شارع الجمهورية كنتُ صغيرًا حين عبّدوه بالإسفلت أول السبعينيات؛ لذا سميناه )الطريق الجديدة( كانت بيوتنا على ضفته الجنوبية قديمة إلى حد ما، وما زالت بعض نخلاتها وما تبقى من دوالي عنبها تقاوم، وتصر على البقاء، في حين لتوها شرعت في النمو عمارات الضفة الشمالية، لتقضي على براح لعبنا، ومرتع مرحنا وتحرمنا ظل كل تلك الشجرات.
انتهى ذلك الزمن، واختفى الكوري «فندق الخيل» واختفتْ الخيولُ وعرباتها التي كانت تمر من حينا محملة بضيوف طرابلس من سكان ضواحيها، أو القادمين من القرى، والمدن البعيدة، للزيارات العائلية أو التسوق، أو فقط الاكتشاف، ولعلها تكون مثقلة بالبضائع متعدَّدة الأنواع باتجاه الكوري، وفنادقه، يتركون عرباتهم وخيولهم التي أنهكها الرحيل هناك وينطلقون راجلين لاشغالهم.
اختفى الجامع العتيق «سيدي بوسعيد»، واختفت سواني المغارسة، والتوتات، والزيتونات، وكل شجيرات الخروع، واختفى أيضًا طريقي المختصر لمدرسة «شارع الزاوية»، وزحف الإسمنت على كل تلك المساحة الخضراء.
بعد أن عُبدتْ الطريق بين الضفتين كانت التجارة تلفظ أنفاسها الأخيرة، بعد خطاب زوارة، وحده ظل يناضل ومن خلال أجمل مقهى في طرابلس «الأصفهاني» لعمي أمين مازن..وأكيد أن هذا الاسم من وحي التاريخ والأدب العربي لأن مالكه كاتب ليبي من طراز كبير، وأذكر في حديث ليَّ معه عن سر اختيار هذا الاسم في زمن كان أغلب الليبيين يجلسون في مدارس محو الأمية أنه أجابني مختصرًا بقوله: من سمى المقهى عمكَ «يوسف الشريف»..وأشاح هذا المكابر بوجهه بعيدًا عني فقد سالتْ عيناه دموعًا، ورحلت بعيدًا في الزمن القديم وقلت همسًا: يا ربي كم اجتهد وقدَّم هذا الثنائي لهذه البلاد.
شارع الجمهورية أذكره في الثمانينيات والبلاد خالية الوفاض، لا من تجارة ولا نشاط اقتصادي، فقط منشآت مظلمة، وقد اختفت الإعلانات والدعايات الملونة، وحلت لافتات بشعارات ثورية، مقرات حكومية متعدَّدة، والعديد من مكاتب الأمن فقط كان هناك الكثير من محال التصوير التي أذكر منها مصور عمي «مادي» الله يرحمه وكان أقدمهم، ثم عمي محمد كرازة أطال الله عمره، حين افتتح بشارعنا أول معمل للتصوير في ليبيا.
كنا صغارًا يفتك بنا الملَّلُ والكسادُ، فنجلس على «الركابة» في راس شارعنا بعد العصر، إذ لا نشاط يذكر فلا نوادٍ، ولا مقاهٍ، ولا مدن ألعاب، فقط بعض اجتهاداتنا، ومنها لعبة «عد السيارات» التي تمر على حارتي الطريق، وكل منا يختار نوعًا، هذه «داتسون»، وهذه «مازدا»، وهذه «هوندا»، وهذه «أوبل» وهذه «بيجو عكاري»، وعادةً كان يفوز من اختار «الداتسون 140»، فقد كانت سيدة الطرقات حينها، وحين يقترب الغروب ينفض جمعنا سريعًا لنعود لبيوتنا على عجل؛ فقد اقترب موعد بث حلقات «السندباد».
تغير بعض الحال الآن بعد عقود مرت عجافًا، أنا هنا لا اريد أن أحكي عن معاناة الشارع في أحداث 2011 فالآثار موجودة ترويها جدرانه، وإن لم تسأل وهذا أفضل لأن سكانه أقفلوا عليها أبواب ذاكرتهم، وأنا هنا أكتفي بالدعاء بالرحمة والمغفرة لمن رحل من شبابهم وذويهم، عدا ذلك عادتْ الحياةُ رويدًا للشارع وانتعشت الحركة فيه.
طبعًا ما زال يكتظ بالمباني الحكومية والمؤسسات الأمنية، وفي هذه لم يتغير شيء والأمرُ كما القديم، كذلك ما يزال بين الحين، والحين يقترب منهم الرصاص، وعراك المسلحين، مع ذلك هم يملكون مقدرة عجيبة على التجاوز وصُنع الحياة.
محال تجارية من طراز رفيع ومقاهٍ بكراس عكس المقاهي القديمة زمن قانون الطواريء إذ لا تجمعات ولا مقاهي بكراسٍ.
إن سكان شارع الجمهورية علمتهم مدينتهم أن يتكيفوا مع الأزمة، وألا يسمحوا لها أن تكون قاتلتهم، فرغم معاناتهم لم تستطع أن تطمسهم، أو تدفنهم أحياء؛ لذا ما إن تسنح الفرصة يعلنون سريعًا عن وجودهم، فيفتحون شبابيكهم ويخرجون أقفاص عصافيرهم كل صباح لتغرد تحت الشمس، يسقون محابس غرسهم وأحواض نعناعهم، يرشون الماء أمام بيوتهم، وينظفون أحياءهم، ويرتادون متاجرهم ومقاهيهم ويتواصلون مع أحبابهم؛
لا لشيء فقط ليقولوا لكل الفشل السياسي والانهيار الاقتصادي، ونفوذ المسلحين والسواتر الترابية، والمواجهات المسلحة ولأشباه الساسة ولاعبي لعبة الكراسي في صراعهم على السلطة:
نحن هنا باقونُ وأنتم وتجارتكم البائسة والخاسرة بتراب ليبيا راحلون حتمًا، فنحن الوطن وأنتم العابرون.