رتوش

 (السفنز) .. من غمراسن إلى بنغازي

أ‌. فرج غيث

على‭ ‬الطريق

على امتدادنا المغاربي

حكاية‭ ‬جميلة‭ ‬من‭ ‬بلادنا‭ ‬المغاربية‭ ‬تروي‭ ‬لنا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬موروثنا‭ ‬الغذائي‭ ‬المشوق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المناطق،‭ ‬هي‭ ‬حكاية‭ ‬فطيرة‭ ‬مقلية‭ ‬زيتية‭ ‬لذيذة‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬الليبيون‭ ‬اسم‭ (‬السفنزة‭) ‬ليميّزوها‭ ‬عن‭ ‬شبيهتها‭ ‬الفطيرة‭ ‬الليبية،‭ ‬والتي‭ ‬تعملها‭ ‬أمهاتنا‭ ‬رقائق‭ ‬من‭ ‬دقيق‭ ‬يعجن‭ ‬بالماء‭ ‬والزيت،‭ ‬ونتناولها‭ ‬مرفقة‭ ‬بالعسل‭ ‬والسكر‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬الفطر،‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الزمن‭ ‬الجميل،‭ ‬أو‭ ‬الأيام‭ ‬الخوالي،‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬

و‭(‬السفنزة‭) ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المعجنات‭ ‬الطرية‭ ‬المقلية‭ ‬اللذيذة،‭ ‬شبيهة‭ ‬بالفطائر،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يضاف‭ ‬لها‭ ‬العسل،‭ ‬وقد‭ ‬يتم‭ ‬قلي‭ ‬البيض‭ ‬معها،‭ ‬ويكثر‭ ‬عليها‭ ‬الطلب‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء،‭ ‬وتقدم‭ ‬كإفطار‭ ‬صباحي،‭ ‬أو‭ ‬عشاء،‭ ‬وفي‭ ‬الغالب‭ ‬يتم‭ ‬يتناول‭ (‬السفنز‭) ‬في‭ ‬الصباح،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الشتاء،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يحب‭ ‬أن‭ ‬يغمسها‭ ‬في‭ ‬العسل‭ ‬أو‭ ‬السكر،‭ ‬أو‭ ‬يتناوله‭ ‬مع‭ ‬الشطة‭ (‬الهريسة‭) ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬طرابلس،‭ ‬وكذلك‭ ‬يتم‭ ‬تحضيرها‭ ‬للمناسبات،‭ ‬وخاصةً‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬وعيد‭ ‬الفطر‭.‬

وجرت‭ ‬العادة‭ ‬لدى‭ ‬الليبيون‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬بزيادة‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬المأكولات‭ ‬الشعبية،‭ ‬وعند‭ ‬ذكر‭ ‬هذه‭ ‬المأكولات‭ ‬فلا‭ ‬غنى‭ ‬عن‭ (‬السنفاز‭)‬،‭ ‬فالموائد‭ ‬الرمضانية‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ (‬سفنزاته‭) ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬صحبة‭ ‬المرافقات‭ ‬لها،‭ ‬الزلابية‭ ‬والمخارق‭ (‬العسلة‭) ‬والمقروض،‭ ‬مأكولات‭ ‬تراثية‭ ‬يستمتع‭ ‬بها‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬حتى‭ ‬اصبحت‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬الغذائي‭ ‬لهذا‭ ‬الشهر‭ ‬الفضيل،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬توزع‭ ‬على‭ ‬الاحباب‭ ‬والجيران‭ ‬والأقارب‭ ‬ابتهاجاً‭ ‬بقدوم‭ ‬مولود‭ ‬جديد‭. ‬

عراقة‭ (‬السفنز‭) ‬اعتبر‭ ‬من‭ ‬الموروث‭ ‬الغذائي‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وتونس‭ ‬والجزائر،‭ ‬فهذه‭ ‬الفطائر‭ ‬اللذيذة‭ ‬اِشتهر‭ ‬بها‭ ‬أهالي‭ ‬معتمدية‭ ‬غمراسن‭ ‬بولاية‭ ‬تطاوين‭ ‬التونسية‭ ‬ومنها‭ ‬صدرت‭ ‬لخارج‭ ‬تونس‭ ‬الحبيبة،‭ ‬لتصبح‭  ‬هذه‭ ‬الفطائر‭ (‬السفنز‭) ‬الغمراسنية‭ ‬هدية‭ ‬جنوب‭ ‬تونس‭ ‬للعالم،‭ ‬حرفة‭ ‬اتقنها‭ ‬أهالي‭ ‬غمراسن‭ ‬وأصبحوا‭ ‬يمارسونهَا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وهناك‭ ‬فرضوا‭ ‬عاداتهم‭ ‬الغذائية‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬الأوروبيين‭. ‬

ولاهتمام‭ ‬أهالي‭ ‬غمراسن‭ ‬بهذا‭ ‬الموروث‭ ‬الغذائي‭ ‬انطلقت‭ ‬مساء‭ ‬السبت‭ ‬25‭ ‬يونيو‭ ‬2022م‭ ‬في‭ ‬غمراسن‭ ‬حملة‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ (‬فطائر‭ ‬غمراسن‭ ‬من‭ ‬مهارة‭ ‬تقليدية‭ ‬الى‭ ‬هوية‭ ‬جماعية‭)‬،‭ ‬لإعداد‭ ‬ملف‭ ‬إدراج‭ (‬فطائر‭ ‬غمراسن‭) ‬على‭ ‬لائحة‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬العالمي‭ ‬غير‭ ‬المادي‭ ‬للطهي‭ ‬والممارسات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لمنظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للتربية‭ ‬والعلوم‭ ‬والثقافة‭ ‬UNESCO‭ ‬الخاصة‭ ‬بالتراث‭ ‬الإنساني،‭ ‬وأدى‭ ‬وفد‭ ‬UNESCO‭ ‬زيارة‭ ‬الى‭ ‬معتمدية‭ ‬غمراسن‭ ‬للاطلاع‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬مهنة‭ ‬الفطائر‭ ‬وتجذرها‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة،‭ ‬وانتشارها‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬الوطني‭ ‬والعالمي،‭ ‬حيث‭ ‬تتواجد‭ ‬دكاكين‭ ‬بيع‭ ‬الفطائر‭ ‬بمختلف‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬والعربية،‭ ‬وفي‭ ‬غالبها‭ ‬بإيادي‭ ‬غمراسنية،‭ ‬وتم‭ ‬افتتاح‭ ‬المعرض‭ ‬النموذجي‭ ‬لتثمين‭ ‬الفطائر‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ (‬فطيرة‭ ‬جدي‭ ‬نعلمها‭ ‬لولدي‭).‬

غمراسن،‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الجبلية‭ ‬الشهيرة‭ ‬بخصائص‭ ‬أهلها،‭ ‬والمتربّعة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الجنوب‭ ‬الشّرقي‭ ‬للبلاد‭ ‬التونسية،‭ ‬والضاربة‭ ‬جذورها‭ ‬منذ‭ ‬أقدم‭ ‬العصور،‭ ‬بآثار‭ ‬الديناصورات‭ ‬المكتشفة‭ ‬في‭ ‬جبالها‭ ‬ورسوم‭ ‬الإنسان‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬كهوفها،‭ ‬هي‭ ‬عاصمة‭ ‬ورغمة،‭ ‬بمأثرها‭ ‬مثل‭ ‬قصر‭ ‬الحدادة،‭ ‬وقصر‭ ‬الرصفة،‭ ‬وقصر‭ ‬الفرش،‭ ‬وقصر‭ ‬المرابطين،‭ ‬وقصر‭ ‬الترك،‭ ‬وقصر‭ ‬البيولي،‭ ‬وقصر‭ ‬بن‭ ‬غدير،‭ ‬وقلعة‭ ‬حمدون،‭ ‬وباطن‭ ‬أم‭ ‬مضباع،‭ ‬والباطن‭ ‬الأحمر،‭ ‬وقرماسة‭ ‬القديمة،‭ ‬وانسفري‭ ‬زغدان،‭ ‬وادي‭ ‬الخيل،‭ ‬الواحة،‭ ‬الزهور،‭ ‬القرضاب،‭ ‬المدينة‭ ‬الجديدة،‭ ‬الخ،‭ ‬فــ‭ ‬غمراسن‭ ‬ليست‭ ‬فطائر‭ (‬سفنز‭) ‬فقط‭.‬

اشتهرت‭ ‬أيضا‭ ‬بحلوياتها‭ ‬من‭ (‬الزلابية‭ ‬والمخارق‭ ‬والمقروض‭ ‬الغمراسني‭ ‬وأذن‭ ‬القاضي‭ ‬والبانان‭ ‬والصمصة‭ ‬والفطاير‭ ‬الحلوة‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬علامات‭ ‬مسجّلة‭ ‬وحصرية‭ ‬للبلدة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬والعالم،‭ ‬والتي‭ ‬لأجلها‭ ‬يقول‭ ‬كريم‭ ‬الغول،‭ ‬أبن‭ ‬مدينة‭ ‬مدنين،‭ ‬إنّه‭ ‬مستعدّ‭ ‬أن‭ ‬يقصدها‭ ‬كلّ‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬رمضان،‭ ‬مهما‭ ‬بعدت‭ ‬المسافة،‭ ‬ليزيّن‭ ‬سفرة‭ ‬الإفطار‭ ‬والسهرة‭ ‬بحلوياتها،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬طعم‭ ‬يضاهيها‭. ‬

عرفت‭ ‬معتمدية‭ ‬غمراسن‭ ‬وولاية‭ ‬تطاوين‭ ‬بالكامل‭ ‬بهذا‭ ‬المنتج‭ ‬الغذائي‭ ‬وهذه‭ ‬الحرفة‭ ‬التقليدية،‭ ‬وبرزت‭ ‬عراقته‭ ‬للأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬وذلك‭ ‬لإحيائها‭ ‬والتشجيع‭ ‬على‭ ‬امتهانها‭ ‬كرافد‭ ‬اقتصادي‭ ‬أساسي،‭ ‬فكانت‭ ‬فكرة‭ ‬مهرجان‭ ‬الفطائر‭ ‬بغمراسن،‭ ‬بفقرات‭ ‬متنوعة،‭ ‬منها‭ ‬معرض‭ ‬الفطائر‭ ‬والحلويات‭ ‬التقليدية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬يشارك‭ ‬فيه‭ ‬مختلف‭ (‬الفطائرية‭) ‬من‭ ‬تونس،‭ ‬والتونسيون‭ ‬العاملون‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬والجزائر،‭ ‬وفرنسا،‭ ‬وزوار‭ ‬المهرجان‭ ‬من‭ ‬مُحبي‭ (‬البامبالوني‭) ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أصناف‭ ‬الفطائر‭ ‬العديدة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬لقرن‭ ‬غزال،‭ ‬والزلابية،‭ ‬والمقروض‭ ‬الغمراسني،‭ ‬وعديد‭ ‬اصناف‭ ‬الحلويات‭ ‬التقليدية‭ ‬الاصيلة‭ ‬المميزة،‭ ‬يطلعون‭ ‬على‭ ‬طرق‭ ‬صنعها‭ ‬وبهجة‭ ‬رائحتها‭ ‬وسرّ‭ ‬مذاقها،‭ ‬مذاق‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬إخراجه‭ ‬قصص‭ ‬الغربة،‭ ‬ولوعة‭ ‬الشوق‭ ‬وكفاح‭ ‬الفطائري‭ ‬خارج‭ ‬الوطن،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬احتراقها‭ ‬بالزيت‭ ‬وصفا‭ ‬لهذا،‭ ‬لكن‭ ‬صوت‭ ‬بداية‭ ‬التقائها‭ ‬معه‭ ‬والرائحة‭ ‬التي‭ ‬تملك‭ ‬المكان‭ ‬وقتها‭ ‬تحكي‭ ‬بعدا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬اللذة‭ ‬والجمال،‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وقد‭ ‬استطاعت‭ ‬الفطائر‭ ‬الغمراسنية‭ ‬أينما‭ ‬حلت‭ ‬مع‭ ‬المهاجرين‭ ‬أن‭ ‬تتأصل‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬الغربة‭ ‬لتصبح‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬نسيجه‭ ‬الاقتصادي‭ ‬ومن‭ ‬عاداته‭ ‬الغذائية‭ ‬اليومية‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

تماما‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬رحلة‭ (‬السفنز‭) ‬من‭ ‬معتمدية‭ ‬غمراسن‭ ‬وحتى‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي،‭ ‬تأصل‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬بل‭ ‬تخطى‭ ‬حدودها‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬المجاورة‭ ‬مثل‭ ‬ليبيا‭ ‬والجزائر،‭ ‬وانتشرت‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬فلا‭ ‬تتعجب‭ ‬عندما‭ ‬تجد‭ (‬السفنز‭) ‬في‭ ‬ديترويت‭ ‬الامريكية،‭ ‬وأثينا،‭ ‬وميلانو،‭ ‬ومدريد،‭ ‬وفرايبورغ،‭ ‬ومالمو،‭ ‬وبودابيست،‭ ‬وموسكو،‭ ‬ومدن‭ ‬اخرى‭ ‬بعيدة‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬لتبقى‭ ‬علامة‭ ‬مسجلة‭ ‬لفائدة‭ ‬فطائري‭ ‬غمراسن‭ ‬منذ‭ ‬القرون‭ ‬الماضية،‭ ‬حيث‭ ‬بُعثت‭ ‬لها‭ ‬هياكل‭ ‬منذ‭ ‬القدم‭ ‬لتنظيم‭ (‬الصنعة‭) ‬وضبطها‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الغرف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والهياكل‭ ‬المهنية‭ ‬في‭ ‬زمننا‭ ‬الحاضر،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬الوقوف‭ ‬عنده‭ ‬لتأمُّل‭ ‬مستوى‭ ‬وعي‭ ‬التجار‭ ‬والفطائرية‭ ‬آنذاك،‭ ‬رغم‭ ‬السياق‭ ‬التاريخي‭ ‬والإطار‭ ‬العام‭ ‬للبلاد‭ ‬التونسية‭ ‬من‭ ‬استعمار‭ ‬وتدني‭ ‬في‭ ‬الوعي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬انتشار‭ ‬المنتوج‭ ‬وإشعاعه،‭ ‬بالإضافة‭ ‬لكثرة‭ (‬الدكاكين‭) ‬وازدهار‭ ‬التجارة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬أمين‭ (‬نقيب‭) ‬الفطائرية‭ ‬الذي‭ ‬يضبط‭ ‬التعامل‭ ‬بين‭ ‬التجار،‭ ‬ويسهر‭ ‬على‭ ‬مراقبة‭ ‬الأطر‭ ‬العامة‭ (‬للصنعة‭) ‬داخل‭ ‬السوق،‭ ‬ويمثّل‭ ‬الفطائرية،‭ ‬وينقل‭ ‬مطالبهم‭ ‬للجهات‭ ‬المختصة،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذو‭ ‬خبرة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

ذكر‭ ‬المؤرّخ‭ ‬والرحالة‭ ‬التونسي‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عثمان‭ ‬الحشائشي‭ ‬عن‭ ‬مكانة‭ ‬الفطائر‭ (‬السفنز‭) ‬في‭ ‬تونس‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬مبرزا‭ ‬أصولها‭ ‬الغمراسنية،‭ ‬وتصدُّرها‭ ‬للعادات‭ ‬الغذائية‭ ‬للتونسي،‭ ‬رغم‭ ‬منافسة‭ ‬باقي‭ ‬الحلويات‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬تونس‭ ‬تاريخيا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬مضى‭.‬

هذه‭ ‬الفطيرة‭ ‬التونسية‭ ‬اللذيذة‭ ‬استعارها‭ ‬الليبيون‭ ‬الطرابلسية،‭ ‬من‭ ‬التونسيون،‭ ‬كما‭ ‬استعاروا‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المهن‭ ‬والحرف‭ ‬التي‭ ‬جلب‭ ‬ولاة‭ ‬طرابلس‭ ‬العثمانيون‭ ‬والقره‭ ‬مانليون،‭ ‬حرفيوها‭ ‬من‭ ‬تونس،‭ ‬ولكن‭ ‬الطرابلسية‭ ‬أبدعوا‭ ‬بذوق‭ ‬كلامهم‭ ‬اسمها،‭ ‬فشبهوها‭ ‬باستعارة‭ ‬بليغة‭ ‬بـ‭ (‬الإسفنج‭ ‬البحري‭) ‬فــ‭ (‬السفنز‭) ‬هو‭ ‬تحوير‭ ‬لهجي‭ ‬لأسم‭ ‬نبتة‭ (‬الإسفنج‭ ‬البحري‭) ‬الذي‭ ‬يعرّف‭ ‬بحيوان‭ ‬من‭ (‬الإسفنجيات‭) ‬وهي‭ ‬الحيوانات‭ ‬المسامية‭ ‬الهلامية‭ ‬ذات‭ ‬اللون‭ ‬البني‭ ‬الفاتح‭ ‬والغامق‭ ‬المكتنزة‭ ‬بالقنوات‭ ‬المائية‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬عيون‭ ‬وفجوات،‭ ‬وكانت‭ ‬الشواطئ‭ ‬الليبية‭ ‬مشهورة‭ ‬بتوّفرها،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬التجارات‭ ‬الرابحة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬كالحلفاء‭ ‬وملح‭ ‬الطعام‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬النفط‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬الذي‭ ‬أنسكب‭ ‬علينا‭ ‬بخيره‭ ‬العميم،‭ ‬وزفته‭ ‬الذميم،‭ ‬وزيته‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬زيت‭ ‬الزيتونة‭ ‬المباركة،‭ ‬زيتها‭ ‬يضئ‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تمسسه‭ ‬نار،‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نستلذه‭ ‬مع‭ (‬سفنزة‭) ‬من‭ ‬السنفاز،‭ ‬وهم‭ ‬كثر،‭ ‬منهم‭ ‬السنفاز‭ ‬عمر‭ ‬النالوتي،‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬طرابلس،‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬جرت‭ ‬العادة‭ ‬بأن‭ ‬بائع‭ (‬السفنز‭) ‬يتجول‭ ‬في‭ ‬الازقة‭ ‬حاملا‭ ‬على‭ ‬راسه‭ ‬إنا‭ ‬كبير‭ (‬لايان‭)‬،‭ ‬خدمة‭ ‬للمواطن‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يتعب‭ ‬ويذهب‭ ‬الى‭ (‬لسنفاز‭)‬،‭ ‬ويقف‭ ‬في‭ ‬الطابور‭.‬

صديقي‭ ‬الهيلاهوب‭ ‬الرائع‭ ‬والمهتم‭ ‬بموروث‭ ‬بنغازي‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬الزغيبي‭ ‬يقول‭: ‬كان‭ ‬السنفاز‭ ‬التونسي‭ ‬سي‭ ‬القمودي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬سيدى‭ ‬سالم،‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬صانعي‭ ‬وبائعي‭ (‬السفنز‭)‬،‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي،‭ ‬حيث‭ ‬تشم‭ ‬رائحة‭ (‬السفنز‭)‬،‭ ‬وأنت‭ ‬قادم‭ ‬الى‭ ‬محله‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬الظلام‭ ‬أو‭ ‬ميدان‭ ‬الحدادة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ميدان‭ ‬البلدية،‭ ‬كان‭ ‬الزبائن‭ ‬يترددون‭ ‬عليه،‭ ‬صباح‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬لتناول‭ (‬سفنز‭) ‬عادي‭ ‬أو‭ (‬سنفنز‭ ‬بالدحي‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬المحل‭ ‬يزدحم‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الصباح‭ ‬الأولى،‭ ‬وحتى‭ ‬ساعة‭ ‬الظهرية‭ ‬تقريبا،‭ ‬وهي‭ ‬فترة‭ ‬الإفطار‭ ‬للمارة‭ ‬والموظفين‭ ‬والعمال،‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يتناول‭ (‬السفنز‭) ‬واقفا‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬داخلية‭ ‬في‭ ‬المحل،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يأخذ‭ ‬طلبه‭ ‬الى‭ ‬بيته‭ ‬أو‭ ‬دكانه‭.‬

