزول،‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬نموذجًا‭ ‬مضادًا‭ ‬لأسطورة‭ ‬الخلق‭ ‬التقليدية؛‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭ ‬الأنثى‭ ‬هي‭ ‬الأصل‭ ‬المطلق‭ ‬والمُهيمن‭ ‬على‭ ‬دورة‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬وتستخدم‭ ‬‮«‬ليسينج‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬اليوتوبيا‭ ‬النسائية‮»‬‭ ‬لربط‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬مراحله‭ ‬الأولى،‭ ‬بالصراع‭ ‬الأبدي‭ ‬بين‭ ‬الذكور،‭ ‬والإناث،‭ ‬مُسلَّطةً‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬كيفية‭ ‬نشأة‭ ‬هذا‭ ‬التوتر،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬دلالات‭ ‬النهاية‭ ‬المُتصدّعة‭ ‬التي‭ ‬يؤول‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭.‬

تتخيل‭ ‬الروائية‭ ‬مجتمعًا‭ ‬نسائيًا‭ ‬خالصًا‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬فيه‭ ‬للرجال،‭ ‬وتحمل‭ ‬فيه‭ ‬النساء‭ ‬حسب‭ ‬خيال‭ ‬الروائية،‭ ‬بفعل‭ ‬حركة‭ ‬المد،‭ ‬والجزر‭ ‬ودورات‭ ‬القمر،‭ ‬وعندما‭ ‬ينجبن‭ ‬تقوم‭ ‬النساء‭ ‬المسنّات‭ ‬برمي‭ ‬كل‭ ‬مولود‭ ‬ذكر،‭ ‬على‭ ‬فوهة‭ ‬جبل‭ ‬لتلتقطه‭ ‬وتأكله‭ ‬النسور‭ ‬متخلصات‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬جنس‭ ‬الذكور،‭ ‬ومُبقيات‭ ‬على‭ ‬المواليد‭ ‬الإناث‭.‬

لكن‭ ‬النسور‭ ‬لا‭ ‬تأكل‭ ‬كل‭ ‬المواليد‭ ‬الذكور،‭ ‬بل‭ ‬تضع‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬الجزيرة؛‭ ‬حيث‭ ‬تشفق‭ ‬عليهم‭ ‬غزلان‭ ‬الجزيرة،‭ ‬وتقوم‭ ‬بإرضاعهم‭ ‬من‭ ‬لبنها‭ ‬ويكبر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفالُ‭ ‬ليصبحوا‭ ‬رجالًا،‭ ‬دون‭ ‬علم‭ ‬النساء‭ ‬القاطنات‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬كهوف‭ ‬الجزيرة‭ ‬بوجودهم‭.‬

ولكن‭ ‬تكتشفهم‭ ‬إحدى‭ ‬الفتيات،‭ ‬عندما‭ ‬تنزل‭ ‬إلى‭ ‬الشاطئ،‭ ‬فتحضر‭ ‬معها‭ ‬رفيقتها‭ ‬وتلتقيان‭ ‬برجلين‭ ‬وتحمل‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منهما‭ ‬بطفل،‭ ‬ويلدان‭ ‬خلسة‭ ‬في‭ ‬كهفهن‭ ‬دون‭ ‬إخبار‭ ‬باقي‭ ‬نساء‭ ‬الجزيرة‭ ‬بولادتهن‭ ‬وتربيتهن‭ ‬لأطفال‭ ‬ذكور‭ ‬معهن‭ ‬في‭ ‬الكهف‭.‬

ومع‭ ‬الولادة‭ ‬الغامضة‭ ‬للطفل‭ ‬الذكر،‭ ‬يضطرب‭ ‬مجتمعُ‭ ‬النساء‭ ‬المسالم‭ ‬ويدخل‭ ‬منطقة‭ ‬الخطر‭ ‬عندما‭ ‬يدركن‭ ‬بوجود،‭ ‬مجتمع‭ ‬من‭ ‬الذكور‭ ‬أسفل‭ ‬كهوف‭ ‬الجبلية‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬الجزيرة‭.‬

