
الفنان علي العباني صاحب أهم مدرسة تشكيلية في بلادنا لعقود طويلة من الإبداع والتميز، نحاوره هنا كما نحاور النجوم والأقمار البعيدة، هو ببساطة فنان يحلق عاليًا، يحكي عن روحانية الفن وماهية الروح التشكيلية الهائمة في ملكوت الجمال، وهذا حواري معه خضنا فيه بتفاصيل الذاكرة الفنية، وسيرة الفن العطرة باللون والطبيعة والتميز.
الآن والفنان الكبير علي العباني في هذه العزلة الاختيارية كيف هي علاقتك بالرسم يا تُرى؟
محاط ببعض لوحات بعضها قديم نسبيًا، وبعضها رسمتْ خلال فترات متباعدة كلما حللت في السنوات الأخيرة بجزيرة مالطة ذات الطقس المتوسطي الشبيه بطقس طرابلس وذات نفس الضوء بكل أطيافه وظلاله خلال ما أسميته بالعزلة الإختيارية،
العلاقة بالرسم والتلوين تجاوزتْ مراحل الأداء الأكاديمي والتقليدي منذ ما بعد التحصيل الأكاديمي متجاوزة كل حدود الخيارات المسبقة للتقنيات وللمضامين حتى أن اللوحة اتخذت مسارات لعلها أقرب ما تكون لمفردات السلم الموسيقي الحداثوي تحديدا وهو ما يتحقق من خلال خوض المجرد.
التلاوين رغم صمتها الأزلي لكنها تتأتى مثلما تتوالد إيقاعات الموسيقى وهو ما يحقق في زمن محدد قيمة بصرية ذات إيقاع مجرد ، قراءة سارد للون تماما كما يحدث عند العزف على آلة البيانو بتلقائية متحررة من كل الشروط الأكاديمية المسبقة،بصيرة انتقائية لكل احتمالات المجرد، كل ما نبصره قابل لأن يلتظم داخل الخيارات
فيصبح واحدًا مكتفيًا بلونه وذاته
حتى لو لم يك شيئا على الإطلاق.
مثل الصباحات ومثل الآفاق البعيدة المبهمة لكنها محط الوعود
كل منتج التجريد من خلال تجارب منتجية،فنانون مثل «كاندنسكي وبول كلي وموندريان»، هكذا تحقَّق منتجهم الإبداعي الجميل، والمتجاوز لكل المحدد، هذا ما تحقق في مجالين من مجالات الإبداع هما الموسيقى والتلوين
أعترف عالم السماع بأعمال «بيتهوفن وموزار وتشايكوفسكي»، رغم أنها مجردة
وولدت خارج النسق السماعي الأكاديمي، ولكنه بصعوبة قبل لوحات موندریان ولوحات كـ«ابوجروسي وميرو وكاندنسكيرواد» التجريد.
لفن كتجريد مستمر للواقع هل استطاع حقًا أن يقوم بدوره؟
حقا الـ)مجرد( هو الحقيقة المطلقة التي لا تحقق فقط الإجابات بل إنها الوحيدة التي تصنع الأسئلة
مثلما تتوالد الأسئلة من من كل جواب جديد، تمامًا مثل التسميات الأولية لأهم عناصر الحياة الهواء والماء
ما الماء ؟؟؟ الإجابة العلمية: سائل لا لون له ولا رائحة
أي أنه مجرد
ما الهواء ؟؟؟ لا لون ولاطعم ولا رائحة ولا حتی کیان متحقق
من خلال الحواس القيمة المجردة الأكبر
والأعظم شأنًا، ويرتبط المادي الصرف بالمتخيل بعيدًا عن توصيفات المحسوس، لكأن أعظم أجمل قيم الحياة تتمنع عن التوصيف، وحتى عن التسميات أو تکاد
!!..ماء
هواء، أو حتى هوى
أجمل وأعظم قيم الحياة مجردة
الهواء والماء والروح والرواح
ولذلك عجزت اللغة عن توصيف الماء والهواء واستحدثت مفردات أكثر تجريدامثل الهوى..هوی
مفردات ولدت مجردة من دلالات الحدث، كل أمثلة الحياة الأجمل ولدت مجرا ، وماتزال
الماء أسئلة الماهيات الهواء أسئلة الهوى الهواية يهوى هاوية المطلق
حتى توصيف الماء العلمي من خلال علوم الطبيعة
لالون له ولا طغم ولا رائحة
أي مجرد! رغم أنه أهم عنصر للحياة
والأكثر تجريدا هو الهواء
لا لون ولا طعم ولا رائحة ولا ملمس ولا حتى كيان مادي