كان‭ (‬السنفاز‭) ‬سي‭ ‬القمودي‭ ‬رجل‭ ‬قصير‭ ‬القامة،‭ ‬يجلس‭ ‬القرفصاء‭ (‬متربعا‭) ‬على‭ ‬منضدة‭ ‬عالية،‭ ‬وجسمه‭ ‬من‭ ‬الأسفل‭ ‬مغطى‭ ‬بفوطة‭ ‬بيضاء،‭ ‬وكنا‭ ‬ونحن‭ ‬صغارا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ (‬السنفاز‭) ‬كسيح‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬النهوض‭ ‬من‭ ‬مكانه،‭ ‬حتى‭ ‬صادف‭ ‬وأن‭ ‬شاهدته‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬اصدقائي‭ ‬واقفا‭ ‬على‭ ‬رجليه،‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬مقابل‭ ‬لدكان‭ (‬السنفاز‭)‬،‭ ‬يجر‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬شوالات‭ ‬الدقيق،‭ (‬لزوم‭ ‬الشغل‭).‬

وكان‭ ‬يضع‭ ‬أمامه‭ ‬مباشرة‭ ‬مقلاة‭ ‬مليئة‭ ‬بزيت‭ ‬درجة‭ ‬حرارتها‭ ‬عالية،‭ ‬والى‭ ‬جانبه‭ ‬آناء‭ ‬بلاستيك‭ ‬كبير‭ ‬ملئ‭ ‬بالعجينة،‭ ‬يلتقط‭ ‬منها‭ ‬قرصة‭ ‬صغيرة‭ ‬وبحركة‭ ‬فنية‭ ‬يقذفها‭ ‬الى‭ ‬المقلاة،‭ ‬مع‭ ‬لسعة‭ ‬من‭ ‬الزيت‭ ‬الساخن‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المرات،‭ ‬ثم‭ ‬يحركها‭ (‬بتل‭) ‬سيخ‭ ‬حديدي‭ ‬حتى‭ ‬تنضج،‭ ‬ليقوم‭ ‬مساعده‭ ‬بغرس‭ (‬السفنزة‭) ‬الدائرية‭ ‬الجاهز‭ ‬بواسطة‭ (‬التل‭) ‬السيخ‭ ‬الحديدي،‭ ‬ويضعه‭ ‬في‭ ‬إنا‭ ‬كبير‭ (‬لايان‭) ‬لتصفيته،‭ ‬وتكون‭ ‬جاهزة‭ ‬للف‭ ‬في‭ ‬ورق‭ ‬وتقديمها‭ ‬للزبائن‭ ‬الذين‭ ‬ينتظرون‭ ‬بلهفة،‭ ‬وهم‭ ‬يرددون‭ ‬بلهجة‭ ‬البلاد‭: (‬عطيني‭ ‬أربع‭ ‬سفنزات‭ ‬الله‭ ‬يرحم‭ ‬ولديك،‭ ‬أنا‭ ‬عطيني‭ ‬عشر‭ ‬سفنزات،‭ ‬سقدني‭ ‬بس‭ ‬من‭ ‬فضلك،‭ ‬يا‭ ‬عمي‭ ‬عطيني‭ ‬اثنين‭ ‬بالدحي‭ ‬وستة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬دحي‭)‬،‭ ‬ويرد‭ ‬السنفاز‭ ‬سي‭ ‬القمودي‭ ‬بابتسامته‭ ‬حاضر،‭ ‬هذه‭ ‬الحوارات‭ ‬التي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬بين‭ ‬السنفاز‭ ‬وزبائنه،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬يحصل‭ ‬الزبون‭ ‬على‭ ‬طلباته‭ ‬ويذهب‭ ‬بها‭ ‬الى‭ ‬بيته‭ ‬ساخنة‭ ‬طازجة،‭ ‬تنتظره‭ ‬أمه‭ ‬لتقول‭ ‬له‭ (‬سلمك‭ ‬جياب‭ .. ‬وعليك‭ ‬حجاب‭).‬

وفي‭ ‬مدينة‭ ‬الياسمين‭ ‬درنة‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ (‬السنفاز‭) ‬محمد‭ ‬التطواني‭ ‬ذلك‭ ‬المتطوع‭ ‬التونسي‭ ‬لحرب‭ ‬48‭ ‬بفلسطين،‭ ‬وعند‭ ‬عودته‭ ‬اثر‭ ‬العيش‭ ‬بدرنة،‭ ‬سي‭ ‬محمد،‭ ‬روى‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬عام‭ ‬قصة‭ ‬هجرته‭ ‬إلى‭ ‬درنة،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬أنه‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬متطوعاً‭ ‬للقتال‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬فلسطين،‭ ‬والتحق‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬درنة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬ما‭ ‬لبثوا‭ ‬أن‭ ‬عادوا،‭ ‬فمكث‭ ‬في‭ ‬درنة،‭ ‬كان‭ ‬درناويا‭ ‬وليبيا‭ ‬اكثر‭ ‬من‭ ‬الكثيرين‭ ‬بقلبه‭ ‬الكبير‭ ‬وحبة‭ ‬لأهل‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬فيها،‭ ‬ولتونس‭ ‬والتونسيين‭ ‬وشائج‭ ‬وصلات‭ ‬أرحام‭ ‬قومية‭ ‬مع‭ ‬درنة‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬بيوتها‭ ‬ملاذاً‭ ‬آمنا‭ ‬لهم،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرئيس‭ ‬التونسي‭ ‬الراحل‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬الذي‭ ‬أستقر‭ ‬لفترة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬درنة،‭ ‬هذه‭ ‬الأمكنة‭ ‬ترعرعت‭ ‬بين‭ ‬جنباتها‭ ‬ثقافة‭ ‬وطنية‭ ‬وحس‭ ‬قومي‭ ‬أهلها‭ ‬لتلعب‭ ‬دورها‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية‭.‬

وفي‭ ‬بحث‭ ‬قمت‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬صانعي‭ (‬السفنز‭) ‬السنفازة‭ ‬التوانسة،‭ ‬وجدت‭ ‬بأن‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬الذين‭ ‬اشتهروا‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬وطرابلس‭ ‬ودرنة‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬تطوانية،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬معتمدية‭ ‬غمراسن،‭ ‬وهذا‭ ‬يؤكد‭ ‬كلام‭ ‬المؤرّخ‭ ‬والرحالة‭ ‬التونسي‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عثمان‭ ‬الحشائشي‭ ‬عن‭ ‬مكانة‭ (‬الفطائر‭) ‬في‭ ‬تونس‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬والغمراسنية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬ولعل‭ ‬سكان‭ ‬بنغازي‭ ‬تعرفوا‭ ‬على‭ ‬سي‭ ‬القمودي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬سيدي‭ ‬سالم‭ ‬بالمدينة‭ ‬القديمة،‭ ‬وسي‭ ‬سالم‭ ‬التطواني‭ (‬سنفاز‭) ‬منطقة‭ ‬الزريرعية‭ ‬المعروف،‭ ‬الذي‭ ‬أخبرني‭ ‬عن‭ ‬قصته‭ ‬بأنه‭ ‬متواجد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1968م،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬ترك‭ ‬تطاوين‭ ‬واتجه‭ ‬لليبيا‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬فرصة‭ ‬عمل،‭ ‬واستقر‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أمن‭ ‬لنفسه‭ ‬عمل‭ ‬صانع‭ ‬فطائر‭ (‬سنفاز‭) ‬وطاب‭ ‬له‭ ‬المقام‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬وعاش‭ ‬بين‭ ‬أهلها‭ ‬كأحد‭ ‬أفرادها،‭ ‬والقليل‭ ‬يعرفون‭ ‬بأن‭ ‬سي‭ ‬سالم‭ ‬التطواني‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬تونسية،‭ ‬يقول‭ ‬أنا‭ ‬أعرف‭ ‬بنغازي‭ ‬ومعظم‭ ‬المدن‭ ‬الليبية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معرفتي‭ ‬لمدن‭ ‬تونس،‭ ‬لأني‭ ‬جئت‭ ‬لبنغازي‭ ‬صغيرا،‭ ‬وأقمت‭ ‬فيها،‭ ‬هي‭ ‬قصة‭ ‬تعدت‭ ‬السبعة‭ ‬وخمسين‭ ‬عاما،‭ ‬وهي‭ ‬عراقة‭ ‬مهنة‭ ‬أبناء‭ ‬غمراسن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة‭. 

تحية‭ ‬لكل‭ ‬صنائعي‭ ‬نقل‭ ‬موروثه‭ ‬لخارج‭ ‬دياره،‭ ‬والتحية‭ ‬موصولة‭ ‬لأهل‭ ‬غمراسن‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموروث‭ ‬الغذائي‭ ‬اللذيذ،‭ ‬الذي‭ ‬استطاعوا‭ ‬بحرفية‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى