
تُعد المدرسة البيئة الثانية للطفل والمكان المخصص للتعليم والتنشئة السليمة، حيث يقضي فيها الطالب جزءًا كبيرًا من يومه. لكن تزايد ظاهرة العنف، بشقيه الجسدي واللفظي، داخل أسوار المؤسسات التعليمية بات يمثل تحديًا خطيرًا يهدد سلامة الطلاب النفسية والجسدية، ويعيق العملية التعليمية برمتها. ولهءا فان فهم أبعاد هذه الظاهرة وتأثيراتها والعمل على مكافحتها أصبح ضرورة قصوى لضمان بيئة تعليمية آمنة وفعالة.
فالمدرسة هي الحاضنة التربوية التي يُفترض أن تكون بيئة آمنة للنمو العقلي والنفسي للطلاب. عندما يصبح المعلم، وهو القدوة والمربي، مصدراً للعنف الجسدي أو اللفظي، يتحول هذا الفضاء الآمن إلى مصدر قلق وخوف، مما يهدد جوهر العملية التعليمية ورسالتها السامية. لا يمثل هذا السلوك انتهاكًا لحقوق الطفل فحسب، بل يترك آثارًا سلبية عميقة وطويلة المدى على شخصيته وتحصيله الدراسي. إن مكافحة العنف الصادر عن الكوادر التعليمية تتطلب فهمًا لجذوره وتأثيراته وتطبيق استراتيجيات علاجية وقائية صارمة.
وعلى الرغم من التحديات الجسام التي واجهتها ليبيا في السنوات الأخيرة، تظل المدرسة هي الركيزة الأساسية لإعادة بناء المجتمع وتنشئة الأجيال. إلا أن البيئة التعليمية في بعض المدارس لا تزال تواجه تحديًا خطيرًا يتمثل في ظاهرة العنف اللفظي الممارس من قبل بعض المعلمين ضد التلاميذ. هذا السلوك، الذي قد يُنظر إليه أحيانًا على أنه مجرد «تأنيب» أو «ضبط» للصف، هو في الحقيقة شكل من أشكال الإساءة النفسية التي تُعيق العملية التعليمية وتُدمر الصحة العاطفية للطلاب، مما يهدد مستقبلهم التعليمي والشخصي.
ويأخذ العنف اللفظي أشكالًا متعددة تهدف جميعها إلى الحط من كرامة التلميذ وتقويض ثقته بنفسه. تشمل هذه المظاهر، كما تشير بعض الدراسات الليبية والتقارير الميدانية:
الإهانات والتحقير: استخدام الألفاظ الجارحة مثل وصف الطالب بـ «الغبي»، «الفاشل»، أو «بطيء الفهم»، مما يشعره بالدونية أمام زملائه.
السخرية والتهكم العلني: الاستهزاء بأداء الطالب، أسئلته، مظهره، أو حتى وضعه الاجتماعي، مما يؤدي إلى «الإذلال العلني» ويجعله عرضة للتنمر من الأقران.
التهديد المستمر: التلويح بالعقوبات الشديدة «كالرسوب أو الطرد» لغرض الضبط، مما يخلق بيئة من الخوف بدلاً من الاحترام.
التمييز وعدم العدل: توجيه اللوم والانتقادات القاسية لبعض الطلاب دون غيرهم، مما يشعرهم بالظلم وفقدان الأمان.
ومن اهم الأسباب والعوامل المساعدة على تفشي الظاهرة هى تفشي ظاهرة العنف اللفظي في المدارس الليبية يرجع إلى مجموعة معقدة من العوامل التربوية، والنفسية، والاجتماعية التي تتشابك مع الظروف العامة للبلاد
نقص التدريب التربوي حيث يفتقر بعض المعلمين إلى التدريب الكافي والحديث على مهارات الإدارة الصفية الإيجابية والتعامل مع المشكلات السلوكية للطلاب، فيلجؤون إلى أسلوب التسلط والعنف اللفظي كحل سريع.
إلى جانب الاعتقاد الخاطئ بالتأديب حيث لا يزال بعض المعلمين يعتقدون أن هذا الأسلوب هو «الطريقة المثلى لتحفيز التلميذ على التعلم ولضبط سلوكه» أو لغرس «الاحترام».
الى جانب ما يعاني المعلمون من الإرهاق بسبب كثافة المناهج، زيادة أعداد الطلاب في الصف، والظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، مما يقلل من قدرتهم على ضبط النفس وإدارة الانفعالات.
اما عن تأثير العنف المجتمعي: تعكس المدرسة في كثير من الأحيان البيئة المحيطة. فانتشار الصراعات والتوترات الاجتماعية في البلاد يؤدي إلى اكتساب الأفراد «بمن فيهم المعلمون» سلوكيات عدوانية قد تنعكس على تعاملهم مع الطلاب.
و يرى بعض المعلمين أن العنف اللفظي أو الجسدي هو الوسيلة الوحيدة لاستعادة «هيبة المعلم» أو السيطرة على الصف في ظل تدهور قيمة المؤسسة التعليمية.
الى جانب غياب المتابعة الفعالة على الرغم من وجود تشريعات ليبية تمنع الضرب والعنف بجميع أشكاله ضد الطلاب، إلا أن غياب آليات المراقبة والعقاب الحازمة يفتح الباب لاستمرار هذه الممارسات.
يمكن تقسيم ممارسات العنف التي تصدر عن بعض المعلمين ضد التلاميذ إلى شقين رئيسيين:
1. العنف الجسدي «العقاب البدني»
وهو الاستخدام المتعمد للقوة البدنية لغرض تأديبي أو عقابي. يشمل هذا:
الضرب المباشر: استخدام اليد أو الأدوات «مثل العصا أو المسطرة» على أي جزء من جسم الطالب.
الإيذاء غير المباشر: مثل الدفع العنيف، أو الشد، أو الرفس، أو الإجبار على الوقوف في أوضاع مؤلمة أو لفترات طويلة.
التهديد الجسدي: وهو التلويح باستخدام العقاب البدني، مما يخلق حالة من الخوف والترهيب المستمر.بالرغم من حظر العقاب الجسدي في معظم الأنظمة التعليمية الحديثة، إلا أن بعض المعتقدات الخاطئة المتوارثة ترى أنه «يعلم الاحترام ويبني الشخصية»، مما يسهم في استمرار هذه الممارسة المدمرة.
2. العنف اللفظي «الإساءة النفسية»
يُعد هذا النوع من أخطر أشكال العنف لأنه يترك آثارًا نفسية عميقة يصعب محوها، وغالبًا ما يكون «منسيًا» أو يصعب إثباته قانونيًا. ويتمثل في:
الإهانة والسخرية: استخدام ألفاظ وعبارات تحط من كرامة الطالب «كـ «الغبي»، «الفاشل»، أو «بطيء الفهم»، والسخرية من مظهره أو مستواه الاجتماعي أو أسئلته.
التوبيخ والتهديد: استخدام التهديد بالرسوب أو الطرد أو العقاب الجسدي، والانتقاد المستمر غير البناء الذي يقلل من احترام الطالب لذاته.
العزل والنبذ: تعريض الطالب للرفض الاجتماعي أو التمييز أو جعله «كبش فداء» أمام زملائه.
العنف اللفظي هو اعتداء مباشر على مفهوم الذات لدى التلميذ ويقوض ثقته بقدراته.
ثانياً: التبعات النفسية والتعليمية الوخيمة
إن العنف من قبل المعلم يمثل صدمة مزدوجة للطالب لأنه يأتي من شخص يمثل سلطة ومصدرًا للمعرفة والرعاية. لتبعاته آثار مدمرة على جوانب حياة الطالب كافة:
1. الآثار النفسية والسلوكية
تدهور الصحة العقلية: يُصاب الطلاب الذين يتعرضون للعنف المعلمي بمشكلات عاطفية وسلوكية حادة، تشمل القلق المزمن، الاكتئاب، والانسحاب الاجتماعي.
تدني احترام الذات: يؤدي التعرض للإذلال المستمر إلى تقليل احترام الطالب لنفسه وإحساسه بالدونية، مما يعيقه عن المشاركة الفعالة.
سلوكيات عدوانية مضادة: قد يستجيب بعض الطلاب للعنف بسلوك عدواني مضاد، فينقلون هذا العنف إلى زملائهم أو محيطهم الاجتماعي، أو قد يلجؤون إلى سلوكيات تدمير الذات.
النمو المعرفي: أثبتت الدراسات أن التعرض الشديد للعنف في الطفولة المبكرة يؤثر سلبًا على النمو الصحي للدماغ، مما يضعف المهارات المعرفية والأداء الأكاديمي.
2. الآثار التعليمية والأكاديمية
التغيب والنفور من المدرسة: يصبح العنف سببًا رئيسيًا في نفور الطالب من البيئة التعليمية، مما يزيد من معدلات الغياب، التهرب من الحصص، أو حتى التسرب المدرسي.
تدني التحصيل الدراسي: يؤدي الخوف والقلق إلى توتر العلاقات المدرسية، مما يصرف تركيز الطالب عن المادة العلمية ويجعله غير قادر على الاستيعاب الفعال.
كسر حاجز التواصل: يصبح الطالب خائفًا من طرح الأسئلة أو المشاركة في النقاش خوفًا من التعرض للسخرية أو العقاب، مما يعيق عملية التعلم التفاعلي.
ثالثاً: الأسباب والدوافع لممارسة العنف من المعلمين
ولا يمكن تبرير العنف، لكن فهم الدوافع يساعد في وضع حلول وقائية:
الإجهاد المهني : قد يشعر المعلم بالإنهاك النفسي، ضغط العمل، الأعداد الكبيرة في الصفوف، أو انخفاض الروح المعنوية، مما يجعله أقل قدرة على إدارة الغضب وضبط الانفعالات.
الافتقار إلى التدريب: عدم امتلاك بعض المعلمين لمهارات الإدارة الصفية الإيجابية والأساليب التربوية الحديثة في تعديل السلوك وحل النزاعات بدون اللجوء إلى العقاب.
المعتقدات الثقافية: استمرار الاعتقاد بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة والفعالة لفرض الانضباط والسيطرة على الطلاب.
ضعف الدعم الإداري: شعور المعلم بعدم وجود دعم كافٍ من الإدارة المدرسية في التعامل مع المشكلات السلوكية المعقدة، مما يدفعه للجوء إلى الحل السريع والسهل «العقاب».
التطبيق الحازم للقوانين: يجب على المؤسسات التعليمية والدول تفعيل التشريعات التي تحظر العقاب الجسدي واللفظي بشكل مطلق، وتوفير آليات متابعة حقيقية لضمان عدم انتهاكها.
التدريب التربوي التخصصي: يجب توفير دورات تدريبية إلزامية للمعلمين حول علم النفس التربوي، تقنيات الإدارة الصفية الفعالة، مهارات التواصل غير العنيف، وأساليب التعزيز الإيجابي للسلوك البناء.
نظام تعديل السلوك الوقائي: تحويل نظام التأديب المدرسي من نظام عقابي بحت إلى نظام تعديل سلوكي وقائي يركز على فهم دوافع السلوك وتصحيحه بدلاً من معاقبته.
تعزيز دور الأخصائي الاجتماعي والنفسي: تفعيل دور الإرشاد المدرسي لتقديم الدعم الفوري للطلاب المتضررين، وتقديم الإرشاد للمعلمين الذين يواجهون صعوبات في إدارة الصف.
ولو بحثنا عن التداعيات الكارثية على التلميذ والتعليم نجد ان للعنف اللفظي تداعيات وخيمة تساهم بشكل مباشر في تردي مستوى التعليم العام في ليبيا:
1. الأثر النفسي والعاطفي
القلق وتدني احترام الذات: يعاني الطلاب المتعرضون للإساءة اللفظية من انخفاض في الدافعية والقلق المزمن وتدني احترام الذات، مما يجعلهم أقل قدرة على التركيز والابتكار.
تطوير سلوكيات التنمر: قد يصبح التلميذ الذي تعرض للإذلال ضحية دائمة لـ التنمر من زملائه، أو يتحول هو نفسه إلى ممارس للعنف لينفس عن غضبه وإحساسه بالعجز.
كراهية المدرسة والدراسة: يؤدي العنف إلى كراهية الطالب للمدرسة والدراسة والنفور من التعلم، مما يساهم في زيادة معدلات الغياب أو التسرب من التعليم، خاصة في المراحل الأساسية.
2. الأثر الأكاديمي والتعليمي
تدهور التحصيل: يؤدي الخوف من النقد والسخرية إلى إحجام الطالب عن المشاركة الفعالة، طرح الأسئلة، أو التعبير عن آرائه، مما يعيق استيعابه للمادة العلمية.
عزلة الطالب: يشعر الطالب المتعرض للعنف بالانعزال، وتتدهور علاقته بالمعلم، مما يقضي على «التواصل الفعال» الذي يُعد أساس العلاقة التعليمية الصحية.
رابعاً: آفاق المكافحة والحلول المقترحة
تتطلب معالجة هذه الظاهرة في المدارس الليبية تضافر الجهود على مستويات عدة، وقد بدأت بعض المؤسسات الليبية بالفعل في تنظيم ورش عمل للوعي بتأثير العنف اللفظي:
التدريب المهني المكثف: يجب على وزارة التربية والتعليم تكثيف الدورات التدريبية للمعلمين على مهارات التواصل الإيجابي، وحل النزاعات، والأساليب التربوية الحديثة في تعديل السلوك بعيدًا عن الإيذاء.
تفعيل القوانين والمساءلة: يجب تطبيق قواعد تهذيب الطلاب بصرامة، وفرض عقوبات تأديبية على المعلمين المخالفين، لترسيخ مبدأ أن العنف غير مقبول تحت أي ذريعة.
تعزيز الإرشاد النفسي المدرسي: توفير أخصائيين نفسيين واجتماعيين مؤهلين في المدارس لتقديم الدعم الفوري للطلاب المتضررين، ولمساعدة المعلمين على إدارة ضغوطهم.
التوعية المجتمعية: إطلاق حملات توعوية مكثفة داخل المدارس وخارجها لتوضيح الآثار المدمرة للعنف اللفظي، وبيان أن التربية تقوم على الحوار والإقناع لا التسلط والتهديد.
ختاما يمكننا القول بإن العنف اللفظي هو قنبلة موقوتة تهدد جيل المستقبل في ليبيا. تتطلب عملية إصلاح التعليم خلق بيئة مدرسية آمنة وداعمة، حيث يشعر كل تلميذ بالاحترام والتقدير. وعندما يتولى المعلمون دورهم كـ «قادة تربويين» ومربين إيجابيين، يمكن للمدرسة الليبية أن تستعيد مكانتها الحقيقية كمصنع للأجيال الصالحة والمُبدع
وعليه فإن القضاء على العنف الجسدي واللفظي الصادر عن المعلمين هو مؤشر على جودة النظام التعليمي ومدى احترامه للإنسانية. يجب أن يكون المعلم مصدر إلهام وأمان، لا مصدر خوف وإيذاء. بالالتزام بالتربية الإيجابية، والتدريب المستمر، وتفعيل الرقابة، يمكن استعادة الثقة في المؤسسة التعليمية وتحويل المدارس إلى بيئات آمنة ومُحفزة للتعلم والنمو السليم.
نقَصََ التدريب التربوي..
فاختاروا العنف
كأسرع حل
الإساءة النفسية أشد أنواع العنف