حتى أن الإنسان استعار هذه المفردة للتعبير عن أجمل وأعظم قيمة إنسانية وهي الحب
فأسماه الهوى من الهو، الغير محدد
أي المجرد المجرد عن التوصيف
أما الروح فهي المجرد الأكبر رغم أنها سر الخلق، إنما الروح من أمر ربي
أي لا توصيف لها ولا ماهية اللغة تعجز عن التوصيف، تعجز اللغة عن توصيف العطر مثلا يذكرنا هذا برواية العطر
لمؤلفها «زوسكيند»
أنت ترسم الأمكنة ولكن هل اخلصت لك الأمكنة؟
أمكنة الذاكرة المجردة بكل تفاصيلها
الروحية والمادية بالنسبة لي كل الفضاءات المجردة أتت من مخزون الذاكرة القومن بترهونة ثم الأسفار الطريق النوافذ
نافذة الحافلة من ترهونة إلى طرابلس
في غبش الصباحات والبواكير
الطريق المحفوف بأشجار الصنوبر والسرو والكافور الروابي القريبة والبعيدة غبش الصباحات
هل يمكن القول ان لوحة العباني لوحة مكان بالدرجة الاولى؟
لا .. لأنني لم أرسم لوحة لمكان محدد
مثلما فعل الإنطباعيون حتى الكتابات التي تناولت لوحاتي أغلبها تناولت روح المكان المجرد حتى أن حدهم سأتذكره فيما بعد وصف الأمكنة قائلا
كأنها على سطح كوكب غير الأرض
تذكرته!هو دومينك كثير الناقد التشكيلي المالطي ومدير متحف الفن الحديث خلال السبعينات والثمانينات
عندما أقمت معرضا بقاعة متحف الفن الحديث بفاليتا هو من كتب مقدمة الكتالوج دليل معرضي بقاعة المتحف بفاليتا حينها المعرض الذي أقمته حينها
وافتتحه بول شويرب
Poul cewerbرئيس الجمهورية حينها
إجابة على سؤالك حول ما أسميته ب (لوحة المكان)
بالإمكان تعميم هذا المعنى على أغلب التجارب الحقيقية التشكيلية وخاصة المرحلة الإنطباعية کلود مونيه وبيسارو وفان جوخ وتيتسيانو ورينوار
كل هؤلاء أعمالهم ارتبطت بالمكان.
- وترهونة مكان رحب اخذ حيزا من فنك؟
أكيد ..في البدايات، ثم استوحت الأدائية براحات وأفاق وأمكنة أخرى سنوات إقامتي بإيطاليا
كانت ملهمة مشاهد الطبيعة والسهوب
محافظة اومبريا بإيطاليا وعاصمتها بيروجا فضاءات وسهوب
مشاهد الطبيعة على جوانب طريق الحافلة وجوانب السكك الحديدية عندما يكون السفر بالقطار مؤثرة وبالغة الجمال مشاهد متبتة عند السفر في البواكير تظهر من خلال زجاج النوافذ المغبش بالندى
أنت ترسم الأمكنة بإخلاص ولكن هل اخلصت لك الأمكنة ماذا قدمت ليبيا للعباني ؟
هذا حال كل عشاق البلاد مثلما كتب مفتاح العماري
بلاد تحبها وتزدريك
تقصدالكدي؟
الكدي نعم
_مفتاح كتب أوطان طاردة
نعم حتى بعض ما ورد في نص مفتاح
في بعض نصوص مفتاح لا أتذكر الآن بالتحديد هناك معنى شبيه
نعم الكثير
‹والعباني الفنان قدم الكثير لليبيا التي خلدها في فنه
لماذا يشعر الفنان والكاتب والشاعر بالخذلان دائما من الوطن برأيك؟
رؤى الآخرين ليست مواكبة وحتى لا يعنيها الأمر ولكن حقيقة نحن نكتب ونرسم للتاريخ وللكون الجمعي
ولكن شعور الخذلان مر في الروح ويؤثر بالضرورة على المبدع؟
أكيد
-البعض قد يهجر ابداعه حتى!
مثلما حدث لي مثلا؟
والله يا سميرة العزيزة نحن أسرة الوعي الجمالي الخلاق نصوصا ورسما
نطبطبو علي بعضنا
واحيانا حتى هذه الطبطبة لا تكفي؟
هي بالتأكيد لا تكفي حالة بؤس حقيقية ولنا في تاريخ وتجارب العديد من من مبدعي هذا البلد الكثير من الشواهد دائما أستشهد بعلي صدقي عبد القادر رحمه الله وعلي الزويك وحسين ديهوم ووو
-حالة الخذلان لا تنتهي اذا ؟
نعم لا تنتهي.
يقول محمد شكري «كنت جائعا ولم يكن لدي ما اخسره»
مامدى الخسارات التي يتعرض لها الفن في بلادنا؟
تحت وطأة الظروف المتلفة
الخسارة التي تلحق بالمجتمع وبالبلاد
بصفة عامة والتي تؤخر مواكبة الدول المتقدمة.
- الفن ايضا ينتكس هل يستطيع ان يصمد؟
لولم يكن قادرا على الصمود لما كان
الفن حالة فاعلة لیست رهن المقتني
والدليل أنه لا مردود لكل صنوف الابداع الجميل غالبا ليس في بلادنا فقط بل في العديد من بلدان العالم الثالث
أنا لم أتوقف عن الرسم والتلوين
وأعرف الكثيرين من كتاب وفنانين لم يتوقفوا ممكن لأن ادوات التعبير متوفرة
بقلم رصاص وورقة تكتبين نصا شعريا.
هل ترى في التوقف خيانة ؟
لا
التوقف من عدمه خيار الإبداع حاجة
نفسية وبايلوجية نتاج طبيعي الإبداع
لا يتوقف
في مجال الكتابة تحديدا على وجه الخصوص بقلم رصاص وورقة إملاء من كراس تكتبين نصا
إنما بإمكاننا أن نحدد حاجة الكاتب والفنان المثالية وهي ما يمكن أن تحقق الفعل المنتج وفق ما يتحقق عصريا
بالأدوات المواكبة لروح العصر الأدوات المثالية.
-ولكن هنا كأنما المعاناة رديف الابداع
اقصد هل على المبدع ان يتعذب في حياته ليكون منتجا؟
المعاناة ليست دائما مرادفة للإبداع وهذا ما سنتحدث عنه في وقت قادم
أعمال بيكاسو الجميلة أنجزها في قصره البديع الذي اقتناه
وحتى سلفادور دالي كان مترفا
هناك كتاب السلفادور دالي سيرة ذاتية
لكن أظنه نفذ لعلك تجدينه بالنت
وهناك سيرة ذاتية لبيكاسو نص لكاتبة صحفية كلا الكتابين متعة فائقة
- والعالم يتقلب في الحروب والصراعات والمتغيرات التي جلبتها التقنية
هل انتهى زمن المدارس الفنية
منذ منتصف القرن العشرين انتهت حقا كل ما يمكن أن نطلق علية مدرسة فنية جديدة علما بأن التجديد في تقنيات العمل الفني لم يتوقف وظهرت تسميات لبعض التظاهرات المستحدثة، تظاهرات اتخذت عناوين أدبية لعلها توضع ضمن خانات العناوين القديمة،لم يعد هناك
عمل بأمكاننا أن نستحدث له تسمية جديدة.
دخول التقنية هل برأيك سيؤثر على الفن؟ خصوصا ونحن نرى هذا الشيوع المخيف للتقنية بالتحوير والذكاء الاصطناعي
منذ أواخر القرن العشرين سادت التقنية الحديثة في أغلب تظاهرات التشكيل الكبرى لدرجة أنه في عروض أشهر التظاهرات التشكيلية العالمية
وأيضا ال Quadrieniale
كبينالي فينيسيا البندقية
معرض عالمي يقام كل أربع سنوات
بمدينة كاسل الألمانية، وهو معرض دولي تشارك به معظم دول العالم
في هذه العروض تقريبا إختفت كل الأدوات التقليدية
بأعمال يشترط أن تكون حداثوية
وجديدة ومظاهر التشكيل السائدة
اختفت اللوحة واختفى التمثال
وإليك سميرة هذا المثل:
حضرت إحدى دورات ال niale بمدينة كاسل Quadrene الألمانية
الأعمال المعروضة أغلبها لم تعد لها علاقة بسمات التشكيل التقليدي، وهو أكبر تظاهرة تشكيلية عالمية تقام كل أربع سنواتبمشاركة أغلب دول العالم
لكل بلاد جناح يدخلها الزائر
مثلا
أحد الأعمال المشاركة غرفة مظلمة
وتستغرب بها سطوع من حين إلى حين مع أصوات مبهمة وفي لحظات الظلام الكامل يحس المشاهد
برقائق تلامس جسده
مالذي كان يلامس جسدي عندما كانت الغرفة مظلمة وعندما يسطع نور الغرفة
تجدها فارغة تماما
Cdreniale
عمل فني تشكيلي عرض بدورة من دورات، معرض Docomenta
بمدينة كاسل الألمانية والذي يقام كل أربع سنوات كل الجدران والسقف صور فوتوغرافية أبيض وأسود لافراغات بينها
عمل آخر رهيب لمظاهر حياة اجتماعية أسرية: غرفة بأربع جدران وسقف
أحد الأعمال الأكثر غرابة محاط بالكامل بصور فوتوغرافية أبيض وأسود
مقصورة صغيرة ضيقة يجلس فعليا داخلها الفنان نفسه مع مؤثرات موسيقية
- اذا الفن لا يستنفذ وهذا سر جماله و ديمومته؟
طبعا.. مثل الكتابة والغناء والموسيقى وحقا لاسكون في هذا الكون
ليس فقط لا يستنفذ بل إنه لا يتكرر.
-أريد ان أسألك سؤالا مباشرا كيف حال الفن في بلادنا؟
هل تراه يضيف شيئا جديدا ام يراوح في مكانه ؟
لعل الفن في بلادنا وحتى في بعض البلاد العربية لم يتوقف ولكنه بالتأكيد لم يضف شيئا
منذ سنوات في إحدى دورات بيينالي القاهرة الدولي للفنون التشكيلية شاهدت بعض الأعمال المهمة حقا
كنت شخصيا مشاركا بهذا المعرض
شاركت بعمل ترکیبی حداثوی عبارة عن
شريط فيديو تظهر من خلاله ترددات لكثبان رملية من خلال سيارة متحركة بسرعة مع صوت حفيف
العمل عرض ببينالي القاهرة لفنون البحر المتوسط ، صور بصحراء زلاف
والمؤثرات الصوتية صوت الريح وصوت المحرك.
سأتذكر سنة المشاركة
الفن في بلادنا متوقف تماما ومنذ سنوات عدة، وليس غريبا بسبب الأحداث الغير المسقرة سياسيا وأمنيا واجتماعيا والمقياس دار الفنون
التي هي انعكاس لمدى ما وصلت إليه حالة التشكيل المحاصر بليبيا
-سؤال مباشر آخر هناك حراك فني تشكيلي شاب يتطلع لرسم مكانته على خارطة المشهد التشكيلي الليبي من استرعى انتباهك من الاسماء الشابة
هم الآن تعدوا مرحلة الشباب
قلة قليلة
علي المنتصر يوسف فطيس نجلاء شوكت
محمود الحاسي
استاذ علي هناك سؤال عن القاموس التشكيلي المعنون بقرن من التشكيل في ليبيا، لو تحكي لنا عنه ؟
الجيل الثالث إن صحت هذه التسمية من المتميزين وخاصة ممن تخرجوا من كليات الفنون الجميلة بالداخل والخارج هم يوسف فطيس،نجلاء شوكت
عبدالرزاق الرياني،عفاف الصومالي
مريم العباني،هادية قانه،ريم جبريل
ناصر أبو صوةأنور بزع الذي أسس : (دار أنور للفنون التشكيلية).
أستاذ علي اريد منك كلمة نختم بها هذا الحوار الممتع جدا .. كلمة تقول فيها ما لم تقله سابقا كلمة فيها كل شيء ،
بمحمولات الأمل والخوف والصداقة والوحدة والماضي والوطن والغربة وماتمنيته يوما ما وما ندمت عليه
وماتمنيت لو يعود الزمن وفعلته! ومافرحت لانجازه،
كلمة مفتوحة على كل شيء تبقى للتاريخ والذاكرة كلمة حرة ومتخلية؟
ليبيا الجميلة بكل ماهو مجرد تحتفي به الروح لكن لازمن محدد يكون، لنا أرضية للتوقف والمراجعة وتأمل المسارات يبقى الشاعر والحالم وحتى المتأمل مذهولا أمام كل ما يحدث من فعل ثقافة سقط المتاع ال(كيتش) وامنيات طيبات وضجيج الاستهلاك ومن يدير البلاد بعقلية الغنيمة.
أخيرا أقول :
بأن الثقافة بكل مكوناتها من العلوم الآداب والفنون هي الكفيلة بإحداث نهضة الشعوب والتاريخ هو الشاهد على ذلك فما من حضارة نشأت إلا وكان أعلامها في مجالات العلوم والمعارف والفنون والأداب شاهدا على ذلك
وهذا ينطبق على كل الحضارات بما في ذلك الحضارة الإسلامية التي حققت ملامح فريدة وشواهد عالمية من خلال فنون العمارة والخط العربي والزخارف الإسلامية الفريدة
ليبيا الجميلة بكل ما هو مجرد تحتفي به الروح لكن لازمن محدد يكون، لنا أرضية للتوقف والمراجعة وتأمل المسارات يبقى الشاعر والحالم وحتى المتأمل مذهولا أمام كل ما يحدث من فعل ثقافة سقط المتاع الـ)كيتش( وأمنيات طيبات وضجيج الاستهلاك ومن يدير البلاد بعقلية الغنيمة.