تمضي‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬ماضي‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬،عبر‭ ‬وجود‭ ‬المرأة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬ويكون‭ ‬صوت‭ ‬السارد‭ ‬لأحداث‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬شيخٌ‮»‬‭ ‬من‭ ‬العصر‭ ‬الروماني،‭ ‬الذى‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬عصر‭ ‬الرومان‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يروي‭ ‬فيه‭ ‬حكاية‭ ‬إناث‭ ‬الخليقة‭ ‬الأولى،‭ ‬وذكورها،‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬روائي‭ ‬بديع‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬الكاتبة،‭ ‬دوريس‭ ‬ليسينج‭ ‬التي‭ ‬تنسج‭ ‬روايتها‭ ‬حول‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬الأنثى‭ ‬هي‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني،‭ ‬في‭ ‬اختلاف‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬السردية‭ ‬الدينية‭.‬

تنتهي‭ ‬الرواية‭ ‬بحدوث‭ ‬صدع‭ ‬كبير،‭ ‬في‭ ‬كهوف‭ ‬الجزيرة‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬الرجال‭ ‬إليها‭ ‬وعيشهم‭ ‬مع‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬بقعة‭ ‬واحدة،‭ ‬ليكون‭ ‬رمز‭ ‬صدع‭ ‬كهوف‭ ‬النساء‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬الذكور‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬المتصدعة‭ ‬بين‭ ‬الذكور‭ ‬والإناث‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬وكراهية،‭ ‬ورغبة‭ ‬وتسلط،‭ ‬وصراع،‭ ‬وخلق‭ ‬وإنجاب،‭ ‬وشراكة‭ ‬في‭ ‬المصير‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الخليقة‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭.‬

لا‭ ‬تقدم‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬دوريس‭ ‬ليسينج‮»‬،‭ ‬مجرد‭ ‬حكاية‭ ‬خيالية‭ ‬عن‭ ‬مجتمع‭ ‬نسائي‭ ‬منعزل،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تأمل‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬أسس‭ ‬وجود‭ ‬المرأة‭ ‬وعلاقتها بالجنس‭ ‬الآخر؛‭ ‬فالإصرار‭ ‬الروائي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأنثى‭ ‬هي‭ ‬أصل‭ ‬الحياة‭ ‬يمثل‭ ‬تحديًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬للسرديات‭ ‬الدينية التي‭ ‬وضعتْ‭ ‬الذكر‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬الخليقة‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الصدع‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يحدث،‭ ‬في‭ ‬كهوف‭ ‬الجزيرة‭ ‬نتيجة‭ ‬لدخول‭ ‬الرجال،‭ ‬لا‭ ‬يرمز‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬التجربة‭ ‬النسائية‭ ‬الخالصة،‭ ‬بل‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬التصدع‭ ‬الأبدي‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬جوهر‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الذكر،‭ ‬والأنثى‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬التاريخ‭.‬

لقد‭ ‬أظهرتْ‭ ‬الروائية‭ ‬‮«‬دوريس‭ ‬ليسينج‮»‬،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬روايتها‭ ‬بأن‭ ‬الوجود‭ ‬المشترك،‭ ‬رغم‭ ‬ضرورته‭ ‬للخلق‭ ‬والاستمرار،‭ ‬محكوم‭ ‬بالصراع‭ ‬والتسلط‭ ‬والرغبة‭ ‬والكراهية،‭ ‬وتنتهي‭ ‬الرواية‭ ‬بتأكيد‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬المُعقّدة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬الحب‭ ‬والصراع،‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬هي‭ ‬شراكة‭ ‬في‭ ‬المصير‭ ‬الإنساني‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصلها،‭ ‬وهي‭ ‬حقيقة‭ ‬تستمر‭ ‬من‭ ‬البداية‭ ‬وحتى‭ ‬نهاية‭ ‬الوجود‭ ‬وإن‭ ‬وجود‭ ‬الرجل‭ ‬مع‭ ‬المرأة‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬ليس‭ ‬مبنى‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬والنفي‭ ‬بل‭ ‬الفهم‭ ‬والتكامل‭ ‬الإنساني‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى