في القرن الماضي وأثناء الجدل الذي عُني بقضايا الإطار الموسيقي للقصيدة العربية الحديثة ارتأى عدد من الشعراء والنقاد الحداثيين أن عروض الخليل لم يعد صالحًا للتعبير عن مضامين العصر الحديث، بحجة أنه إطار موسيقي جامد وصارم، كثيرا ما يدفع الشاعر دفعا إلى الحشو وتمطيط الكلام واجتلاب القافية لأجل إتمام البيت.
والواقع أن هذا الحكم لا يمكن تعميمه على مدونة الشعر العربي، ولا يصحُّ اتخاذه دليلاً للحكم على انتهاء صلاحية العروض، ثم إن النتاج الشعري الحديث يؤكد أن شعراء مثل نزار قباني، وسليمان العيسى، ومحمد الفيتوري، ومحمود درويش، وسميح القاسم استخدموا الإطارين معا، ولا يمكن الزعم بأنهم برعوا في التعبير عن ذواتهم وعن مضامين عصرهم في إطار السطر أكثر مما برعوا في إطار البيت، ومن الممكن التدليل على فساد هذا الزعم بإيراد مقطعين قصيرين من شعر نزار قباني، متفقيْن في الموضوع ومختلفيْن في الوزن والإطار الموسيقي:
النص الأول من قصيدة «إفادة في محكمة الشعر»:
يا فلسـطينُ لا تزالينَ عطــشىَ
وعلى الــــزيتِ نامتْ الصحراءُ
العبــــاءاتُ كلـُّـها مـــــن حـــريـرٍ
والليــــــالي رخيـصــــةٌ حمـــــراءُ
يا فلسـطينُ لا تنــــادي عليـهمْ
قد تســـــاوىَ الأمواتُ والأحياءُ
قتل النفـط ُما بهم من سجــايـا
ولقـــــد يـقـتـــلُ الثـــــريَ الـــثـراءُ
النص الثاني من قصيدة ( الحب والبترول) :
تمرَّغْ يا أميرَ النفط ، فوق وحولِ لذاتكْ
كممْسحةٍ …. تمرَّغْ في ضلالاتكْ
لك البترولْ فاعصرْه
على قدميْ خليلاتكْ
كهوفُ الليلِ في باريسَ … قد قتلتْ مروءاتكْ
على أقدامِ مومسةٍ هناكَ
دفنتَ ثاراتكْ
فبعتَ القدسَ … بعتَ اللهَ.. بعتَ رمادَ أمواتكْ
النصان يصوران موقفا شعوريا واحدا لنزار قباني تجاه بعض مسؤولي وأثرياء الأنظمة العربية النفطية، بسبب تخليهم عن قضية فلسطين، فهو يراهم فاسدين قد أبطرهم المال، وأمات فيهم خلق النخوة والتراحم مع إخوانهم الفلسطينيين الذين طالما استصرخوهم لإنقاذهم من جرائم المحتلين الصهاينة، لكنهم ظلوا مشغولين في إنفاق ثرواتهم الطائلة على إقامة الليالي الحمراء في علب الليل بأوروبا.
صاغ نزار هذا الموقف الشعوري في إطارين موسيقييْن مختلفين، ففي النص الأول صاغه في إطار البيت الشعري، وهو إطار موسيقي جاهز يتميز بحسن التنسيق والتنظيم : شطران متساويان في عدد التفعيلات، ووزن ثنائي التفعيلة هو وزن )الخفيف ـ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن(، وقافية موحدة، ورويَّ الهمزة المضمومة.
وفي النص الثاني صاغ نزار نفس الموقف الشعوري في إطار السطر الشعري، وهو إطار موسيقي حر مفتوح، لم يتقيد فيه بعدد التفعيلات، لكنه تقيد بقافية واحدة ورويِّ الكاف الساكنة، وقد استخدم تفعيلة «مفاعلتن» صحيحة في بعض المواضع، وفي بعض المواضع الأُخر أدخل عليها زحاف العصب، وهو تسكين الحرف الخامس «اللام» من التفعيلة، فصارت )مفاعيلن( .
وعندي أن الشاعر تمكَّن بيسر من التعبير عن موقفه الشعوري في كلا الإطارين الموسيقيين، دون أن تضطره هندسة وإطار البيت إلى الحشو أو الإطناب، أو اصطناع قافية في غير موضعها، ودون أن تغريه حرية وانفتاح إطار السطر بتمطيط العبارة والثرثرة.
ونخلص إلى القول بإن الحشو وتمطيط الكلام في الشعر أمر نسبي، عادة ما يحدث في القصائد الطويلة، وسببه يعود إلى ضعف شاعرية الشاعر، ولا علاقة للإطار الموسيقي به.