
تُعد الانتخابات إحدى الركائز الأساسية لبناء الدولة الديمقراطية وترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة، فهي الآلية التي يمارس من خلالها المواطنون حقهم في اختيار ممثليهم وتحديد ملامح مستقبلهم السياسي. وفي الحالة الليبية، تكتسي الانتخابات أهمية مضاعفة نظرًا للظروف الاستثنائية التي مرّتْ بها البلاد منذ عام 2011، حيث عانتْ من انقسامات سياسية وصراعات مسلحة أثّرتْ على استقرار مؤسسات الدولة وأعاقتْ مسيرة الانتقال الديمقراطي. ورغم هذه التحديات، شهدتْ ليبيا خلال السنوات الأخيرة جهودًا متواصلة لإعادة إطلاق العملية الانتخابية، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، باعتبارها مدخلًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار وتعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم.
يأتي هذا التقرير لتسليط الضوء على مسار الانتخابات في ليبيا، خاصة الانتخابات البلدية، باعتبارها تجربةً مهمةً لإرساء قواعد الحكم المحلي والمشاركة الشعبية في صُنع القرار.
فمنذ 2011 تعرّضت ليبيا لافتقاد طويل للاستقرار السياسي، وتغيب الانتخابات العامة. في هذا السياق، اعتمد نظام الإدارة المحلية وفق قانون الإدارة رقم )59( لسنة 2012، أعاد بناء الهيكل الإداري بتقسيم البلاد إلى بلديات يُنتخب رؤساؤها، ومجالسها محلياً .
وفي 2024 أُجريتْ في ليبيا أول انتخابات بلدية شاملة منذ نحو عشر سنوات، بعد أن ظلّتْ معظم البلديات تحت الإدارة المؤقتة، أو سلطة الأمر الواقع. التعافي التدريجي لمسار الانتخابات المحلية كان خطوةً مهمة على طريق إحياء العملية السياسية.
وفي 16 نوفمبر 2024، نظّمتْ المفوضية الوطنية العليا للانتخابات )HNEC( المرحلة الأولى في 58 بلدية، حيث تنافس 2,331 مرشحًا على 426 مقعدًا، بينها 68 مقعدًا للنساء، و58 لذوي الإعاقة، بمشاركة حوالي 186 ألف ناخب .
بلغتْ نسبة المشاركة حوالي 74-77٪ من المُسجلين، ما وفر دفعة إيجابية للعملية الانتخابية واعتُبر «مهرجانًا ديمقراطيًا»، وأبدتْ بعثة الأمم المتحدة دعمها، وأشادت بالعملية .
وفي مارس 2025، أعلنتْ )HNEC( أنَّ 449,616 ناخبًا منهم حوالي 132,893 امرأة تسجلوا للمشاركة في المرحلة الثانية، التي شملتْ 62 مجلسًا بلديًا .
ولكن عند نهاية أبريل، وبعد تمديد التسجيل ثلاث مرات، لم يتجاوز عدد المسجلين 5,608 في 62 بلدية، ما أثار قلقًا عميقًا حول عزوف الناخبين.
وقال ناشطون إنَّ أسباب العزوف تعود إلى تراكم السخط من التجارب الفاشلة السابقة، غياب الوعي، وظروف اقتصادية واجتماعية تُجعل الانتخابات أولوية ثانوية للمواطنين .
وشهدتْ ليبيا في 16 أغسطس 2025 انطلاق المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية في 26 بلدية فقط من أصل 63 كانت مقرَّرة، وذلك بعد تعرَّض العملية الانتخابية لأعمال غير قانونية في عدة مناطق.
اليوم المشاركة اجتذبتْ أكثر من 380 ألف ناخب في هذه البلديات، مع افتتاح مراكز التصَّويت في الصباح وسط استنفار أمني، لكن التحديات كانت كبيرة بعد أعمال غير قانونية، وتعديات أدتْ إلى تأجيل الانتخابات في سبع بلديات إلى 23 أغسطس 2025 .
