في رواية )بروكلين هايتس( للروائية المصرية ميرال الطحاوي يدخل القارئ إلى عالم مختلف عن رواياتها السابقة )الخباء(، )الباذنجانة الزرقاء(، )نقراتُ الضباءِ( التي سردت من خلالهن عالم مجتمع البدو فى الصحراء الغربية لمصر ولأن الروائية ابنة تلك المنطقة؛ فلقد أبدعت في رسم المجتمع، وحياة المرأة، وتقاليده ومحاولة بطلات رواياتها، التمرد على مجتمع البدو وموروثاته التي تخنق أرواحهن.
تكتب الروائية ميرال الطحاوى، عن عالم )بلدة بروكلين( إحدى بلدات مدينة «نيويورك»، وهى المدينة التي انتقلت، إليها الكاتبة لاكمال دراستها العليا ورغم اختلاف نسق روايتها، عن رواياتها السابقة، ولكن عالم بدو الصحراء الغربية بارز في الرواية من خلال سيرة بطلة الرواية «هند» التي تركت بلادها، وسافرتْ لإكمال دراستها العليا مع ابنها وعملت مدرسة للغة العربية وأصبح لديها حلمٌ بأن تكون شاعرة، فى بلدة «بروكلين» التي تبرع في وصف عالم المهاجرين العرب الذين تلتقيهم، فى المنطقة التي استقروا فيها وهم خليطٌ من جنسيات عربية مختلفة من فلسطينيين، ولبنانيين، ومصريين ويمنيين، يلتقون يومًيا، فى مقهى «ألف ليلة وليلة» ويبدو اسم المقهى كأسقاط على اسم الرواية الشهيرة وكعنوان لقصص اغتراب العرب فى مدينة «نيويورك» الأمريكية.
تسرد الكاتبة فى فصول روايتها تفاصيل، قصص هجرة بعض المهاجرين العرب فى أمريكا ومنهم نجيب الفلسطيني من مدينة الخليلي، والأرمني ناراك، وعبد الكريم الكردي، وليليت المصرية التي غدتْ تفقد الكثير من ذاكرتها غيرها من الشخصيات، التي تلمسها الكاتبة وتكتب عن عوالمها فى بلدة «بروكلين»، ولكن من بعيد، دون أن يكون ثمة أحداث مع سيرة بطلة الرواية التي تجلس من بعيد تراقب ذلك الجزء من بلدة «بروكلين»، التي تضج بحياة المهاجرين من جنسيات المختلفة، والقهوة العربية التي تجلس فيها لتستذكر، ذكريات بلادها وموطنها التي تركتها خلفها وتستدعيها فى فلاش باك عبر استذكار طفولتها وحياتها مع والديها وأخوتها التي كانت تسكن قرية في البحيرة اسمها «تلال فرعون» وعن رغبتها الدائمة في الهرب من أسرتها، والسفر بعيدًا عن قريتها الضيقة وحتى بعد أن تتزوج تشعر بأن القيد ازداد متانة حول رقبتها بعد اكتشافها لخيانات زوجها المتكرَّرة فتترك كل شيء، وتسافر مع ابنها إلى أمريكا ولكنها لا تستطيع الهرب من ذاكرتها وماضي طفولتها وشبابها، فى قريتها البدوية ومجتمعها البدوي الذكوري الذى رسم تفاصيله على روحها والذى جعلها دائمًا تشعر، بالأثم من جسدها فكانت تعمل على تغطية جسدها بالكامل كي تكون أكثر تقوى في عيون الآخرين وترهق نفسها بالصلاة، ولا ترفع عينيها عن الطريق طيلة مشيها مع صديقاتها إلى المدرسة خلال سنوات حياتها بقريتها، ولكنها رغم كل ذلك كأن شيئًا فى روحها، يحلم بالتمرد، وأن تكون لائقة بدور البطولة وتلبس ملابس مكشوفة وترقص مثل زميلتها بالمدرسة «زوبة»، التى تحاول مغازلة مدرس الرسم الذى يحرم رسم الكائنات الحيَّة ويطلب منهن رسم الطبيعة فقط، ويتظاهر بكراهية «زوبة» التي تناكشه، وتتعلق «هند» بمدرسها وتحبه فى الخفاء ولكن بعد فترة تصحو المدرسة على خبر حمل «زوبة» من مدرس الرسم وهروبهما، ثم زواجهما، وعودتهما للمدرسة كزوجين.
تسرد الكاتبة فى روايتها عالم القرية القديم، الذى تستذكره هند بطلة الرواية، وكأن جسدها فقط هو الموجود بـ«بروكلين»، ولكن عقلها وفكرها وذاكرتها، تتحرك هناك في أقاصي ماضي الطفولة، والصبا فى قريتها فبطلة الرواية هند، التي حققت حلم السفر، والخروج من قريتها بداية بالزواج ممن أحبته ثم بالسفر إلى أمريكا، لم تستطع التحرَّر من ذاكرتها وروائح الحنين والشجن التي تكتبها عن ماضي حياتها بالقرية؛ فهي لم تمتزج مع حضارة البلاد التي هاجرت إليها، ولم تدخل فى تجارب، أو تمازج مع الآخر بل انتبذت مكانًا قصيًا، تتأمل عالم البلاد الجديدة لتصف الشخصيات التي تراها وتصادفها أمامها وتصف الشوارع والمباني، بلغة بصرية جميلة تنقلك لبلدة بروكلين ولكن كل ذلك يتم عن بعد وكأن بطلة الرواية منقسمة، بين روحين روحٌ تركتها هناك فى القرية مع روائح الأم والأب، والأخوة وأهالي القرية، وروح جديدة استقرت في بلاد المهجر باحثة عن عالم أكثر رحابة كما حلمت، قبل سفرها ولكنها تصطدم بقيم العالم الجديد الذى لا تستسيغ تميعه واستهلاكيته فترفض أن تدخل فى علاقة عابرة،رمع جارها بالسكن لأنها متمسكة بمبادئها وقيمها الشرقية التي استقتها من روح القرية وتربيتها الشرقية والعربية فترفض أن تكون مجرد جسد عابر على فراش رجل اشتهاها وحاول أغواءها بتمارين الرقص.
تنجح الروائية ميرال الطحاوي من خلال روايتها، في رسم تمزق امرأة شرقية بين عالمين، عالم يغطيها من رأسها حتى قدميها ويعد جسدها وصوتها عورة، ومنبع للخطيئة والأثم، فيجب أن تحجبه عن الجميع وعالم آخر يرى في جسد المرأة شيئًا متاحًا وسهلًا وعابرًا؛ فالكاتبة ضمنيًا فى الرواية تدين العالمين، فهي لم تجد نفسها فى عالم القرية والبدو ولم تجد نفسها في عالم البلاد الحديثة التي تهب البشر كل شيء، ولكنها تحاول استلاب أرواحهم لتغرقهم في عالم الاستهلاك المادي والجسدى.
في نهاية الرواية تموت «ليليت» المرأة المصرية، المهاجرة من بلادها منذ عقود وتعيش مع ابنها الوحيد وزوجته وأولاده، بعد أن كبرت فى العمر وأصبحت تنسى وتفقد جزءًا من ذاكرتها وحين تعرض مقتنياتها فى ساحة البلدة ، تدهش بطلة الرواية حين تكتشف بأنها مقتنياتها الشخصية وملابس ومقتيات أمها القديمة وتختم الروائية،روايتها بهذا المشهد السوريالي في إشارة إلى تنبؤ بطلة الرواية بموتها، بعد عقود فى البلاد التي هاجرت إليها وتناثر اشياؤها بين الغرباء وسواح المدينة فى رثائية وصورة واقعية لنهاية المغتربين عن بلادهم وموتهم ودفنهم فى أوطان ليست أوطانهم.
الرواية رغم اعتمادها الكلى على الذاكرة والذكريات وخلوها من الأحداث إلا إن بها الكثير من الرموز والإشارات والإحالات على علاقة الشرق بالغرب وعلاقة المرأة العربية الممتلئة بزخم هويتها وموروثها الشرقي بالغرب في رواية بديعة برعت في الدخول لعمق العلاقة بين الشرق والغرب وصراع الموروث والهوية.