البورتريه الشعري في مأدبة لبكاء مر.. قراءة في مجموعة «مأدبة لبكاء مُرّ» لجمعة الموفق
عبد الحفيظ العابد

تنماز قصائد جمعة الموفق بأنها قصائد يومية، منحازة للهامش، مغموسة في حبره، متخذة من العرضي اليومي مرجعيّة لها، لكنّها في المقابل تقارب هذا اليومي وفق آليات اشتغال خاصة بها تتجاوز حدود النوع الشعري المألوفة لتنفتح على تقنيات تصويرية تغدو فيها عين الشاعر الكاميرا التي يحرّكها لالتقاط مشاهداته اليومية من خلال زوايا نظره الخاصة، وفي ضوء ذلك ينبني نص شعريّ لا يضع كلّ بيوضه في عُشّ المخيلة، وإنما تشيّد صوره المجازات والمشاهدات معاً، فتمتزج رؤية العين برؤية المخيّلة.
تضع نصوص جمعة الموفق الإنسان في أتون التجربة الشعرية فتقدّمه منزوع الأقنعة، عارياً إلا من آدميته وتناقضاته، وهي في مقاربتها الإنسان ترسم بالكلمات بورتريهات شعرية تنحو منحى تعبيرياً وتجريدياً، وفي بعض الأحيان تقدّم بورتريهات ساخرة أقرب إلى الكاريكاتير الشعري، وفي أحيان أخرى نكون إزاء قصائد طويلة تشبه الجداريات الشعرية أو البورتريهات الجماعية، هاته البورتريهات الشعرية تكسر قاعدة الشبه التي ينهض عليها فنّ البورتريه في رسم الشخصية؛ إذ يغدو البورتريه شكلاً من أشكال كتابة الأنا ورصدها الآخر في الآن ذاته، فتكشف الذات عن ملامحها في البورتريه الذاتي، وتتواري خلف الآخر في البورتريه الغيري «بو الوفاء، 2022، ص:37»؛ أي أن البورتريه شكل من أشكال كتابة الذات.
البورتريه الذاتي:
يستدعي هذا النوع أنماطاً أخرى من كتابة الذات منها: القصيدة السير ذاتية، وقصيدة المرايا، والسيلفي الشعري، كلّ هذه الأنماط تتخذ من الذات موضوعاً لها؛ ذلك أنّ الإنسان منذ أنْ رأى صورته في الماء بوصفه المرآة الأولى صار مفتوناً بنفسه، وكتابتها من خلال سرد تاريخها، أو عبر مواجهة صورته كما في قصيدة المرآة التي لا تتخلّى عن السرد الذي يبرز في افتراض حوار، لغوي وصوري وإيقاعي ودلالي بين الشاعر والكائنات الكامنة في المرايا «الصكر، 1999، ص:81».
ينهض البورتريه الذاتي على سرد السيرة الذاتية للفنان، فمن خلاله يمكن التعرّف على شكل الفنان وعمره وحالته المزاجية، كما أنه يفصح عن كثير من جوانب شخصيّته «سيد، 2025، ص:10»، ومن ثمّ يغيب الحوار في هذ النوع من البورتريه؛ لأنّ الشاعر في البورتريه الذاتي لا يواجه صورته كما في قصيدة المرآة، وإنما يواجه فراغاً وهو يحاول عبر ملئه أن يعيد تشكيل ذاته، هذا ما نقرؤه في النص التالي:
الشاعر
جئتُ لهذا العالم
أحملُ سكّيناً
ومِعولاً
خريطة تيه
جبلاً من مكائد
من أقدار
وغشم
جئتُ محتجّاً
ساخطاً
ووافر الأسى
يضعنا النص أمام علاقة متوترة بين الشاعر والعالم، هذا التوتر الذي يبدو على ملامح الشخصية في البورتريه الذاتي هنا يغدو معه الشعر فعل احتجاج ورفض، يستدعي أدوات أخرى غير الدواة والحبر، إنه فعل هدم وتشويه، ينزع عن العالم والشخصية قناعيهما، ويلتمس طريقه في اللاطريق، لأنه غير مسكون بسؤال النهايات، فتضحي الكتابة بذلك رحلة دون وجهة معلومة، إنها صيرورة لغوية، تحاول أن تخترق الصورة النمطية للشعر والشاعر، وهو ما تبدّى فعليّاً في هذا البورتريه الذاتي الذي هدم صورة الشاعر النموذج، فالشاعر الذي ينبثق من الفراغ (جئتُ) يكتسب وجوده من مغايرة صورة الشاعر، وكسر قاعدة الشبه، فالبورتريه يقدّم شاعراً وافر الحزن والسخط، يشهر معوله وسكّينه في وجه العالم، شاعر لا يمتدح الحِكمة، زاده (غشم) ومكائد، يتلذذ بالتيه الذي يقود سؤال الكتابة.
يتسم البورتريه الذاتي بنوع من الثبات رغم وجود الفعل (جئتُ)، لكنّ المجيء يمثّل انبثاق الشخصية في الفراغ، وهو انبثاق تدريجي، فالمجيء فعل ملء تكتمل بتكراره صورة الشاعر، ولهذا يتكرر في النص:
جئتُ من غرق
وقاع
من مربط الحمير
من صرير الكوخ
من القاطر
وفراش الحلفاء
أستدلّ بالسحاب
بالريح
بالمطر
والعواصف
بنجمة الصباح
بجمر المواقد
إننا إزاء كتابة الهامش الماثل في المجيء من القاع ومربط الحمير وصرير الكوخ وفراش الحلفاء، هذا الهامش الذي يحيل على بيئة قروية تقع على هامش المدينة يتخذ منه الشاعر تقنية لرسم بورتريه ذاتي، وهو بذلك يزاحم بجسده الشعري لكي يكون في متن الكتابة الشعرية، وهنا نكون أمام حالة من التماثل بين المجيء من القاع والانبثاق من الفراغ، حيث تدعم الدوال اللغوية المشاهدات في رسم بورتريه ذاتي لشاعر عصامي يدفع بالهامش واليومي لكي يكون متناً دون أن يتخلّى عن شعريته العالية، شاعر غير مسكون باقتفاء حوافر الشعراء، يأخذ الحرف من الثغاء والعواء والنباح:
أخذتُ الحرف
من الثغاء
والعواء
والنباح
من تعب الأميال
من الحذاء المهترئ
من الثوب الرث
وبصاق المعلّم
يعيدنا هذا المقطع إلى مفهوم المحاكاة الأرسطية التي حاولت أنْ تؤسس لأقدم الشعريات من خلال ربط الفن بالطبيعة، حيث ترتسم شخصية الشاعر في هذا البورتريه الذاتي عبر تجذير صوت الشاعر في الطبيعة، واتخاذ موقف سلبي من التعلّم، يشي بذلك تعب الأميال والحذاء المهترئ وبُصاق المعلّم، ويبدو للقارئ هنا أنه رغم خلو المقطع من المجازات إلا أنه ينطوي على شعرية لافتة منشؤها القدرة على رسم شخصية الشاعر على نحو مغاير، فنكون إزاء بورتريه تكتسب فيه شخصية الشاعر ملامحها بالابتعاد عن صورة الشاعر النموذج وخلق فجوة معها.
هكذا يبدو هذا النص ونصوص أخرى في مجموعة «مأدبة لبكاء مر» مسكونة برسم شخصيّاتها تجريّدياً دون اعتبار لقاعدة الشبه، زادُها في ذلك لغة مغمّسة في اليومي والهامشي، وسرد ساخر أداته المفارقة، وقدرة على توظيف المشاهدات في ابتناء نصوص شعرية تتحرّر جزئياً من هيمنة الانزياحات اللغوية، لكنّها في الوقت نفسه تلتمس شعريتها في انزياح البورتريهات الشعرية التي تشيّدها عن أصولها التي تقاربها.



