السياسة التشريعية بين المقاصد الشرعية والحياة الاجتماعية
بقلم د. عبد الله البيباص
لاشك ومما هو مقطوع بصحته وإن الشرائع السماوية جاءت لتنظيم الحياة البشرية وتنظيم العلاقات بين الأفراد في تعاملهم، وحيث إن الشريعة الإسلامية السمحاء، خاتمة هذه الشرائع قد فرضت أحكاماً تتمثل في الأوامر والنواهي، ولو بحثنا مضمون النواهي التي أوردتها الشريعة الإسلامية، لوجدناها إطاراً مهماً لحماية الإنسان ذلك إن الشريعة وفرت الحماية بأسمى معانيها وهي غاية المقاصد الشرعية ففيما يتعلق بحماية الأموال فرضت عقوبة القطع للسارق وكذلك الحرابة للصائل الذي يستحوذ على الأموال ويعترض المارة خارج العمران مستعملاً القوة، فرضت له الشريعة الصلب وقطع أرجله ويديه من خلاف ويمتد الأمر إلى حماية الأعراض، فقد فرضت الشريعة عقوبات بدنية لمن يطول لسانه عرض المؤمنة فجزاؤه العقوبة الحدية وهي مئة جلدة ناهيك على إن الله أنزله منزلة الشياطين في قوله تعالى (( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ))(113) من سورة البقرة، والخزي يعني الإبعاد والطرد وهو جزاء الشياطين وبالتالي فإن هذه العقوبة جاءت مُركبة نظراً لجسامتها وما يترتب عليها من تداعيات هدمية وامتدت الشريعة إلى حماية الأعراض أيضاً، في قوله تعالى ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)) (12) من سورة الحجرات، وكذلك الأمر يندرج في حماية الأموال، نهانا الله عن التبذير في قوله تعالى ((إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا))(27) من سورة الإسراء، وكذلك الأمر إلى تجنب الإسراف في قوله تعالى ((وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا))(29) من سورة الإسراء، ومن دقة الشريعة إنها لم تغفل الجانب المعنوي للآدمي في قوله تعالى ((وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ))(11) من سورة الحجرات،
وكذلك نهى الله عن التناجي وغايته في ذلك عدم جرح مشاعر الآخرين وفي هذا الإطار تندرج الآية الكريمة ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ))(11) من سورة الحجرات، وغايته في ذلك تجنب السخرية والاستخفاف بالآخرين وكذلك يندرج في هذا المساق حماية الأعراض تحريم الزنا في قوله تعالى ((وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً))(32) من سورة الإسراء، نظراً لهذه الفعلة الشائنة من اعتداء على حدود الله وهي جريمة مُركبة، فرض الله لها أغلظ العقوبات يوم القيامة والنقطة الفصل في هذا المساق إن هذه الفعلة الشائنة هي مرض نفسي في قوله تعالى ((فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ))(32) من سورة الأحزاب.
وبهذا فإن الشارع الإسلامي وضع نظاماً متكاملاً للحياة، وهناك نقطة جديرة بالبحث هي مشكلة تأخر الزواج والوقوف ضد التعددية على الرغم من أن السماء قالت بطبيعة الأمر ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ))(3) من سورة النساء، وبالتالي فإن صيغة الأمر في الأحكام تكون هي الأصل، والأصل هو الثنائية في الخطاب والاعتراض على هذا الأمر يشكل جناية شرعية، فارتفاع مؤشر العنوسة يشكل خطراً يهدد كيان الصرح الاجتماعي بما فيه من تداعيات مُركبة، تدفع الرجل لارتكاب المُوبقات وتدفع المتأخرة في الزواج إلى ذات النقطة، لأن الكيان البيولوجي للآدمي يقع مُركباً من عدة عناصر، العنصر البيولوجي وهو الذات (الجسد) والعنصر الذي يليه هو الكيان النفسي والعنصر الثابت هو الكيان المعنوي فإذا لم تتوفر في الذات البشرية هذه العناصر الثلاث لتكون سليمة يضحى عرضةً للأمراض العضوية والنفسية والمعنوية ويتحول إلى كومة من الأحزان وتنحسر الروح البشرية داخل الكيان البيولوجي ويتحول إلى تابوت فإن الحياة نقيض الجمود والحياة هي عبارة عن إيقاع وومضات نورانية، وللأسف الشديد إن الزوجات يتقمصن دور الشيطان فيحرمن أزواجهن من المحبة وفقاً للآية الكريمة ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ))(3) متناسين صيغة الأمر النازلة من السماء ويدفعن الأزواج إلى ارتكاب المعاصي وكذلك الآية الكريمة ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً))(20) من سورة الروم، فالعلاقة الزوجية هي موطن وحاضنة الرحمة والمودة معاً وإن الاعتراض على أمر سماوي يعتبر من الكبائر وهي كبيرة مُركبة لانتهاكها لحكم سماوي وتداعياتها جسيمة لما فيها من حرمان ومصادرة للنفوس وحرماناً للمتأخرات عن الزواج، وتطبيق هذه الآية تعتبر خطوة اصلاحية اجتماعية تُضفي اللطائف وتبلسم الخواطر وتحارب الفواحش وتجلب السعادة وبالتالي ندعو المؤسسة التشريعية والثقافية والإعلامية في إقناع الزوجات المتصلبات اللائي يعترضن على أحكام السماء ويُفسحن الطريق أمام الشيطان، شيطان النوازع النزوية، شيطان الخطاب الشبقي، وإن مشكلة تأخر الزواج هي مشكلة جديرة بالبحث وهي جالبة للخير لأن مصدرها خالق الكون وخالق النفوس وهو أدرى بعباده، ومن ثم فإن الفراغ التشريعي الذي يحتوي على مسائل مطروقة، ويغفل مسائل أخرى يعتبر تشريعاً فارغ المحتوى ومن ثم هلموا معاً لبحث هذه المشكلة وإقناع الزوجات المعترضات وتنبيههن إلى خطورة فعلتهن.
نسأل الله العافية والمعافاة.
هلموا يا أرباب الأقلام ويا شراح القانون لاسيما أساتذة الجامعات لسبر أغوار النقطة قال الله تعالى ((وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ))(53) من سورة الأحزاب، ولنعلم جلياً إن هذه الخطوة تنضوي على أبعاد أخلاقية ونفسية ومعنوية وصحية وتربوية وهي عن الاستقرار والسكينة.
فالتشريع يجب أن يشمل كل معاني الحياة فلا ينحصر في جزء ويغفل أجزاءً أخرى لأن الزواج من المصالح المعتبرة وهو ميثاق غليظ وأساس البناء الاجتماعي والتعددية أمر بها الله.