
إنّ الاستدلال بالأحداث الماضية ومنعطفاتها محطة معرفية يفترض أن يتوقف عندها الليبيون لسببين أولهما استلهام روح الأمل، وإدراك أن التغيير في أعمار الدول والشعوب يستلزم الكثير من الصبر دون أن يعني ذلك المفهوم العبثي للانتظار؛ فالتغيير أولاً وأخيرًا مشروط بالوعي والعمل، والسبب الثاني محاولة الانتباه إلى موضع القصور والاخفاق ومواجهتها والاعتراف بوجودها، وهنا علينا الوقوف أمام المرآة لمعرفة المكاسب والخسائر، ومحاولة الاجابة كيف ولما حدث ذلك؟!.
مسار الانقسام
رغم انتظار تجاوز العقد، بقيت أحلام الغد وثبة أمل لم تكتمل، لكن الأحلام لا تصنعها التمنيات، واكتمال الوثبة مرهون بمعطيات التغيير التي لازلنا ننشدها، ربما تكونت ملامحها على استحياء ضمن فورات المخاض الليبي عبر مراحله السابقة لكنها سرعان ما تلاشت بسبب الهزات المتكررة التي تعرض لها المشهد الليبي في أبعاده السياسية والاقتصادية، وبقيت تلك المحطات كفرص ضائعة وجب النظر في خلفياتها ومسببات التفريط .
تكفل الاعلان الدستوري الصادر سنة2011 بوضع تصور لجملة القوانين المنظمة لسيرة عمل السلطة التنفيذية آنذاك كما تضمنت بنوده الحقوق السياسية والاجتماعية والصحية والثقافية للمواطن، إلا أن الإعلان الدستوري ظل كحالة مؤقته كما باقي الحكومات المتعاقبة، وسنتعرف على كم الحقوق الغائبة الآن بسبب الانقسام والحروب والفوضى اذا ما انتقينا بعض بنوده، على سبيل المثال في مادته الرابعة )تعمـل الدولة على إقامة نظام سيـاسي ديمقراطي مبني على التَّعددية السِّياسية والحـزبية، وذلك بهدف التداول(، للأسف اجهضت العملية السياسية، ولم يتحقق التداول السلمي على السلطة، ما الذي حدث ؟!.
انتخب الليبيون في 2012 المؤتمر الوطني بعد توقف انتخابي امتد لأربعة عقود ، انتج سلطة تنفيذية من 24 وزيرًا برئاسة الدكتور عبد الرحيم الكيب كأول حكومة منتخبة بعد 2011، وجدتْ حكومة الكيب نفسها أمام تحديات جسام، كانتشار السلاح، وبنية الجيش المفكَّكة، وتضرر عديد القطاعات بسبب الاشتباكات، أيضًا المقار الحكومية كانت مشغولة من قبل المجموعات المسلحة، أيضًا هناك مفهوم غائب لدى المواطن وهو أنه عنصر مهم في عملية الاستقرار، ووعيه بإعطاء الفرصة للسلطة لإنجاز مستحقات المرحلة، إلا أن تلهف المواطن على جني ثمار التغيير سبقت التغيير بمراحل حيث غصت طرابلس العاصمة بالاعتصامات، بمبرر ودونه كل قطاع قذف بمشكلاته أمام الحكومة الوليدة وكأنها تملك المصباح السحري .
تداخل الاختصاصات
في المقابل مضتْ الحكومة على وقع حاول امتصاص هذا الفوران، وعدَّدتْ في تقرير لها بعض ما انجزته متخذة مسلك الحوار كما وصفه «د. الكيب» في تقرير نهاية مهمتها بالخصوص حتى لا تدخل البلاد في الفوضى وتتأجل الانتخابات وندخل في نفق مظلم.
وأضاف الكيب : إن من بين الصعوبات التي واجهت حكومته هي هبوط إنتاج النفط ما أدى إلى عدم توفر السيولة المالية الكافية لتغطية نفقاتها، كذلك تداخل الاختصاصات بين المجلس الوطني، والحكومة الأمر الذي انعكس على أدائها وقلَّل من فرص حلحلتها لعديد المشكلات.ومن جانب آخر رأى الكيب أن حكومته حققت بعض الأعمال في مجال البنية التحتية والصحة ..الخ في مقابل انتقاد المواطن لأداء الحكومة والنهاية متروكة لشهادة التاريخ عن الاخفاق والنجاح .
إلى ذلك تسلمتْ حكومة علي زيدان تركة حكومة الكيب في نهاية أكتوبر 2012 لمدة سنتين وفي منظورها أيضًا تحقيق ما عجزتْ عنه سابقتها، لكن سخونة الفرن الليبي لم تدع الرياح تأتي بما تشتهي السفن، أولى هذه المعضلات قانون «العزل السياسي» في الخامس من مايو 2013 والذي يضبط الوظائف والمسؤوليات التي يمنع من تولي مناصب قيادية في عهد النظام السابق توليها في الدولة الجديدة لمدة عشر سنوات، فهو يضع بين قوسيه أعلى منصب وهو رئيس الدولة وانتهاءً بمدير إدارة وطال القانون وفق هذا الاعتبار العديد من القيادات السياسية في فبراير منهم رئيس الوزراء علي زيدان، ومحمود جبريل، ورئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف.
انتقد عديد النشطاء والمهتمين بالشأن السياسي وحتى مندوبية الأمم المتحدة ممثلة في «طارق متري» هذا الإجراء لكونه يحد من عملية الاستفادة من الكوادر الجيدة خصوصًا في الوظائف الوسطى وأن ذلك يمثل استبعادًا مجحفًا في حقها، يحدث ذلك والبلاد في مرحلة العبور من الفوضى إلى النظام، وهي تتطلب حشد كل المهارات الممكنة لتقوية مركز الإدارات والمؤسسات الحيوية، إلا أن المطالبات ذهبتْ ادراج الرياح، في حين صوَّتَ البرلمان بتعليق العمل بهذا القانون حتى إصدار دستور دائم.
في تتابع لمسلسل الارباك الليبي ألقتْ أزمة إغلاق الموانئ النفطية بظلالها على حكومته، وتطايرت تهم الفساد هنا وهناك اضافة إلى صراع المجموعات المسلحة بين حين وآخر حتى انتهى به الأمر إلى اختطافه ثم مغادرته ليبيا، وكان«المؤتمر الوطني» قد حجبَ الثقة من حكومة علي زيدان بـ)124( صوتًا، وتكليف وزير دفاعه عبدالله الثني بتسيير الأعمال لمدة أسبوعين، ونفى زيدان في أول تصريح له على وسائل الإعلام قانونية سحب الثقة كذلك تكذيب تهم الفساد على حكومته .
لا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن زيدان يباشر عمله من طرابلس في وجود جسمين سياسيين «البرلمان»في الشرق، و«المؤتمر الوطني»في طرابلس، بعد أن حدث شرخٌ في عملية الانتقال السلمي للسلطة .
تذويب الجليد
الحديث عن سلسلة الانتقالات الدراماتيكية للحكومات بشكل مختزل يبقى مجرد إشارة لقمة جبل الجليد، ففي 11 مارس 2014 أدى عبدالله الثني وزير دفاع حكومة علي زيدان اليمين القانونية رئيساً مؤقتاً لحين انتخاب رئيس وزراء دائم وذلك خلفًا لعلي زيدان الذي سُحبتْ منه الثقة، وفي سبتمبر من العام ذاته تم تجديد ولاية الثني بتصويت من البرلمان في طبرق وتكليفه بتشكيل حكومة في الشرق بعد أن حدثت اشتباكات مسلحة بالعاصمة صاعدت الخلاف بين مجلس الدولة، والبرلمان.
ومن ضمن فترة ولاية الثني التي استمرت سبع سنوات تكوين حكومة موازية لها في طرابلس برئاسة عمر الحاسي، لتدخل ليبيا في نفق آخر وممر مظلم اسمه «الحكومات الموازية» .
بذل المجتمع الدولى جهودًا لرأب الصدع بين الاخوة، وجرت مفاوضات عديدة هنا وهناك تمخض عنها في النهاية حكومة الوفاق الوطني التي تشكلت في 17ديسمبر 2015 على خلفية اتفاق الاطراف الليبي في مدينة الصخيرات بالمغرب، لكن عثرات الماضي ظلت كابوسًًا يؤرق الجميع مضاف إليها وباء آخر «داعش».
على خلفية احتدام الصراع على السلطة بين الأطراف الليبية، حدث أن تمدد الظلام في غفلة الجميع، مستفيدًا من الفراغ؛ حيث سيطر تنظيم الدولة)داعش( على مدينة سرت اضافة إلى درنة وبنغازي إلا أن مقاومته في سرت على يد قوات «البنيان المرصوص» أدت الى هزيمته واجتثاثه من المدينة، كذلك الحال في درنة على يد قوات المنطقة الشرقية، وتواصل في المقابل محاولات تذويب الجليد بين أطراف النزاع، واختيرتْ غدامس مكاناً لانعقاد المؤتمر الوطني الليبي الجامع 2019، إلا أن المسار السياسي قوض مرة أخرى بالحرب على العاصمة، وكانت العودة مرة أخرى الى نقطة الصفر، حيث تجددت الجهود الأممية مرة أخرى لتقليص الفجوة بين الفرقاء حتى كانت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد عبدالحميد الدبيبة، والتي ارتأت كسر حاجز الجمود في الاتجاه افقياً والاشتغال على مشروعات البنية التحتية تحت عنوان: )عودة الحياة( .
الليبيون وهم يستذكرون عنفوان المراحل منذ بداياتها ينتظرون في المقابل خيط أمل قد يلوح في الافق البعيد، وليقينهم أن هذه الدوامة من الازمات ستزول وتبقى ليبيا في النهاية العنوان الجامع، كما أن كل الحروب، والصراعات تنتهي بمجرد أن يستشعر كل منا خطرًا يتهدَّد الآخر، ولا بد من الوصول إلى جوهر البصيرة التي تحدث عنها الروائي «روجيه ساراماجو» في روايته :
)البصيرة(، وقصد فيها أن البحث عن الحلول وفهم الازمات يبدأ من اليقين الداخلي للإنسان رغم صراع وتطاحن أحزاب اليمين واليسار والوسط، وكذا النَّاس في المدينة المتخيلة لم يجدوا إلا نداء العقل لحلحلة أزمتهم السياسية، وكان على التمثال الذي جسد هذه الحكاية وهو سيدة تمسك بدورق والذي يفترض خروج الماء منه إلا أن تردي الأوضاع أدى إلى اهمال الحديقة، وبقيتْ السيدة ودورقها في انتظار الماء كرمز لانتظار الحياة، في المقابل على سيدة جميلة اسمها «ليبيا» انتظار مياه الاستقرار التي ستأتي يومًا رغم الألم، ومرارة الثبات.