وتعليمات أمنية من جهات حكومية «شرق ليبيا» أوقفتْ الانتخابات في 26 بلدية، ما حرَم أكثر من 150 ألف ناخب، وأكثر من 1,000 مرشح من حق التصويت والانتخاب .
المفوضية ادانتْ أعمال العنف، وطالبتْ بضمان حق المواطنين في المشاركة، كما عبرتْ حكومة الوحدة الوطنية عن أن العملية تعد خطوة مهمة نحو الدولة الديمقراطية، وأعربتْ عن أسفها لتعرّض الانتخابات للعرقلة .
وحسب قانون وتقسيم المفوضية:
البلديات الأصغر 25,000 نسمة: 7 أعضاء في المجلس 5 عبر القوائم: 3 عامة، مقعد للمرأة، مقعد لذوي الإعاقة، بالإضافة إلى مقعدين فرديين.
البلديات ذات عدد السكان بين 25,000 و75,000: 9 أعضاء 6 عبر القوائم: 3 عامة، مقعدين للنساء، مقعد للإعاقة، و3 أفراد.
البلديات الكبيرة 75,000: 11 عضوًا 7 عبر القوائم: 3 عامة، 3 للنساء، 1 للإعاقة، و4 أفراد .
المفوضية دعمتْ العملية الانتخابية واعتبرتها «علامة فارقة»، كما أدان المجتمع الدولي أي عرقلة للعملية كـ)العنف والتخريب( الذي واجه المرحلة الثانية وأنّ الانتخابات البلدية تمثل خطوة أولى في ترسيخ الحوكمة المحلية، تعزيز تمثيل المواطنين، واستعادة الثقة بالمؤسسات بعد عقد من الانقسامات
الملخص يمكنّنا القول بإنَّ انعدام الاستقرار السياسي منذ 2011 أعاق إجراء انتخابات محلية، حتى أعيد تنظيم البلديات عام 2012.
المرحلة الأولى نوفمبر 2024: انتخابات في 58 بلدية، مشاركة عالية، دعم أممي.
المرحلة الثانية مراحل ما قبل الانتخابات مارس أبريل 2025: تسجيل أولي للمئات من الآلاف، ثم عزوف واضح عند الفتح النهائي للتسجيل.
المرحلة الثالثة الاقتراع أغسطس 2025: صرف في بعض البلديات، واستمرار في أخرى، أعمال عنف وتضييق أمني أجّلتْ العملية في عدة مناطق، اجتذاب قرابة 380 ألف ناخب في بلديات شاركت.
وأخيرًا .. يمكنَّنا القول إنَّ الانتخابات البلدية تشكل في ليبيا محطة أساسية في مسار بناء الدولة واستعادة شرعية مؤسساتها عبر الاحتكام إلى إرادة الشعب.
ورغم ما شاب العملية من عراقيل أمنية وانقسامات سياسية، وتحديات لوجستية، فإن مجرد إجراء هذه الانتخابات يُعد إنجازًا في ظل الواقع المعقد الذي تعيشه البلاد..فقد أبرزت التجربة، من جهة، تعطش المواطنين للمشاركة في صُنع القرار المحلي، ومن جهة أخرى عمق التحديات التي تحوَّل دون إنجاح الاستحقاقات الديمقراطية بشكل كامل. ومن هنا، يتضح أن الطريق نحو ترسيخ الممارسة الديمقراطية في ليبيا يتطلب المزيد من الاستقرار السياسى ومؤسسات موحدة، وضمانات أمنية وقانونية تحمي العملية الانتخابية من التدخلات والعرقلة.
إن نجاح الانتخابات المحلية اليوم يُمكن أن يكون خطوة تمهيدية نحو استحقاقات وطنية أوسع غدًا، تُعيد لليبيا استقرارها وتُرسخ قيم الديمقراطية والحكم الرشيد.