
مع حلول فصل الشتاء في ليبيا كل عام، تعود إلى الواجهة تساؤلات كثيرة حول قدرة البنية التحتية على مواجهة الأمطار، ومدى جاهزية الجهات المختصة للتعامل مع الاختناقات المرورية والسيول المفاجئة. فبين ضعف التخطيط، وتراكم الإشكاليات لسنوات طويلة، تجد المدن الليبية نفسها سنويًا أمام اختبار يتكرر دون حلول جذرية، لا سيما في طرابلس وبنغازي ومصراتة، التي تشكل الشريان الأكبر للحركة الاقتصادية والسكانية في البلاد…
ورغم امتلاك ليبيا شبكة طرق تمتد إلى نحو 34 ألف كيلومتر من الطرق المعبّدة، إلا أن جزءًا كبيرًا منها، خصوصًا الطرق الثانوية والزراعية، يعاني من التدهور نتيجة ضعف الصيانة. وفي حين أن بعض المحاور الكبرى مثل الطريق الساحلي بحالة جيدة نسبيًا، إلا أن الطرق داخل المدن تبقى ضيقة وغير قادرة على استيعاب الكثافة المرورية العالية، خاصة في ساعات الذروة أو أثناء هطول الأمطار.
وتتصدر ليبيا قائمة الدول العربية من حيث ملكية السيارات الخاصة بمعدل يقارب 490 سيارة لكل 1000 شخص، وهو رقم يعكس غياب النقل العام بشكل شبه كامل. هذا الاعتماد الكبير على السيارات الخاصة يفاقم الازدحام ويزيد الضغط على شبكة الطرق المتضررة أصلًا، خصوصًا في المدن الكبرى. كما أن حركة الشاحنات والمركبات الثقيلة، خاصة تلك المرتبطة بالأنشطة الصناعية، تسهم في تدهور الطرق وزيادة الازدحام في المدن والمناطق المحيطة بها.
ولا تقتصر الأزمة على الازدحام فحسب، بل تمتد إلى السلامة المرورية. فالإحصائيات الرسمية لعام 2024 تشير إلى تسجيل أكثر من 3000 وفاة نتيجة حوادث المرور، مع آلاف الإصابات الخطيرة. وفي الربع الثالث من العام نفسه، سُجلت 2,384 حادثة نتج عنها 629 وفاة، و1,006 إصابات خطيرة، إضافة إلى أضرار مادية واسعة. هذه الأرقام تكشف حجم التدهور في منظومة الطرق، وتبيّن أن شبكة المرور في ليبيا لا تعاني فقط من الزحام، بل تشكل تهديدًا مباشرًا لحياة المواطنين.
وتُظهر أولى زخّات المطر سنويًا هشاشة البنية التحتية الليبية، سواء بفعل عمرها أو غياب الصيانة أو ضعف تجهيز شبكات الصرف. ففي طرابلس، تتكرر تجمعات المياه في طرق رئيسية مثل طريق الشط، طريق السكة، الفرناج، وجنزور، ما يؤدي إلى إغلاق مؤقت للطرق وتعطل حركة السير وتضرر المركبات. وفي بنغازي، ما تزال مناطق الهواري والليثي والبركة تواجه انسدادات مزمنة في قنوات الصرف، رغم أعمال الصيانة المتفرقة التي تمت خلال السنوات الماضية.
ويرجع جزء كبير من الأزمة إلى التوسع العمراني غير المنضبط الذي شهدته المدن الكبرى خلال العقدين الماضيين. فالبناء العشوائي وتغيّر استخدام الأراضي دون خطط هندسية واضحة شكلا ضغطًا كبيرًا على شبكات الصرف المصممة لاستيعاب عدد أقل بكثير من السكان. كما أن غياب دراسات الأثر البيئي والهيدرولوجي عند تنفيذ المشاريع أدى إلى سوء تقدير لمواقع تجمع المياه وخطوط الجريان الطبيعية، ما تسبب في تفاقم مشاكل الغرق والفيضانات.
أما من الناحية الإدارية، فتبرز إشكالية غياب الصيانة الدورية لدى البلديات، إذ تعتمد غالبًا على حملات موسمية قبل بدء الشتاء بأسابيع قليلة، بدلًا من اعتماد برامج مستمرة على مدار العام. ويضاف إلى ذلك نقص المعدات اللازمة مثل سيارات الشفط والكوادر الفنية المدربة، ما يجعل التدخل في الحالات الطارئة بطيئًا وغير فعّال. ويعاني التنسيق بين الأجهزة الرسمية مثل البلديات، جهاز المرافق، ومصلحة الطرق والجسور من ضعف واضح، إضافة إلى تداخل الاختصاصات وغياب آليات متابعة دقيقة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعثر المشاريع أو تأخرها. كما أن شكاوى المواطنين المتكررة بشأن شبهات الفساد أو سوء التسيير تزيد من تعقيد الوضع.
ورغم هذه التحديات، شهدت بعض المدن خلال السنوات الأخيرة جهودًا لتحسين الوضع. ففي طرابلس وبنغازي، نُفذت حملات تنظيف موسعة للمناهل والمصارف، إلى جانب أعمال صيانة في مناطق متضررة مثل طريق السواني وسوق الجمعة، وتركيب مضخات إضافية في بعض المناطق المنخفضة. كما أُطلق مشروع البيانات المكانية «LSDI»، الذي يهدف إلى توفير قاعدة بيانات موحدة تساعد على التخطيط العمراني والمروري بشكل أفضل. إلا أن هذه الجهود، رغم أهميتها، ما تزال محدودة ولا تعالج جذور المشكلة، لأنها تركز غالبًا على ردود الفعل بعد وقوع الأزمات لا على منعها.
وفي فصل الشتاء تحديدًا، يتفاقم الازدحام بسبب تدهور الطرق، وانخفاض مستوى الرؤية، وتعطل إشارات المرور، وتجمع المياه في المفترقات الحيوية. ففي العاصمة طرابلس مثلًا، تتحول طرق مثل طريق المطار وصلاح الدين وأبوسليم الهضبة وقرقارش إلى نقاط اختناق مروري حادة، وقد يمتد زمن رحلة لا تتجاوز 15 دقيقة في الظروف العادية إلى أكثر من ساعة مع أول هطول للأمطار. ويعود سبب ذلك إلى ضعف التخطيط الهيكلي للطرق، وعدم توسيع الشوارع الرئيسية منذ عقود، رغم تضاعف عدد المركبات عدة مرات، إلى جانب غياب النقل العام وانتشار ظاهرة الوقوف العشوائي.
ويرى الخبراء أن الأزمة تتجاوز مجرد ضعف البنية التحتية، بل تمتد إلى غياب رؤية وطنية شاملة لإدارة مياه الأمطار وتنظيم المرور. فالحلول الحالية، التي تقتصر غالبًا على تنظيف المناهل أو شفط المياه بعد تجمعها، تبقى حلولًا ترقعية لا تمنع تكرار الأزمة. كما أن تحسين البنية التحتية لا يشمل فقط الطرق والصرف، بل يحتاج إلى منظومة نقل عام فعالة، تخفف الاعتماد على السيارات الخاصة وتقلل الازدحام.
ولمواجهة هذه الإشكاليات المتراكمة، يقترح المختصون عدة حلول، من أهمها وضع خطة وطنية لإدارة مياه الأمطار تشمل تنظيف المصارف وصيانة الشبكات وتحديث الخرائط القديمة. كما يجب إعادة تأهيل الطرق البالية داخل المدن واستخدام مواد أكثر قدرة على تحمل تقلبات المناخ. وإطلاق منظومة نقل عام حديثة تعتمد على الحافلات الكبيرة وربما خطوط قطارات خفيفة مستقبلاً، إضافة إلى وضع ضوابط للتوسع العمراني لمنع البناء العشوائي الذي يرهق شبكات البنية التحتية. كما أن تعزيز قدرات الطوارئ عبر فرق متخصصة لفصل الشتاء يمكن أن يحد من الأضرار ويسرع الاستجابة للأزمات.
الخلاصـــــــــــة:
تواجه ليبيا كل شتاء أزمة تتجدد مع أولى القطرات، لتكشف هشاشة البنية التحتية وغياب التخطيط والصيانة المستدامة. ورغم وجود بعض الجهود الإيجابية، إلا أن حجم التحديات يتطلب رؤية أعمق، وخطة استراتيجية طويلة الأمد، تضمن تطوير شبكة طرق وصرف حديثة، وتقديم منظومة نقل متكاملة، بما يضمن تقليل الزحام، وحماية حياة المواطنين، وتحسين جودة الحياة في المدن الليبية.
الأزمة تمتد إلى غيــــــــاب
الرؤية الوطنيـــــــة
مـطـر الـشـتـــــاء وضــعــف الـجـاهــزيـة
الإحصائيات لعام 2024 أكثر من 3000 وفاة نتيجة حوادث المرور !!



