
حياةُ كاملة عبرتْ أزمنةً مختلفة واستطاعتْ أن تكون نمطًا مختلفًا في الكتابة سواء في المسرح أو الراوية او النقد أو في المقالة
في هذه المساحة نطرح سؤالاً لأصدقائه ومحبيه عن منصور الإنسان والكاتب المبدع والصديق
البساطةوالنبل والبعد عن الادعاء
عمر الكدي
منصور بوشناف الذي شغف منذ فتوته الأولى بالمسرح. جرفه المسرح إلى السجن، ولكن جعل منه أكبر كاتب مسرحي في تاريخ البلاد، بما في ذلك كتاب المسرح الذين عاشوا في ليبيا أيام الرومان والاغريق. ولد في قرية اليساحقة قرب بني وليد، وترعرع في مصراتة، ودرس في جامعة بنغازي، وتخرج من سجن الكويفية والحصان الأسود وسجن بوسليم، مما جعله خبيرا في مناطق بلاده الواسعة. الموهبة والسجن جعلاه يتساءل لماذا هذه البلاد قاسية وشرسة، وللاجابة على هذا السؤال جاب صحاريها من تاسيلي واكاكوس وجرمة وقرزة منقبا عن جيناته الشرسة التي ظلت قادرة على البقاء رغم صحراء الموت وهذه المفازة العجيبة. وهكذا تكون المثقف الشامل الذي يجيد الكتابة في معظم فنون الإبداع. المسرح والمقالة والقصة والرواية، ولكن ظل المسرح عشقه وهوسه الأول، وهذا واضح في مقالاته وروايات. أنه لا يكتب رأيه بقدر ما يريد أن يعلم الآخرين، فالمسرح منذ ظهوره وهو معلم الشعوب. أما منصور الإنسان فهو مثال للتواضع والبساطةوالنبل والبعد عن الادعاء، وله قدرة عجيبة على مسايرة البسطاء من أبناء شعبه مهما كان رأيهم غريبا، وذات مرة قال لي عدد من فناني المسرح الوطني، صديقك يساير كثيرا، فقلت لهم منصور لم يحكم عليه بالسجن أكثر من عشر سنوات، وإنما دخل إلى السجن ليساير اصدقاءه، وربما لهذا السبب لم يستطع مغادرة بلاده، وعرف كيف يتكيف مع جميع طغاتها الذي سجنه والذين يحطمون اليوم مستقبل أبناءه، وعرف كيف يقوم بدوره كمثقف أصيل.نهاية القذافي الماساوية عندما اخرجوه من أنبوب تصريف مياه الأمطار، تؤكد نظرة كاتب المسرح الثاقبة في مسرحيته «عندما تحكم الجرذان»، ولا تزال تلك النظرة الثاقبة تلاحق من حكم بعد القذافي، إنها فعلا تداخل الحكايات في غياب الراوي.
ايقونة المشهد الثقافي الليبي
مفتاح العماري
في النصف الثاني من عشرية سبعينيات القرن العشرين سمعتُ لأول مرة باسم منصور بو شناف الذي تردد على خلفية مسرحيته )عندما تحكم الجرذان( التي استفزتْ نظام القذافي. ليعتقل على أثرها، وإن بتهم وهمية أخرى؛ فكانت تلك اولى اشارات الانتباه والفضول لهذا الكاتب الذي سنحت لحظة اللقاء به شخصيًا عقب خروجه من السجن بأيام قليلة في مطلع عشرية الثمانينيات من القرن نفسه.؛ حيث تلتها لقاءت متكررة في طرابلس وبنغازي، والبيضاء، ودرنة ضمن مناسبات ثقافية.
• منصور أبو شناف، ايقونة المشهد الثقافي الليبي، وبصمة نوعية ذات خصوصية عالية جدًا. خاض معترك الحياة والكتابة بكثير من الحكمة في تنظيم الصبر، والمثابرة العصامية على التعلّم ليغدو بعد قليل معلمًا استثنائيًا. كإنسان نبيل، وأديب نوعي، وهو بقدر مكابدته لتجربة السجن؛ الا أنه عرف بطريقته الخاصة كيف يخرج منها بتدابير غاية في الواقعية، وقد خبر ترويض لعبة الحياة والكتابة. ومن ثم توظيف مهاراته الأدبية لصالح انتصار الجمال. من دون أن يتورط في اوهام تسويق بطولة المثقف المناضل. ولعلة من سجناء الرأي القلائل الذي انتصروا على أنفسهم اولا، ثم على قساوة الواقع. وهو بالرغم من تعدد انشغالاته الكتابية ظل أشد تماسكا وأصالة كمثقف عصامي وموسوعي وأديب نوعي؛ خاض بتفوق تجربة الكتابة للمسرح، والسرد الروائي، والتاريخي، كذلك في السيناريو، والنقد الأدبي والفني. علاوة على جولات وصولات في الفكر الاجتماعي والسياسي، وذاكرة المكان والمشاركة بفعالية في الندوات وبرامج التلفزيون الحوارية، فضلا عن اسهامه في الكتابة الصحفية. ليعد من أبرز من اعتنوا بتقنيات العمود الصحفي.
•وبفضل هذا التعدد حظي منصور بوشناف باعتراف وتقدير جميع الأجيال الثقافية المعاصرة لتجربته. بمختلف مشاربها وانشغالاتها وتوجهاتها السياسية والفنية. واخذت شخصيته طابعا محوريا ومنطقة جذب مريحة ومتسامحة يلتف حولها ادباء وفنانو مسرح وسينما، وتشكيليون واعلاميون ورجال فكر وأدب وسياسة؛ فأينما ذهبت ستجد منصور أبو شناف محل تقدير وترحاب كبيرين. مما يجعله صديقا مقربا من الجميع دونما استثناء.
•قراءة كتاباته تشعرك بمتعة خاصة لما تنطوي عليه من فضائل اسلوبية لها خبرتها في بناء عمارة النص بمختلف أجناسه. فضلا عن بنية جملته التي يحيط جيدًا بتقنيات صنعتها الفنية، بمهارة تعززها ذائقة رفيعة المستوى جماليًا. وحسبا لخبرتي الشخصية من حيث سبر القيمة؛ يعتبر منصور أبو شناف، من الكتاب القلائل الذين يعنون بتجهيز حقيبة ادوات كتابية وقرائية، بحرفية محسوبة بوعي وعناية ومسؤولية كاتب دربة قلّ نظيره. وهذا سرّ الاقتدار الذي جعل من تجربته كأهم الروافد لمسيرة الحياة الثقافية على مدى أربعة عقود من العطاء المتميز.
نسميه حبيبنا منصور
علي العباني
أولا نحن نسميه حبيبنا منصور، ثانيا منصور هو حالة سلام دائمة مع نفسه ومع الآخرين، منصور هو أقرب الكتاب لحركة التشكيل بل أيضا لكل الذوائق المتنوعة كذائقة السماع مثلا، هو صديق وكاتب متفرد بأسلوبه السلس المتحرر من كل قيود الإستعراض اللغوي تذكرني كتاباته بكتاب تفردوا بنصوصهم التلقائية ولكنها الجميلة والتي تعلق بذاكرة القاريء
نصوص طازجة حديثة
منصور يكتب وكأنه يحكي يتحدث تماما لافرق، هناك حد فاصل بين النص الأدبي المتخيل والنص الصحفي السارد لحدث ماوهناك نص متخيل لكنه لا يحيد عن واقع الحدث منصور وقلة آخرين قادرين على صنع هذا النص منصور لعله الأكثر اقترابا واستيعابا للحداثة بكل مظاهرها الأدبية
كنت دائما أتمنى أن يصدر كتاب لمنصور يضم نصوصا متحررة من كل قيود التصنيف المتعلقة بأصناف السرد، منصور رافق تشكيليون بل لعله أكثر الكتاب الذين اقتربوا كثيرا من المزاولين لهذا المجال شخصيا اتيحت لنا فرصا عديدة للسفر والإقامة معا عندما كنا عضوين بمجلس الثقافة العام، منصور لعله الوحيد من الكتاب الذي صاغوا نصوصا في مجال فنون التشكيل،ترافقنا كثيرا وشاركنا في حوارات ثقافية عدة وفي أوساط متنوعة أدبيا وفنيا، حتى أنني طلبت منه في إحدى المرات أن يصدر كتابا يضم قراءآته في تجارب العديد من التشكيليين الليبيين.
منصور الذي اعرف
جابر العبيدي
لايمكنني التعاطي مع منصور بوشناف ككاتب ومبدع نقديا لسببين انني تلميذ فاشل ومطرود من مدرسة الفصل بين « الذاتي والموضوعي» التي تداعت اركانها مؤخرا وبان عوار الغرض من الانتساب إليها سواء للتمرير او للتعمية والتسهيل
وسواء كان الشأن ثقافيا اوسياسيا او شأن من شؤون الحياة عموما لا تكتمل مهمتي في التعامل مع نص او شخص او موقف إلا ب «نكت » الشوال ظهر لبطن، وهذا مالا استطيعه مع المقربين مني واحدهم منصور
النقد اورثني عداوات لا أقول أنني كنت في غنى عنها او انها غير مستحقة بل كانت تحصيل حاصل وكنت أدرك منذ البدء انها نتيجة طبيعية ومتوقعةلماتعمدته وقصدته.
فلا المفتي ولا الحصادي ولا محمود جبريل ولا العمامي كنت في وارد الانشغال بما يفضي إليه نقدي لهم
المرحوم القاص والروائي عبد الرسول العريبي اتهمني مرة ممازحا ومرة مدونا لهذه المزحة في مجلة المؤتمر بأن نافذتي النقدية تطل على )منور( للضغينة، والمزح/ التهمة كانت ومازالت في محلها تماما لم احاول أبدا التنصل منها ولا نفيها . فأنا ممن يطلقون مع اول قراءة للنص او متابعة لموقف اوالاستماع لمحاضرة صرخة « شيلر » الشهيرة تلك آآه… كيف تسنى له … ثم اردفها ب «هذا الهراء او هذا البهاء » حسب ما يقتضيه المقام وتتطلبه الحقيقة العارية . هناك من لا أستطيع معهم ذلك وكما اسلفت منصور احدهم .
اشتهر منصور في الوسط الثقافي وبين الناس عموما ككاتب مسرحي ولكم ان تتعجبوا انني لم احظ من كل ما انتج مسرحيا الا بمشاهدة مسرحية واحدة له
وهي مسرحية )توقف(، وكان ذلك بمحض الصدفة .
أما ما اشتهر بهما وكرسه عند الناس ككاتب مسرحي وهما ( تداخل الحكايات . و«عندما تحكم الجرذان » المسرحيتان اللتان كانتا سببا في سجنه فلم اشاهدهما الا كلوحات دعاية في تقاطعات شوارع وسط المدينة ولم اسمع باسم صاحبهما الا في غرفة التحقيق و على لسان قائد حملة اعتقالات إبريل المشؤومة حسن اشكال .
سيرة ومسيرة هذا الكاتب الذي تحتفي به صحيفة فبراير مشكورة تستحق ان تكون«روشتة» ووصفة او حتى عنوان لكتاب تقنيات صناعة كاتب فمنصور ومنذ ان عرفته منتصف سبعينات القرن الفائت وهو يسطر بجميع خلاياه وكل كيانه للمراقب والملاحظ حتى غير المنتبه طرائق وسبل وآليات طبخة أن يكون المرء كاتبا ومع هذه المراقبة حتى غير اللصيقة وغير المواظبة تسقط بالتبعية وتتبخر ادعاءات المثبطين والتخويفيين وكهنة المعبد الذين لا يرون في المبدع الا مسخا ملبوسا بجن من جنون وادي عبقر او مفطورا بموهبة لدنية لا ناقة له في اكتسابها ولا جمل .
تجربة منصور بوشناف الإبداعية كانت مكابدة وربط ركب كنت انا شاهد من شهودها لردح طويل من الزمن، بنى صوامع تجريبية متتابعة وممضة وهدمها . صوامع قسمته إلي نصفين : ضاحك هازيء مجامل منافق في بعض المرات على الصعيد الإنساني اليومي، ومقاتل شرس وصارم مع الذات يروضها ترويض فرس حرون لتكون مايريدها ان تكون واظنه قد كسب المعركة وكان ما أراد، فمنصور أرغم نفسه على تعلم الانقليزية لكي يستمع ل « Play of the week»
فيما كان بعضنا يتلهي بالمسامرة ولعب الورق او ماشابه .
كتب الشعر وكان شاعرا طليا وحداثيا منذ اول قصيدة اعرفها له ورغم إنه أزور عن تجربته الشعرية تلك ورفض ان يثني قصيدة ( عاملة النسيج ) باخري فأنني وبضمير نقدي لاتشوبه شائبة من تأنيب أستطيع أن أعدها واحدة من عيون شعر التفعيلة عربيا .
ومنصور كتب الرواية قبل ان تصدر له «العلكة» بعقود وكم اسكرتني تلك التي مازالت اذكر اسمها «فاطمة التليسية» بموقفها الذي أظن أن منصور قد استدعى تفاصيله من أسطورة متداولة في بلدة تليس زمن العصملي والذي يتقاطع مع موقف مريم المجدلية وبعض من عبق رواية المسيح يصلب
من جديد ونكهتها .
لقد اشتغل منصور على روحه كما لم يفعل احدمنا فاستخرج بدأب ومثابرة اركيولوجي ثقافي متمرس من هذا الاهيف النحيف قلما يستطيع الليبيون بما عرف عنهم من مباهاة وتفاخر ان يضعوه في مصاف كتاب عرب كبار ابداعيا رغم قلة إنتاجه
بقى ان اقول. مع احتفاظي بحق الامتعاض من هذه الرفقة السرمدية بينه والسيدة «مجامل» ان منصور بوشناف بدأ ومنذ بعض الوقت يبرز كناقد ثقافي يملك أدوات ليس اقلها استطعامه للغة وخروجه من ربقه بنية النص المصمتة إلى العلائق والبني الأخرى المحايثة والتي صنعت وتصنع كل النصو
جمعة بوكليب
منصور بوشناف والمقالة الأدبية
أيام صدور صحيفة «الأسبوع الثقافي»، في سبعينيات القرن الماضي، كنتُ أنتظر يوم الجمعة على أحرّ من جمر لأقرأ مقالة المرحوم أحمد إبراهيم الفقيه في الصفحة الأخيرة.
كان المرحوم الفقيه، في رأيي، فارسًا بارزًا من فرسان المقالة الصحفية. ينسج خيوطها بمهارة وجمال.
المرحوم أحمد إبراهيم الفقيه، في جّلّ ما كُتب ويكتب عنه، يوصف بالقاص والروائي، ولا يتم التطرق إلى مكانته كونه واحداً من أهم كُتّاب المقالة الصحفية الذين ظهروا في ليبيا.
بعد أن عاد صديقي الكاتب والمسرحي والروائي منصور بوشناف إلى نشر مقالاته أسبوعيًا في صحيفة )بوابة الوسط(، صرت أنتظر يوم الخميس موعد صدور مقالته على أحرّ من جمر.
وكما حدث مع المرحوم الفقيه، هناك مغالطة تردد باستمرار وتزعجني شخصيًا تتعلق بالأوصاف التي تُغدق على منصور ويستحقها من دون شك. أبرزها وصفه بالكاتب المسرحي، أو الروائي. وهما وصفان صحيحان. لكن ينسى كثيرون أن منصور بوشناف كاتب مقالة أدبية صحفية من طراز رفيع.
نظرةٌ واحدة إلى المقابلات واللقاءات التلفزيونية أو الصحفية أو الاذاعية التي جرتْ مع بوشناف أو ما ينشر عنه في الصحف، تكفي لتكون دليلاً وبرهانًا على ما ذكرت أعلاه. إذ يحرص معدّو تلك اللقاءات على الحديث مع منصور حول ما عُرض واشتُهر من مسرحياته أو روايتيه المنشورتين، ولا يتعرضون إلى مقالاته الأدبية في الصحف: لماذا؟
هل لأن المقالة الأدبية الصحفية لا ترقى لتكون محورًا صالحًا للنقاش مع بوشناف في لقاء إذاعي أو تلفزيوني، أم أنها لا تستهوي المستمعين والمشاهدين؟ وهل شهرة منصور بوشناف ككاتب مسرحي وروائي غطت على موهبته في كتابة المقالة الأسبوعية الأدبية في الصحف؟
هناك إجحاف في حقّ الإثنين معًا: منصور بوشناف والمقالة الأدبية.
هذا الإجحافُ في حاجة إلى أن يتوقف ويصحح في أقرب وقت ممكن. لأن منصور بوشناف فارس مقالة صحفية أدبية لا يُشقُّ له غبار هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لأن المقالة الصحفية الأدبية فنّ اثبت حضوره وفعاليته وجماله وأهميته في ديوان السرد العربي والصحافة العربية الأدبية وفي الذائقة الأدبية الإنسانية عمومًا. المقالة الأدبية القصيرة المنشورة في صحيفة يومية أو أسبوعية يكتبها عديدون في ليبيا، لكن أغلبهم )مع كامل تقديري واحترامي لهم( لا يرقون بها إلى مستوى جمال وأناقة مقالة منصور بوشناف. وهذا رأي شخصي.
القاريء لمقالة منصور لا يستمتع فقط بجمال الكتابة وموهبة منصور في التعامل مع الفكرة في سطور قلائل وبوضوح. فهو ينتقي فكرة موضوعه بملقط، ثم يبدأ في نسجها، على مهل، بمهارة وذكاء، ليصل في الختام بفكرته واضحة وأنيقة، شكلاً وموضوعًا، لعقل ووجدان القاريء.
مهارته على ربط الفكرة بما يحدث في الواقع من متناقضات تبدو جلّية. إذ يستند منصور بوشناف، في كتابة مقالاته، على رصيد هائل من القراءات في التاريخ الليبي، وموهبته تتضح في قدرته على استحضار وقائع تاريخية واجلاء الغبار عنها، وتقديمها في ثوب مختلف.
منصور بوشناف واحدٌ من كُتّاب ليبين قلائل- من ضمنهم المرحوم الشاعر والناقد محمد الفقيه صالح- ممن ينتمون بجدارة إلى مدرسة المرحوم الأستاذ يوسف القويري في فنّ كتابة المقالة الأدبية الصحفية.
منصور بوشناف كان محظوظًا أكثر من غيره من أبناء جيله من الكُتّاب، لأن سنوات التكوين في مصراته، ترافقت وتزامنت مع وجود وعمل المرحوم يوسف القويري في المركز الثقافي بالمدينة، وكان آنذاك في ذروة عطائه. هذا أولا.
أما ثانيًا، فإن منصور بوشناف قاريءٌ نَهمٌ، على اطلاع وثقافة واسعين بما يصدر من كتب في مختلف مجالات اهتماماته المسرحية والروائية والتاريخية والتشكيلية. أضف إلى ذلك إجادته إلى أكثر من لغة أجنبية. ناهيك عن متابعاته للنشاطات الثقافية والمسرحية والفنّية في ليبيا وخارجها. ويرفد ذلك كله حِسٌّ وطني لا ريبَ فيه.
لا يتبع سواه
عبد العزيز الوصلي
حين ألِجُ مقهى «هارون» وأطالع تهليله وترحيبه بالجميع، يتصل بفلان يستعجله، ويستقبل مكالمة من آخر يصف له الطريق، ويسأل عن سبب غياب ثالث، أخاله صاحب ديوان يستقبل ضيوفه بكرم وفرح عارمين، لا زبونًا لمكان أقل من عادي، وإن جعل منه هو بالذات ورشة عمل لنصف إنتاج البلاد الثقافي والفكري والفني، مكان بائس صيّره بمفرده، كما لم تفعل وزارة أو مؤسسة، مركزا ثقافيا نابضا بالحياة، بعد أن كان مجرد مقهى ناء في ردهة فندق متوسط في زقاق جانبي بمنطقة الظهرة وسط طرابلس.
التقيه هناك ورغم ميلي للقاءات الثنائية أو الثلاثية الهادئة، إلا أني أبتهج لبهجته، وأفرح لفرحه، وتأسرني طيبة قلبه ونقاء روحه، لكنني أحزن وآسف بشدة لاجتماعيته «المفرطة» التي لم تهبنا الأخ والصديق والأب الرؤوف دون أن تحرمنا الكثير من نتاج المثقف العظيم والموهوب الفذ والكاتب المقلّ، كما أنعته في كل لقاء بما يشبه العقوق ويبتسم بحنو أب ولا يوبخني.
انتقاد يشاطرني فيه كثيرون لكن منصور بوشناف لا يستمع سوى لنبض قلبه، ولا يتبع سواه، فللطفل السبعيني طريقته الخاصة جدا في صنع الفرح باجتماعية رأيتها مفرطة، ورآها تعويضا لما سرقته عزلته الإجبارية، فرفض عزلة اختيارية ربما كانت ضرورية لمنجزه الإبداعي الذي كان له أن يزاحم إنتاج كبار المنطقة كما وكيفا.
لكن منصور الذي كان أوسعنا ثقافة وأعمقنا تجربة وأكبرنا قلبا، عرف جيدا أن مضاعفة عدد رواياته وكتبه وفوزه بجائزة هنا أو تكريم هناك لا يعني شيئا أمام أن ينصّب وزيرا أبديا للثقافة الليبية، وعرّابا وأبا روحيا لكل مثقفيها بأجيالهم المتعاقبة ومواهبهم المتفاوتة وأيدولوجياتهم المتناقضة.