رتوش

الطريق الجديدة ..!!

زكريا العنقودي

شارع‭ ‬الجمهورية‭ ‬كنتُ‭ ‬صغيرًا‭ ‬حين‭ ‬عبّدوه‭ ‬بالإسفلت‭ ‬أول‭ ‬السبعينيات؛‭ ‬لذا‭ ‬سميناه‭ )‬الطريق‭ ‬الجديدة‭( ‬كانت‭ ‬بيوتنا‭ ‬على‭ ‬ضفته‭ ‬الجنوبية‭ ‬قديمة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬بعض‭ ‬نخلاتها‭ ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬دوالي‭ ‬عنبها‭ ‬تقاوم،‭ ‬وتصر‭ ‬على‭ ‬البقاء،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لتوها‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬النمو‭ ‬عمارات‭ ‬الضفة‭ ‬الشمالية،‭ ‬لتقضي‭ ‬على‭ ‬براح‭ ‬لعبنا،‭ ‬ومرتع‭ ‬مرحنا‭ ‬وتحرمنا‭ ‬ظل‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الشجرات‭.‬

انتهى‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن،‭ ‬واختفى‭ ‬الكوري‭ ‬‮«‬فندق‭ ‬الخيل‮»‬‭ ‬واختفتْ‭ ‬الخيولُ‭ ‬وعرباتها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمر‭ ‬من‭ ‬حينا‭ ‬محملة‭ ‬بضيوف‭ ‬طرابلس‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬ضواحيها،‭ ‬أو‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬القرى،‭ ‬والمدن‭ ‬البعيدة،‭ ‬للزيارات‭ ‬العائلية‭ ‬أو‭ ‬التسوق،‭ ‬أو‭ ‬فقط‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬ولعلها‭ ‬تكون‭ ‬مثقلة‭ ‬بالبضائع‭ ‬متعدَّدة‭ ‬الأنواع‭ ‬باتجاه‭ ‬الكوري،‭ ‬وفنادقه،‭ ‬يتركون‭ ‬عرباتهم‭ ‬وخيولهم‭ ‬التي‭ ‬أنهكها‭ ‬الرحيل‭ ‬هناك‭ ‬وينطلقون‭ ‬راجلين‭ ‬لاشغالهم‭.‬

اختفى‭ ‬الجامع‭ ‬العتيق‭ ‬‮«‬سيدي‭ ‬بوسعيد‮»‬،‭ ‬واختفت‭ ‬سواني‭ ‬المغارسة،‭ ‬والتوتات،‭ ‬والزيتونات،‭ ‬وكل‭ ‬شجيرات‭ ‬الخروع،‭ ‬واختفى‭ ‬أيضًا‭ ‬طريقي‭ ‬المختصر‭ ‬لمدرسة‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬الزاوية‮»‬،‭ ‬وزحف‭ ‬الإسمنت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المساحة‭ ‬الخضراء‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬عُبدتْ‭ ‬الطريق‭ ‬بين‭ ‬الضفتين‭ ‬كانت‭ ‬التجارة‭ ‬تلفظ‭ ‬أنفاسها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بعد‭ ‬خطاب‭ ‬زوارة،‭ ‬وحده‭ ‬ظل‭ ‬يناضل‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬أجمل‭ ‬مقهى‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬‮«‬الأصفهاني‮»‬‭ ‬لعمي‭ ‬أمين‭ ‬مازن‭..‬وأكيد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬التاريخ‭ ‬والأدب‭ ‬العربي‭ ‬لأن‭ ‬مالكه‭ ‬كاتب‭ ‬ليبي‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬كبير،‭ ‬وأذكر‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬ليَّ‭ ‬معه‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬اختيار‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬أغلب‭ ‬الليبيين‭ ‬يجلسون‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬محو‭ ‬الأمية‭ ‬أنه‭ ‬أجابني‭ ‬مختصرًا‭ ‬بقوله‭: ‬من‭ ‬سمى‭ ‬المقهى‭ ‬عمكَ‭ ‬‮«‬يوسف‭ ‬الشريف‮»‬‭..‬وأشاح‭ ‬هذا‭ ‬المكابر‭ ‬بوجهه‭ ‬بعيدًا‭ ‬عني‭ ‬فقد‭ ‬سالتْ‭ ‬عيناه‭ ‬دموعًا،‭ ‬ورحلت‭ ‬بعيدًا‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬القديم‭ ‬وقلت‭ ‬همسًا‭: ‬يا‭ ‬ربي‭ ‬كم‭ ‬اجتهد‭ ‬وقدَّم‭ ‬هذا‭ ‬الثنائي‭ ‬لهذه‭ ‬البلاد‭.‬

