
على الطريق
على امتدادنا المغاربي
حكاية جميلة من بلادنا المغاربية تروي لنا جزءًا من موروثنا الغذائي المشوق في كل المناطق، هي حكاية فطيرة مقلية زيتية لذيذة أطلق عليها الليبيون اسم (السفنزة) ليميّزوها عن شبيهتها الفطيرة الليبية، والتي تعملها أمهاتنا رقائق من دقيق يعجن بالماء والزيت، ونتناولها مرفقة بالعسل والسكر في عيد الفطر، في أيام الزمن الجميل، أو الأيام الخوالي، التي سبقت هذا الزمن،
و(السفنزة) نوع من المعجنات الطرية المقلية اللذيذة، شبيهة بالفطائر، عادة ما يضاف لها العسل، وقد يتم قلي البيض معها، ويكثر عليها الطلب في فصل الشتاء، وتقدم كإفطار صباحي، أو عشاء، وفي الغالب يتم يتناول (السفنز) في الصباح، خاصة في أيام الشتاء، وهناك من يحب أن يغمسها في العسل أو السكر، أو يتناوله مع الشطة (الهريسة) كما يفعل أهلنا في مدينة طرابلس، وكذلك يتم تحضيرها للمناسبات، وخاصةً في شهر رمضان، وعيد الفطر.
وجرت العادة لدى الليبيون في شهر رمضان بزيادة الطلب على المأكولات الشعبية، وعند ذكر هذه المأكولات فلا غنى عن (السنفاز)، فالموائد الرمضانية لا تخلو من (سفنزاته) التي تفرض نفسها بقوة في شهر رمضان صحبة المرافقات لها، الزلابية والمخارق (العسلة) والمقروض، مأكولات تراثية يستمتع بها الجميع في شهر رمضان، حتى اصبحت من الموروث الغذائي لهذا الشهر الفضيل، وعادة ما توزع على الاحباب والجيران والأقارب ابتهاجاً بقدوم مولود جديد.
عراقة (السفنز) اعتبر من الموروث الغذائي في ليبيا وتونس والجزائر، فهذه الفطائر اللذيذة اِشتهر بها أهالي معتمدية غمراسن بولاية تطاوين التونسية ومنها صدرت لخارج تونس الحبيبة، لتصبح هذه الفطائر (السفنز) الغمراسنية هدية جنوب تونس للعالم، حرفة اتقنها أهالي غمراسن وأصبحوا يمارسونهَا حتى في أوروبا، وهناك فرضوا عاداتهم الغذائية حتى على الأوروبيين.
ولاهتمام أهالي غمراسن بهذا الموروث الغذائي انطلقت مساء السبت 25 يونيو 2022م في غمراسن حملة تحت شعار (فطائر غمراسن من مهارة تقليدية الى هوية جماعية)، لإعداد ملف إدراج (فطائر غمراسن) على لائحة التراث الثقافي العالمي غير المادي للطهي والممارسات الاجتماعية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة UNESCO الخاصة بالتراث الإنساني، وأدى وفد UNESCO زيارة الى معتمدية غمراسن للاطلاع على تاريخ مهنة الفطائر وتجذرها في تاريخ المنطقة، وانتشارها الكبير على المستويين الوطني والعالمي، حيث تتواجد دكاكين بيع الفطائر بمختلف الدول الأوروبية والعربية، وفي غالبها بإيادي غمراسنية، وتم افتتاح المعرض النموذجي لتثمين الفطائر تحت عنوان (فطيرة جدي نعلمها لولدي).
غمراسن، هذه المدينة الجبلية الشهيرة بخصائص أهلها، والمتربّعة في وسط الجنوب الشّرقي للبلاد التونسية، والضاربة جذورها منذ أقدم العصور، بآثار الديناصورات المكتشفة في جبالها ورسوم الإنسان القديم في كهوفها، هي عاصمة ورغمة، بمأثرها مثل قصر الحدادة، وقصر الرصفة، وقصر الفرش، وقصر المرابطين، وقصر الترك، وقصر البيولي، وقصر بن غدير، وقلعة حمدون، وباطن أم مضباع، والباطن الأحمر، وقرماسة القديمة، وانسفري زغدان، وادي الخيل، الواحة، الزهور، القرضاب، المدينة الجديدة، الخ، فــ غمراسن ليست فطائر (سفنز) فقط.
اشتهرت أيضا بحلوياتها من (الزلابية والمخارق والمقروض الغمراسني وأذن القاضي والبانان والصمصة والفطاير الحلوة)، التي تعتبر علامات مسجّلة وحصرية للبلدة في تونس والعالم، والتي لأجلها يقول كريم الغول، أبن مدينة مدنين، إنّه مستعدّ أن يقصدها كلّ يوم في رمضان، مهما بعدت المسافة، ليزيّن سفرة الإفطار والسهرة بحلوياتها، التي لا طعم يضاهيها.
عرفت معتمدية غمراسن وولاية تطاوين بالكامل بهذا المنتج الغذائي وهذه الحرفة التقليدية، وبرزت عراقته للأجيال الجديدة وذلك لإحيائها والتشجيع على امتهانها كرافد اقتصادي أساسي، فكانت فكرة مهرجان الفطائر بغمراسن، بفقرات متنوعة، منها معرض الفطائر والحلويات التقليدية المتنوعة، يشارك فيه مختلف (الفطائرية) من تونس، والتونسيون العاملون في ليبيا، والجزائر، وفرنسا، وزوار المهرجان من مُحبي (البامبالوني) وغيرها من أصناف الفطائر العديدة، بالإضافة لقرن غزال، والزلابية، والمقروض الغمراسني، وعديد اصناف الحلويات التقليدية الاصيلة المميزة، يطلعون على طرق صنعها وبهجة رائحتها وسرّ مذاقها، مذاق ساهمت في إخراجه قصص الغربة، ولوعة الشوق وكفاح الفطائري خارج الوطن، وقد يكون احتراقها بالزيت وصفا لهذا، لكن صوت بداية التقائها معه والرائحة التي تملك المكان وقتها تحكي بعدا آخر من عمق اللذة والجمال، كيف لا وقد استطاعت الفطائر الغمراسنية أينما حلت مع المهاجرين أن تتأصل في بلد الغربة لتصبح جزءا من نسيجه الاقتصادي ومن عاداته الغذائية اليومية كما هو الحال في ليبيا.
تماما كما حدث مع رحلة (السفنز) من معتمدية غمراسن وحتى وصوله إلى مدينة بنغازي، تأصل ليس في تونس، بل تخطى حدودها إلى الدول المجاورة مثل ليبيا والجزائر، وانتشرت حتى في أوروبا والولايات المتحدة، فلا تتعجب عندما تجد (السفنز) في ديترويت الامريكية، وأثينا، وميلانو، ومدريد، وفرايبورغ، ومالمو، وبودابيست، وموسكو، ومدن اخرى بعيدة في أوروبا، لتبقى علامة مسجلة لفائدة فطائري غمراسن منذ القرون الماضية، حيث بُعثت لها هياكل منذ القدم لتنظيم (الصنعة) وضبطها على غرار الغرف الاقتصادية والهياكل المهنية في زمننا الحاضر، وهو أمر لابد من الوقوف عنده لتأمُّل مستوى وعي التجار والفطائرية آنذاك، رغم السياق التاريخي والإطار العام للبلاد التونسية من استعمار وتدني في الوعي، إلا أن انتشار المنتوج وإشعاعه، بالإضافة لكثرة (الدكاكين) وازدهار التجارة في هذا الإطار، نتحدث عن مفهوم أمين (نقيب) الفطائرية الذي يضبط التعامل بين التجار، ويسهر على مراقبة الأطر العامة (للصنعة) داخل السوق، ويمثّل الفطائرية، وينقل مطالبهم للجهات المختصة، ويجب أن يكون ذو خبرة طويلة في هذا المجال.
ذكر المؤرّخ والرحالة التونسي محمد بن عثمان الحشائشي عن مكانة الفطائر (السفنز) في تونس بشكل عام، مبرزا أصولها الغمراسنية، وتصدُّرها للعادات الغذائية للتونسي، رغم منافسة باقي الحلويات الآتية من الحضارات المتعاقبة على تونس تاريخيا في ما مضى.
هذه الفطيرة التونسية اللذيذة استعارها الليبيون الطرابلسية، من التونسيون، كما استعاروا العديد من المهن والحرف التي جلب ولاة طرابلس العثمانيون والقره مانليون، حرفيوها من تونس، ولكن الطرابلسية أبدعوا بذوق كلامهم اسمها، فشبهوها باستعارة بليغة بـ (الإسفنج البحري) فــ (السفنز) هو تحوير لهجي لأسم نبتة (الإسفنج البحري) الذي يعرّف بحيوان من (الإسفنجيات) وهي الحيوانات المسامية الهلامية ذات اللون البني الفاتح والغامق المكتنزة بالقنوات المائية في شكل عيون وفجوات، وكانت الشواطئ الليبية مشهورة بتوّفرها، وكانت من التجارات الرابحة في ليبيا كالحلفاء وملح الطعام قبل ظهور النفط في الصحراء، الذي أنسكب علينا بخيره العميم، وزفته الذميم، وزيته هو غير زيت الزيتونة المباركة، زيتها يضئ وإن لم تمسسه نار، الذي كنا نستلذه مع (سفنزة) من السنفاز، وهم كثر، منهم السنفاز عمر النالوتي، المعروف في طرابلس، في السابق جرت العادة بأن بائع (السفنز) يتجول في الازقة حاملا على راسه إنا كبير (لايان)، خدمة للمواطن كي لا يتعب ويذهب الى (لسنفاز)، ويقف في الطابور.
صديقي الهيلاهوب الرائع والمهتم بموروث بنغازي عبد السلام الزغيبي يقول: كان السنفاز التونسي سي القمودي في شارع سيدى سالم، من أشهر صانعي وبائعي (السفنز)، في وسط مدينة بنغازي، حيث تشم رائحة (السفنز)، وأنت قادم الى محله من سوق الظلام أو ميدان الحدادة أو من ميدان البلدية، كان الزبائن يترددون عليه، صباح كل يوم لتناول (سفنز) عادي أو (سنفنز بالدحي)، وكان المحل يزدحم عادة في ساعات الصباح الأولى، وحتى ساعة الظهرية تقريبا، وهي فترة الإفطار للمارة والموظفين والعمال، منهم من يتناول (السفنز) واقفا في حجرة داخلية في المحل، ومنهم من يأخذ طلبه الى بيته أو دكانه.
كان (السنفاز) سي القمودي رجل قصير القامة، يجلس القرفصاء (متربعا) على منضدة عالية، وجسمه من الأسفل مغطى بفوطة بيضاء، وكنا ونحن صغارا نعتقد أن (السنفاز) كسيح ولا يستطيع النهوض من مكانه، حتى صادف وأن شاهدته مع أحد اصدقائي واقفا على رجليه، يخرج من بيت مقابل لدكان (السنفاز)، يجر عدد من شوالات الدقيق، (لزوم الشغل).
وكان يضع أمامه مباشرة مقلاة مليئة بزيت درجة حرارتها عالية، والى جانبه آناء بلاستيك كبير ملئ بالعجينة، يلتقط منها قرصة صغيرة وبحركة فنية يقذفها الى المقلاة، مع لسعة من الزيت الساخن في بعض المرات، ثم يحركها (بتل) سيخ حديدي حتى تنضج، ليقوم مساعده بغرس (السفنزة) الدائرية الجاهز بواسطة (التل) السيخ الحديدي، ويضعه في إنا كبير (لايان) لتصفيته، وتكون جاهزة للف في ورق وتقديمها للزبائن الذين ينتظرون بلهفة، وهم يرددون بلهجة البلاد: (عطيني أربع سفنزات الله يرحم ولديك، أنا عطيني عشر سفنزات، سقدني بس من فضلك، يا عمي عطيني اثنين بالدحي وستة من غير دحي)، ويرد السنفاز سي القمودي بابتسامته حاضر، هذه الحوارات التي عادة ما كانت تحدث بين السنفاز وزبائنه، وفي النهاية يحصل الزبون على طلباته ويذهب بها الى بيته ساخنة طازجة، تنتظره أمه لتقول له (سلمك جياب .. وعليك حجاب).
وفي مدينة الياسمين درنة كان هناك (السنفاز) محمد التطواني ذلك المتطوع التونسي لحرب 48 بفلسطين، وعند عودته اثر العيش بدرنة، سي محمد، روى بعد أكثر من أربعين عام قصة هجرته إلى درنة، حيث قال أنه جاء من تونس عام 1948 متطوعاً للقتال في حرب فلسطين، والتحق بمجموعة من درنة، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا، فمكث في درنة، كان درناويا وليبيا اكثر من الكثيرين بقلبه الكبير وحبة لأهل البلاد التي عاش فيها، ولتونس والتونسيين وشائج وصلات أرحام قومية مع درنة عبر التاريخ، وقد كانت بيوتها ملاذاً آمنا لهم، من بين هؤلاء الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي أستقر لفترة في مدينة درنة، هذه الأمكنة ترعرعت بين جنباتها ثقافة وطنية وحس قومي أهلها لتلعب دورها التاريخي في الوحدة الوطنية.
وفي بحث قمت به على تاريخ صانعي (السفنز) السنفازة التوانسة، وجدت بأن الغالبية العظمى الذين اشتهروا في بنغازي وطرابلس ودرنة من أصول تطوانية، وخاصة من معتمدية غمراسن، وهذا يؤكد كلام المؤرّخ والرحالة التونسي محمد بن عثمان الحشائشي عن مكانة (الفطائر) في تونس بشكل عام، والغمراسنية بشكل خاص، ولعل سكان بنغازي تعرفوا على سي القمودي في شارع سيدي سالم بالمدينة القديمة، وسي سالم التطواني (سنفاز) منطقة الزريرعية المعروف، الذي أخبرني عن قصته بأنه متواجد في مدينة بنغازي منذ العام 1968م، في ذلك العام ترك تطاوين واتجه لليبيا للبحث عن فرصة عمل، واستقر في بنغازي بعد أن أمن لنفسه عمل صانع فطائر (سنفاز) وطاب له المقام في هذه المدينة، وعاش بين أهلها كأحد أفرادها، والقليل يعرفون بأن سي سالم التطواني من أصول تونسية، يقول أنا أعرف بنغازي ومعظم المدن الليبية أكثر من معرفتي لمدن تونس، لأني جئت لبنغازي صغيرا، وأقمت فيها، هي قصة تعدت السبعة وخمسين عاما، وهي عراقة مهنة أبناء غمراسن في هذه الحرفة.
تحية لكل صنائعي نقل موروثه لخارج دياره، والتحية موصولة لأهل غمراسن على هذا الموروث الغذائي اللذيذ، الذي استطاعوا بحرفية نشره في العالم.