شارع‭ ‬الجمهورية‭ ‬أذكره‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات‭ ‬والبلاد‭ ‬خالية‭ ‬الوفاض،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬تجارة‭ ‬ولا‭ ‬نشاط‭ ‬اقتصادي،‭ ‬فقط‭ ‬منشآت‭ ‬مظلمة،‭ ‬وقد‭ ‬اختفت‭ ‬الإعلانات‭ ‬والدعايات‭ ‬الملونة،‭ ‬وحلت‭ ‬لافتات‭ ‬بشعارات‭ ‬ثورية،‭ ‬مقرات‭ ‬حكومية‭ ‬متعدَّدة،‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬مكاتب‭ ‬الأمن‭ ‬فقط‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬محال‭ ‬التصوير‭ ‬التي‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬مصور‭ ‬عمي‭ ‬‮«‬مادي‮»‬‭ ‬الله‭ ‬يرحمه‭ ‬وكان‭ ‬أقدمهم،‭ ‬ثم‭ ‬عمي‭ ‬محمد‭ ‬كرازة‭ ‬أطال‭ ‬الله‭ ‬عمره،‭ ‬حين‭ ‬افتتح‭ ‬بشارعنا‭ ‬أول‭ ‬معمل‭ ‬للتصوير‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

كنا‭ ‬صغارًا‭ ‬يفتك‭ ‬بنا‭ ‬الملَّلُ‭ ‬والكسادُ،‭ ‬فنجلس‭ ‬على‭ ‬‮«‬الركابة‮»‬‭ ‬في‭ ‬راس‭ ‬شارعنا‭ ‬بعد‭ ‬العصر،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬نشاط‭ ‬يذكر‭ ‬فلا‭ ‬نوادٍ،‭ ‬ولا‭ ‬مقاهٍ،‭ ‬ولا‭ ‬مدن‭ ‬ألعاب،‭ ‬فقط‭ ‬بعض‭ ‬اجتهاداتنا،‭ ‬ومنها‭ ‬لعبة‭ ‬‮«‬عد‭ ‬السيارات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬على‭ ‬حارتي‭ ‬الطريق،‭ ‬وكل‭ ‬منا‭ ‬يختار‭ ‬نوعًا،‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬داتسون‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬‮«‬مازدا‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬‮«‬هوندا‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬‮«‬أوبل‮»‬‭ ‬وهذه‭ ‬‮«‬بيجو‭ ‬عكاري‮»‬،‭ ‬وعادةً‭ ‬كان‭ ‬يفوز‭ ‬من‭ ‬اختار‭ ‬‮«‬الداتسون‭ ‬140‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬سيدة‭ ‬الطرقات‭ ‬حينها،‭ ‬وحين‭ ‬يقترب‭ ‬الغروب‭ ‬ينفض‭ ‬جمعنا‭ ‬سريعًا‭ ‬لنعود‭ ‬لبيوتنا‭ ‬على‭ ‬عجل؛‭ ‬فقد‭ ‬اقترب‭ ‬موعد‭ ‬بث‭ ‬حلقات‭ ‬‮«‬السندباد‮»‬‭. ‬

تغير‭ ‬بعض‭ ‬الحال‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬مرت‭ ‬عجافًا،‭ ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬اريد‭ ‬أن‭ ‬أحكي‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬2011‭ ‬فالآثار‭ ‬موجودة‭ ‬ترويها‭ ‬جدرانه،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تسأل‭ ‬وهذا‭ ‬أفضل‭ ‬لأن‭ ‬سكانه‭ ‬أقفلوا‭ ‬عليها‭ ‬أبواب‭ ‬ذاكرتهم،‭ ‬وأنا‭ ‬هنا‭ ‬أكتفي‭ ‬بالدعاء‭ ‬بالرحمة‭ ‬والمغفرة‭ ‬لمن‭ ‬رحل‭ ‬من‭ ‬شبابهم‭ ‬وذويهم،‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬عادتْ‭ ‬الحياةُ‭ ‬رويدًا‭ ‬للشارع‭ ‬وانتعشت‭ ‬الحركة‭ ‬فيه‭.‬

طبعًا‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يكتظ‭ ‬بالمباني‭ ‬الحكومية‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الأمنية،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬شيء‭ ‬والأمرُ‭ ‬كما‭ ‬القديم،‭ ‬كذلك‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬بين‭ ‬الحين،‭ ‬والحين‭ ‬يقترب‭ ‬منهم‭ ‬الرصاص،‭ ‬وعراك‭ ‬المسلحين،‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬هم‭ ‬يملكون‭ ‬مقدرة‭ ‬عجيبة‭ ‬على‭ ‬التجاوز‭ ‬وصُنع‭ ‬الحياة‭.‬

محال‭ ‬تجارية‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬رفيع‭ ‬ومقاهٍ‭ ‬بكراس‭ ‬عكس‭ ‬المقاهي‭ ‬القديمة‭ ‬زمن‭ ‬قانون‭ ‬الطواريء‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تجمعات‭ ‬ولا‭ ‬مقاهي‭ ‬بكراسٍ‭.‬

إن‭ ‬سكان‭ ‬شارع‭ ‬الجمهورية‭ ‬علمتهم‭ ‬مدينتهم‭ ‬أن‭ ‬يتكيفوا‭ ‬مع‭ ‬الأزمة،‭ ‬وألا‭ ‬يسمحوا‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قاتلتهم،‭ ‬فرغم‭ ‬معاناتهم‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تطمسهم،‭ ‬أو‭ ‬تدفنهم‭ ‬أحياء؛‭ ‬لذا‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تسنح‭ ‬الفرصة‭ ‬يعلنون‭ ‬سريعًا‭ ‬عن‭ ‬وجودهم،‭ ‬فيفتحون‭ ‬شبابيكهم‭ ‬ويخرجون‭ ‬أقفاص‭ ‬عصافيرهم‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬لتغرد‭ ‬تحت‭ ‬الشمس،‭ ‬يسقون‭ ‬محابس‭ ‬غرسهم‭ ‬وأحواض‭ ‬نعناعهم،‭ ‬يرشون‭ ‬الماء‭ ‬أمام‭  ‬بيوتهم،‭ ‬وينظفون‭ ‬أحياءهم،‭ ‬ويرتادون‭ ‬متاجرهم‭ ‬ومقاهيهم‭ ‬ويتواصلون‭ ‬مع‭ ‬أحبابهم؛

لا‭ ‬لشيء‭ ‬فقط‭ ‬ليقولوا‭ ‬لكل‭ ‬الفشل‭ ‬السياسي‭ ‬والانهيار‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬ونفوذ‭ ‬المسلحين‭ ‬والسواتر‭ ‬الترابية،‭ ‬والمواجهات‭ ‬المسلحة‭ ‬ولأشباه‭ ‬الساسة‭ ‬ولاعبي‭ ‬لعبة‭ ‬الكراسي‭ ‬في‭ ‬صراعهم‭ ‬على‭ ‬السلطة‭:‬

‭ ‬نحن‭ ‬هنا‭ ‬باقونُ‭ ‬وأنتم‭ ‬وتجارتكم‭ ‬البائسة‭ ‬والخاسرة‭ ‬بتراب‭ ‬ليبيا‭ ‬راحلون‭ ‬حتمًا،‭ ‬فنحن‭ ‬الوطن‭ ‬وأنتم‭ ‬العابرون‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى