ثقافة

الـمشهد الثقافي الليبي منصور بوشنـاف التجربة الفارقة

سميرة البوزيدي

حياةُ‭ ‬كاملة‭ ‬عبرتْ‭ ‬أزمنةً‭ ‬مختلفة‭ ‬واستطاعتْ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نمطًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬أو‭ ‬الراوية‭ ‬او‭ ‬النقد‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬المقالة‭ ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬نطرح‭ ‬سؤالاً‭ ‬لأصدقائه‮ ‬‭ ‬ومحبيه‭ ‬عن‭ ‬منصور‭ ‬الإنسان‭ ‬والكاتب‭ ‬المبدع‭ ‬والصديق‮ ‬‭ ‬

البساطةوالنبل‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬الادعاء‭ ‬

عمر‭ ‬الكدي‭ ‬

منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬الذي‭ ‬شغف‭ ‬منذ‭ ‬فتوته‭ ‬الأولى‭ ‬بالمسرح‭. ‬جرفه‭ ‬المسرح‭ ‬إلى‭ ‬السجن،‭ ‬ولكن‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬أكبر‭ ‬كاتب‭ ‬مسرحي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلاد،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬كتاب‭ ‬المسرح‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬أيام‭ ‬الرومان‭ ‬والاغريق‭. ‬ولد‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬اليساحقة‭ ‬قرب‭ ‬بني‭ ‬وليد،‭ ‬وترعرع‭ ‬في‭ ‬مصراتة،‭ ‬ودرس‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬بنغازي،‭ ‬وتخرج‭ ‬من‭ ‬سجن‭ ‬الكويفية‭ ‬والحصان‭ ‬الأسود‭ ‬وسجن‭ ‬بوسليم،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬خبيرا‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬بلاده‭ ‬الواسعة‭. ‬الموهبة‭ ‬والسجن‭ ‬جعلاه‭ ‬يتساءل‭ ‬لماذا‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬قاسية‭ ‬وشرسة،‭ ‬وللاجابة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬جاب‭ ‬صحاريها‭ ‬من‭ ‬تاسيلي‭ ‬واكاكوس‭ ‬وجرمة‭ ‬وقرزة‭ ‬منقبا‭ ‬عن‭ ‬جيناته‭ ‬الشرسة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬رغم‭ ‬صحراء‭ ‬الموت‭ ‬وهذه‭ ‬المفازة‭ ‬العجيبة‭. ‬وهكذا‭ ‬تكون‭ ‬المثقف‭ ‬الشامل‭ ‬الذي‭ ‬يجيد‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬فنون‭ ‬الإبداع‭. ‬المسرح‭ ‬والمقالة‭ ‬والقصة‭ ‬والرواية،‭ ‬ولكن‭ ‬ظل‭ ‬المسرح‭ ‬عشقه‭ ‬وهوسه‭ ‬الأول،‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬مقالاته‭ ‬وروايات‭. ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬رأيه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬الآخرين،‭ ‬فالمسرح‭ ‬منذ‭ ‬ظهوره‭ ‬وهو‭ ‬معلم‭ ‬الشعوب‭. ‬أما‭ ‬منصور‭ ‬الإنسان‭ ‬فهو‭ ‬مثال‭ ‬للتواضع‭ ‬والبساطةوالنبل‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬الادعاء،‮ ‬‭ ‬وله‭ ‬قدرة‭ ‬عجيبة‭ ‬على‭ ‬مسايرة‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬شعبه‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬رأيهم‭ ‬غريبا،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬فناني‭ ‬المسرح‭ ‬الوطني،‭ ‬صديقك‭ ‬يساير‭ ‬كثيرا،‭ ‬فقلت‭ ‬لهم‭ ‬منصور‭ ‬لم‭ ‬يحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالسجن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬وإنما‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬ليساير‭ ‬اصدقاءه،‭ ‬وربما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬مغادرة‭ ‬بلاده،‭ ‬وعرف‭ ‬كيف‭ ‬يتكيف‭ ‬مع‭ ‬جميع‭ ‬طغاتها‭ ‬الذي‭ ‬سجنه‭ ‬والذين‭ ‬يحطمون‭ ‬اليوم‭ ‬مستقبل‭ ‬أبناءه،‭ ‬وعرف‭ ‬كيف‭ ‬يقوم‭ ‬بدوره‭ ‬كمثقف‭ ‬أصيل‭.‬نهاية‭ ‬القذافي‭ ‬الماساوية‭ ‬عندما‭ ‬اخرجوه‭ ‬من‭ ‬أنبوب‭ ‬تصريف‭ ‬مياه‭ ‬الأمطار،‭ ‬تؤكد‭ ‬نظرة‭ ‬كاتب‭ ‬المسرح‭ ‬الثاقبة‭ ‬في‭ ‬مسرحيته‭ ‬‮«‬عندما‭ ‬تحكم‭ ‬الجرذان‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تلك‭ ‬النظرة‭ ‬الثاقبة‭ ‬تلاحق‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬بعد‭ ‬القذافي،‭ ‬إنها‭ ‬فعلا‭ ‬تداخل‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الراوي‭.‬

ايقونة‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬الليبي

مفتاح‭ ‬العماري‭ ‬

في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬عشرية‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬سمعتُ‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬باسم‭ ‬منصور‭ ‬بو‭ ‬شناف‭ ‬الذي‭ ‬تردد‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬مسرحيته‭ )‬عندما‭ ‬تحكم‭ ‬الجرذان‭( ‬التي‭ ‬استفزتْ‭ ‬نظام‭ ‬القذافي‭. ‬ليعتقل‭ ‬على‭ ‬أثرها،‭ ‬وإن‭ ‬بتهم‭ ‬وهمية‭ ‬أخرى؛‭ ‬فكانت‭ ‬تلك‭ ‬اولى‭ ‬اشارات‭ ‬الانتباه‭ ‬والفضول‭ ‬لهذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬سنحت‭ ‬لحظة‭ ‬اللقاء‭ ‬به‭ ‬شخصيًا‭ ‬عقب‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬بأيام‭ ‬قليلة‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬عشرية‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬نفسه‭.‬؛‭ ‬حيث‭ ‬تلتها‭ ‬لقاءت‭ ‬متكررة‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬وبنغازي،‭ ‬والبيضاء،‭ ‬ودرنة‭ ‬ضمن‭ ‬مناسبات‭ ‬ثقافية‭. ‬

‭ ‬منصور‭ ‬أبو‭ ‬شناف،‭ ‬ايقونة‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬الليبي،‭ ‬وبصمة‭ ‬نوعية‭ ‬ذات‭ ‬خصوصية‭ ‬عالية‭ ‬جدًا‭. ‬خاض‭ ‬معترك‭ ‬الحياة‭ ‬والكتابة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬الصبر،‭ ‬والمثابرة‭ ‬العصامية‭ ‬على‭ ‬التعلّم‭ ‬ليغدو‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬معلمًا‭ ‬استثنائيًا‭. ‬كإنسان‭ ‬نبيل،‭ ‬وأديب‭ ‬نوعي،‭ ‬وهو‭ ‬بقدر‭ ‬مكابدته‭ ‬لتجربة‭ ‬السجن؛‭ ‬الا‭ ‬أنه‭ ‬عرف‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة‭ ‬كيف‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬بتدابير‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الواقعية،‭ ‬وقد‭ ‬خبر‭ ‬ترويض‭ ‬لعبة‭ ‬الحياة‭ ‬والكتابة‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬توظيف‭ ‬مهاراته‭ ‬الأدبية‭ ‬لصالح‭ ‬انتصار‭ ‬الجمال‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتورط‭ ‬في‭ ‬اوهام‭ ‬تسويق‭ ‬بطولة‭ ‬المثقف‭ ‬المناضل‭. ‬ولعلة‭ ‬من‭ ‬سجناء‭ ‬الرأي‭ ‬القلائل‭ ‬الذي‭ ‬انتصروا‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬اولا،‭ ‬ثم‭ ‬على‭ ‬قساوة‭ ‬الواقع‭. ‬وهو‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تعدد‭ ‬انشغالاته‭ ‬الكتابية‭ ‬ظل‭ ‬أشد‭ ‬تماسكا‭ ‬وأصالة‭ ‬كمثقف‭ ‬عصامي‭ ‬وموسوعي‭ ‬وأديب‭ ‬نوعي؛‭ ‬خاض‭ ‬بتفوق‭ ‬تجربة‭ ‬الكتابة‭ ‬للمسرح،‭ ‬والسرد‭ ‬الروائي،‭ ‬والتاريخي،‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬السيناريو،‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭. ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬جولات‭ ‬وصولات‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬وذاكرة‭ ‬المكان‭ ‬والمشاركة‭ ‬بفعالية‭ ‬في‭ ‬الندوات‭ ‬وبرامج‭ ‬التلفزيون‭ ‬الحوارية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬اسهامه‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الصحفية‭. ‬ليعد‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬من‭ ‬اعتنوا‭ ‬بتقنيات‭ ‬العمود‭ ‬الصحفي‭.‬‮  ‬‭ ‬

وبفضل‭ ‬هذا‭ ‬التعدد‭ ‬حظي‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬باعتراف‭ ‬وتقدير‭ ‬جميع‭ ‬الأجيال‭ ‬الثقافية‭ ‬المعاصرة‭ ‬لتجربته‭. ‬بمختلف‭ ‬مشاربها‭ ‬وانشغالاتها‭ ‬وتوجهاتها‭ ‬السياسية‭ ‬والفنية‭.‬‮ ‬‭ ‬واخذت‭ ‬شخصيته‭ ‬طابعا‭ ‬محوريا‭ ‬ومنطقة‭ ‬جذب‭ ‬مريحة‭ ‬ومتسامحة‭ ‬يلتف‭ ‬حولها‭ ‬ادباء‭ ‬وفنانو‭ ‬مسرح‭ ‬وسينما،‭ ‬وتشكيليون‭ ‬واعلاميون‭ ‬ورجال‭ ‬فكر‭ ‬وأدب‭ ‬وسياسة؛‭ ‬فأينما‭ ‬ذهبت‭ ‬ستجد‭ ‬منصور‭ ‬أبو‭ ‬شناف‭ ‬محل‭ ‬تقدير‭ ‬وترحاب‭ ‬كبيرين‭. ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬صديقا‭ ‬مقربا‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬دونما‭ ‬استثناء‭.‬‮ ‬‭ ‬

قراءة‭ ‬كتاباته‭ ‬تشعرك‭ ‬بمتعة‭ ‬خاصة‭ ‬لما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬فضائل‭ ‬اسلوبية‭ ‬لها‭ ‬خبرتها‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬عمارة‭ ‬النص‭ ‬بمختلف‭ ‬أجناسه‭. ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬بنية‭ ‬جملته‭ ‬التي‭ ‬يحيط‭ ‬جيدًا‭ ‬بتقنيات‭ ‬صنعتها‭ ‬الفنية،‭ ‬بمهارة‭ ‬تعززها‭ ‬ذائقة‭ ‬رفيعة‭ ‬المستوى‭ ‬جماليًا‭. ‬وحسبا‭ ‬لخبرتي‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬سبر‭ ‬القيمة؛‭ ‬يعتبر‭ ‬منصور‭ ‬أبو‭ ‬شناف،‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬يعنون‭ ‬بتجهيز‭ ‬حقيبة‭ ‬ادوات‭ ‬كتابية‭ ‬وقرائية،‭ ‬بحرفية‭ ‬محسوبة‭ ‬بوعي‭ ‬وعناية‭ ‬ومسؤولية‭ ‬كاتب‭ ‬دربة‭ ‬قلّ‭ ‬نظيره‭. ‬وهذا‭ ‬سرّ‭ ‬الاقتدار‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬كأهم‭ ‬الروافد‭ ‬لمسيرة‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬العطاء‭ ‬المتميز‭. ‬

نسميه‭ ‬حبيبنا‭ ‬منصور

علي‭ ‬العباني

أولا‭ ‬نحن‭ ‬نسميه‭ ‬حبيبنا‭ ‬منصور،‭ ‬ثانيا‭ ‬منصور‭ ‬هو‭ ‬حالة‮ ‬‭ ‬سلام‭ ‬دائمة‮ ‬‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬ومع‭ ‬الآخرين،‭ ‬منصور‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬الكتاب‭ ‬لحركة‭ ‬التشكيل‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬لكل‭ ‬الذوائق‭ ‬المتنوعة‭ ‬كذائقة‭ ‬السماع‭ ‬مثلا،‭ ‬هو‭ ‬صديق‭ ‬وكاتب‭ ‬متفرد‭ ‬بأسلوبه‭ ‬السلس‭ ‬المتحرر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قيود‭ ‬الإستعراض‭ ‬اللغوي‭  ‬‮ ‬‭ ‬تذكرني‭ ‬كتاباته‮ ‬‭ ‬بكتاب‭ ‬تفردوا‭ ‬بنصوصهم‭ ‬التلقائية‮ ‬‭ ‬ولكنها‭ ‬الجميلة‭ ‬والتي‭ ‬تعلق‭ ‬بذاكرة‭ ‬القاريء‭ ‬

نصوص‭ ‬طازجة‭ ‬حديثة‭ ‬

منصور‭ ‬يكتب‭ ‬وكأنه‭ ‬يحكي‭ ‬يتحدث‭ ‬تماما‭ ‬لافرق،‭ ‬هناك‭ ‬حد‭ ‬فاصل‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬المتخيل‭ ‬والنص‭ ‬الصحفي‭ ‬السارد‭ ‬لحدث‭ ‬ماوهناك‭ ‬نص‭ ‬متخيل‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يحيد‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬الحدث‮ ‬‭ ‬منصور‭ ‬وقلة‭ ‬آخرين‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬صنع‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬منصور‭ ‬لعله‭ ‬الأكثر‭ ‬اقترابا‭ ‬واستيعابا‭ ‬للحداثة‭ ‬بكل‭ ‬مظاهرها‭ ‬الأدبية‭ ‬

كنت‭ ‬دائما‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬كتاب‭ ‬لمنصور‭ ‬يضم‭ ‬نصوصا‭ ‬متحررة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قيود‭ ‬التصنيف‮ ‬‭ ‬المتعلقة‭ ‬بأصناف‭ ‬السرد،‭ ‬منصور‭ ‬رافق‭ ‬تشكيليون‭ ‬بل‭ ‬لعله‭ ‬أكثر‭ ‬الكتاب‭ ‬الذين‭ ‬اقتربوا‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬المزاولين‭ ‬لهذا‭ ‬المجال‭ ‬شخصيا‭ ‬اتيحت‭ ‬لنا‭ ‬فرصا‭ ‬عديدة‭ ‬للسفر‭ ‬والإقامة‭ ‬معا‮ ‬‭ ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬عضوين‭ ‬بمجلس‭ ‬الثقافة‭ ‬العام،‭ ‬منصور‭ ‬لعله‭ ‬الوحيد‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬صاغوا‭ ‬نصوصا‭ ‬في‭ ‬مجال‮ ‬‭ ‬فنون‭ ‬التشكيل،ترافقنا‭ ‬كثيرا‮ ‬‭ ‬وشاركنا‭ ‬في‭ ‬حوارات‭ ‬ثقافية‭ ‬عدة‭ ‬وفي‭ ‬أوساط‭ ‬متنوعة‭ ‬أدبيا‭ ‬وفنيا،‭ ‬حتى‭ ‬أنني‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المرات‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬كتابا‭ ‬يضم‭ ‬قراءآته‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التشكيليين‭ ‬الليبيين‭.‬

منصور‭ ‬الذي‭ ‬اعرف

جابر‭ ‬العبيدي

لايمكنني‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬ككاتب‭ ‬ومبدع‭ ‬نقديا‭ ‬لسببين‭ ‬انني‭ ‬تلميذ‭ ‬فاشل‭ ‬ومطرود‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬‮«‬‭ ‬الذاتي‭ ‬والموضوعي‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تداعت‭ ‬اركانها‭ ‬مؤخرا‮ ‬‭ ‬وبان‭ ‬عوار‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬الانتساب‭ ‬إليها‭ ‬سواء‭ ‬للتمرير‭ ‬او‭ ‬للتعمية‭ ‬والتسهيل‮ ‬‭ ‬

وسواء‭ ‬كان‭ ‬الشأن‭ ‬ثقافيا‭ ‬اوسياسيا‭ ‬او‭ ‬شأن‭ ‬من‭ ‬شؤون‭ ‬الحياة‭ ‬عموما‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬مهمتي‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬نص‭ ‬او‭ ‬شخص‭ ‬او‭ ‬موقف‭ ‬إلا‭ ‬ب‭ ‬‮«‬نكت‭ ‬‮»‬‭ ‬الشوال‭ ‬ظهر‭ ‬لبطن،‭ ‬وهذا‭ ‬مالا‭ ‬استطيعه‭ ‬مع‭ ‬المقربين‭ ‬مني‭ ‬واحدهم‭ ‬منصور‭ ‬

النقد‭ ‬اورثني‭ ‬عداوات‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬غنى‭ ‬عنها‭ ‬او‭ ‬انها‭ ‬غير‭ ‬مستحقة‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬تحصيل‭ ‬حاصل‭ ‬وكنت‭ ‬أدرك‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬انها‭ ‬نتيجة‭ ‬طبيعية‭ ‬ومتوقعةلماتعمدته‭ ‬وقصدته‭.‬

فلا‭ ‬المفتي‭ ‬ولا‭ ‬الحصادي‭ ‬ولا‭ ‬محمود‭ ‬جبريل‭ ‬ولا‭ ‬العمامي‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬وارد‭ ‬الانشغال‭ ‬بما‭ ‬يفضي‭ ‬إليه‭ ‬نقدي‭ ‬لهم‭ ‬

المرحوم‭ ‬القاص‭ ‬والروائي‭ ‬عبد‭ ‬الرسول‭ ‬العريبي‭ ‬اتهمني‭ ‬مرة‭ ‬ممازحا‭ ‬ومرة‭ ‬مدونا‭ ‬لهذه‭ ‬المزحة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬المؤتمر‭ ‬بأن‭ ‬نافذتي‭ ‬النقدية‭ ‬تطل‭ ‬على‭ )‬منور‭( ‬للضغينة،‭ ‬والمزح‭/ ‬التهمة‮  ‬‭ ‬كانت‭ ‬ومازالت‭ ‬في‭ ‬محلها‭ ‬تماما‭ ‬لم‭ ‬احاول‭ ‬أبدا‭ ‬التنصل‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬نفيها‭ . ‬فأنا‭ ‬ممن‭ ‬يطلقون‭ ‬مع‭ ‬اول‭ ‬قراءة‭ ‬للنص‭ ‬او‭ ‬متابعة‭ ‬لموقف‭ ‬اوالاستماع‭ ‬لمحاضرة‭ ‬صرخة‭ ‬‮«‬‭ ‬شيلر‭ ‬‮»‬‭ ‬الشهيرة‭ ‬تلك‭  ‬آآه‭… ‬كيف‭ ‬تسنى‭ ‬له‭ …  ‬ثم‭ ‬اردفها‭ ‬ب‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬الهراء‭ ‬او‭ ‬هذا‭ ‬البهاء‭ ‬‮»‬‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬يقتضيه‭ ‬المقام‭ ‬وتتطلبه‭ ‬الحقيقة‭ ‬العارية‮ ‬‭ . ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬معهم‭ ‬ذلك‭ ‬وكما‭ ‬اسلفت‭ ‬منصور‭ ‬احدهم‭ .‬‮ ‬‭ ‬

اشتهر‭ ‬منصور‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الثقافي‭ ‬وبين‭ ‬الناس‭ ‬عموما‭ ‬ككاتب‭ ‬مسرحي‭ ‬ولكم‭ ‬ان‭ ‬تتعجبوا‭ ‬انني‭ ‬لم‭ ‬احظ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬انتج‭ ‬مسرحيا‭ ‬الا‭ ‬بمشاهدة‭ ‬مسرحية‭ ‬واحدة‭ ‬له‭ ‬

وهي‭ ‬مسرحية‭ )‬توقف‭(‬،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بمحض‭ ‬الصدفة‭ .‬

أما‭ ‬ما‭ ‬اشتهر‭ ‬بهما‭ ‬وكرسه‭ ‬عند‭ ‬الناس‭ ‬ككاتب‭ ‬مسرحي‭ ‬وهما‭ ( ‬تداخل‭ ‬الحكايات‭ . ‬و«عندما‭ ‬تحكم‭ ‬الجرذان‭ ‬‮»‬‭ ‬المسرحيتان‭ ‬اللتان‭ ‬كانتا‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬سجنه‭ ‬فلم‭ ‬اشاهدهما‭ ‬الا‭ ‬كلوحات‭ ‬دعاية‭ ‬في‭ ‬تقاطعات‭ ‬شوارع‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬ولم‭ ‬اسمع‭ ‬باسم‭ ‬صاحبهما‭ ‬الا‮ ‬‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬التحقيق‭ ‬و‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬قائد‭ ‬حملة‭ ‬اعتقالات‭ ‬إبريل‭ ‬المشؤومة‭ ‬حسن‭ ‬اشكال‭ . ‬

سيرة‭ ‬ومسيرة‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الذي‭ ‬تحتفي‭ ‬به‭ ‬صحيفة‭ ‬فبراير‭ ‬مشكورة‭ ‬تستحق‭ ‬ان‭ ‬تكون«روشتة‮»‬‭ ‬ووصفة‭ ‬او‭ ‬حتى‭ ‬عنوان‭ ‬لكتاب‭ ‬تقنيات‭ ‬صناعة‭ ‬كاتب‭ ‬فمنصور‭ ‬ومنذ‭ ‬ان‭ ‬عرفته‭ ‬منتصف‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الفائت‭ ‬وهو‭ ‬يسطر‭ ‬بجميع‭ ‬خلاياه‭ ‬وكل‭ ‬كيانه‭ ‬للمراقب‭ ‬والملاحظ‭ ‬حتى‭ ‬غير‭ ‬المنتبه‭ ‬طرائق‭ ‬وسبل‭ ‬وآليات‭  ‬طبخة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬كاتبا‭ ‬ومع‭ ‬هذه‭ ‬المراقبة‭ ‬حتى‭ ‬غير‭ ‬اللصيقة‭ ‬وغير‭ ‬المواظبة‭ ‬تسقط‭ ‬بالتبعية‭ ‬وتتبخر‭ ‬ادعاءات‭ ‬المثبطين‭ ‬والتخويفيين‭ ‬وكهنة‭ ‬المعبد‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬المبدع‭ ‬الا‭ ‬مسخا‭ ‬ملبوسا‭ ‬بجن‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬وادي‭ ‬عبقر‭ ‬او‭ ‬مفطورا‭ ‬بموهبة‭ ‬لدنية‭ ‬لا‭ ‬ناقة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬اكتسابها‭ ‬ولا‭ ‬جمل‭ .‬

تجربة‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬الإبداعية‭ ‬كانت‭ ‬مكابدة‭ ‬وربط‭ ‬ركب‭ ‬كنت‭ ‬انا‭ ‬شاهد‭ ‬من‭ ‬شهودها‭ ‬لردح‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬بنى‭ ‬صوامع‭ ‬تجريبية‭ ‬متتابعة‭ ‬وممضة‭ ‬وهدمها‭ . ‬صوامع‭ ‬قسمته‭ ‬إلي‭ ‬نصفين‭ : ‬ضاحك‭ ‬هازيء‭ ‬مجامل‭ ‬منافق‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المرات‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الإنساني‭ ‬اليومي،‭ ‬ومقاتل‭ ‬شرس‭ ‬وصارم‭ ‬مع‭ ‬الذات‮ ‬‭ ‬يروضها‭ ‬ترويض‭ ‬فرس‭ ‬حرون‭ ‬لتكون‭ ‬مايريدها‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬واظنه‭ ‬قد‭ ‬كسب‭ ‬المعركة‭ ‬وكان‭ ‬ما‭ ‬أراد،‭ ‬فمنصور‮ ‬‭ ‬أرغم‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬تعلم‭ ‬الانقليزية‭ ‬لكي‭ ‬يستمع‭ ‬ل‭ ‬‮« ‬‭ ‬Play of the week‮»‬‭ ‬

فيما‭ ‬كان‭ ‬بعضنا‭ ‬يتلهي‭ ‬بالمسامرة‭ ‬ولعب‭ ‬الورق‭ ‬او‭ ‬ماشابه‭ .‬

كتب‭ ‬الشعر‭ ‬وكان‭ ‬شاعرا‭ ‬طليا‭ ‬وحداثيا‭ ‬منذ‭ ‬اول‭ ‬قصيدة‭ ‬اعرفها‭ ‬له‭ ‬ورغم‭ ‬إنه‭ ‬أزور‭ ‬عن‭ ‬تجربته‭ ‬الشعرية‭ ‬تلك‭ ‬ورفض‭ ‬ان‭ ‬يثني‭ ‬قصيدة‭ ( ‬عاملة‭ ‬النسيج‭ ‬‭) ‬باخري‮ ‬‭ ‬فأنني‭ ‬وبضمير‭ ‬نقدي‭ ‬لاتشوبه‭ ‬شائبة‭ ‬من‭ ‬تأنيب‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أعدها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬عيون‭ ‬شعر‭ ‬التفعيلة‭ ‬عربيا‮ ‬‭ .‬

ومنصور‭ ‬كتب‭ ‬الرواية‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬تصدر‭ ‬له‭ ‬‮«‬العلكة‮»‬‭ ‬بعقود‭ ‬وكم‭ ‬اسكرتني‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬مازالت‭ ‬اذكر‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬فاطمة‭ ‬التليسية‮»‬‭ ‬بموقفها‭ ‬الذي‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬منصور‭ ‬قد‭ ‬استدعى‭ ‬تفاصيله‭ ‬من‭ ‬أسطورة‭ ‬متداولة‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬تليس‭ ‬زمن‭ ‬العصملي‭ ‬والذي‭ ‬يتقاطع‭ ‬مع‭ ‬موقف‭ ‬مريم‭ ‬المجدلية‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬عبق‭ ‬رواية‭ ‬المسيح‭ ‬يصلب‭ ‬

من‭ ‬جديد‭ ‬ونكهتها‭ .‬‮ ‬‭ ‬

لقد‭  ‬اشتغل‭  ‬منصور‭ ‬على‭ ‬روحه‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬احدمنا‭ ‬فاستخرج‮ ‬‭ ‬بدأب‭ ‬ومثابرة‭ ‬اركيولوجي‭ ‬ثقافي‭ ‬متمرس‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاهيف‭ ‬النحيف‭ ‬قلما‭ ‬يستطيع‭ ‬الليبيون‭ ‬بما‭ ‬عرف‭ ‬عنهم‭ ‬من‭ ‬مباهاة‭ ‬وتفاخر‭ ‬ان‭ ‬يضعوه‭ ‬في‭ ‬مصاف‭ ‬كتاب‭ ‬عرب‭ ‬كبار‭ ‬ابداعيا‭ ‬رغم‭ ‬قلة‭ ‬إنتاجه‭ ‬

بقى‭ ‬ان‭ ‬اقول‭. ‬مع‭ ‬احتفاظي‭ ‬بحق‭ ‬الامتعاض‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرفقة‭ ‬السرمدية‭ ‬بينه‭ ‬والسيدة‭ ‬‮«‬مجامل‮»‬‭ ‬ان‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬بدأ‭ ‬ومنذ‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬يبرز‭ ‬كناقد‭ ‬ثقافي‭ ‬يملك‭ ‬أدوات‭ ‬ليس‭ ‬اقلها‭ ‬استطعامه‭ ‬للغة‭ ‬وخروجه‭ ‬من‭ ‬ربقه‭ ‬بنية‭ ‬النص‭ ‬المصمتة‭ ‬إلى‭ ‬العلائق‭ ‬والبني‭ ‬الأخرى‭ ‬المحايثة‭ ‬والتي‭ ‬صنعت‭ ‬وتصنع‭ ‬كل‭ ‬النصو

جمعة‭ ‬بوكليب‭ ‬

منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬والمقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬

أيام‭ ‬صدور‭ ‬صحيفة‭ ‬‮«‬الأسبوع‭ ‬الثقافي‮»‬،‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬كنتُ‭ ‬أنتظر‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬على‭ ‬أحرّ‭ ‬من‭ ‬جمر‭ ‬لأقرأ‭ ‬مقالة‭ ‬المرحوم‭ ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الفقيه‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬الأخيرة‭.‬

كان‭ ‬المرحوم‭ ‬الفقيه،‭ ‬في‭ ‬رأيي،‭ ‬فارسًا‭ ‬بارزًا‭ ‬من‭ ‬فرسان‭ ‬المقالة‭ ‬الصحفية‭. ‬ينسج‭ ‬خيوطها‭ ‬بمهارة‮ ‬‭ ‬وجمال‭.‬

المرحوم‭ ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الفقيه،‭ ‬في‭ ‬جّلّ‭ ‬ما‭ ‬كُتب‭ ‬ويكتب‭ ‬عنه،‭ ‬يوصف‭ ‬بالقاص‭ ‬والروائي،‭ ‬ولا‭ ‬يتم‭ ‬التطرق‭ ‬إلى‭ ‬مكانته‭ ‬كونه‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬كُتّاب‭ ‬المقالة‭ ‬الصحفية‭ ‬الذين‭ ‬ظهروا‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬عاد‭ ‬صديقي‭ ‬الكاتب‭ ‬والمسرحي‭ ‬والروائي‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬إلى‭ ‬نشر‭ ‬مقالاته‭ ‬أسبوعيًا‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ )‬بوابة‭ ‬الوسط‭(‬،‭ ‬صرت‭ ‬أنتظر‭ ‬يوم‭ ‬الخميس‭ ‬موعد‭ ‬صدور‭ ‬مقالته‭ ‬على‭ ‬أحرّ‭ ‬من‭ ‬جمر‭.‬

وكما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬المرحوم‭ ‬الفقيه،‭ ‬هناك‭ ‬مغالطة‭ ‬تردد‭ ‬باستمرار‭ ‬وتزعجني‭ ‬شخصيًا‭ ‬تتعلق‭ ‬بالأوصاف‭ ‬التي‭ ‬تُغدق‭ ‬على‭ ‬منصور‭ ‬ويستحقها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك‭. ‬أبرزها‭ ‬وصفه‭ ‬بالكاتب‭ ‬المسرحي،‭ ‬أو‭ ‬الروائي‭. ‬وهما‭ ‬وصفان‭ ‬صحيحان‭. ‬لكن‭ ‬ينسى‭ ‬كثيرون‭ ‬أن‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬كاتب‭ ‬مقالة‭ ‬أدبية‭ ‬صحفية‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬رفيع‭.‬

نظرةٌ‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬المقابلات‭ ‬واللقاءات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬أو‭ ‬الصحفية‭ ‬أو‭ ‬الاذاعية‭ ‬التي‭ ‬جرتْ‭ ‬مع‭ ‬بوشناف‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬ينشر‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الصحف،‭ ‬تكفي‭ ‬لتكون‭ ‬دليلاً‭ ‬وبرهانًا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ذكرت‭ ‬أعلاه‭. ‬إذ‭ ‬يحرص‭ ‬معدّو‭ ‬تلك‭ ‬اللقاءات‭ ‬على‭ ‬الحديث‭ ‬مع‭ ‬منصور‭ ‬حول‭ ‬ما‭ ‬عُرض‭ ‬واشتُهر‭ ‬من‭ ‬مسرحياته‭ ‬أو‭ ‬روايتيه‭ ‬المنشورتين،‭ ‬ولا‭ ‬يتعرضون‭ ‬إلى‭ ‬مقالاته‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الصحف‭: ‬لماذا؟

هل‭ ‬لأن‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬الصحفية‭ ‬لا‭ ‬ترقى‭ ‬لتكون‭ ‬محورًا‭ ‬صالحًا‭ ‬للنقاش‭ ‬مع‭ ‬بوشناف‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬إذاعي‭ ‬أو‭ ‬تلفزيوني،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تستهوي‭ ‬المستمعين‭ ‬والمشاهدين؟‭ ‬وهل‭ ‬شهرة‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬ككاتب‭ ‬مسرحي‭ ‬وروائي‭ ‬غطت‭ ‬على‭ ‬موهبته‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬المقالة‭ ‬الأسبوعية‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الصحف؟

هناك‭ ‬إجحاف‭ ‬في‭ ‬حقّ‭ ‬الإثنين‭ ‬معًا‭: ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬والمقالة‭ ‬الأدبية‭.‬

هذا‭ ‬الإجحافُ‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬ويصحح‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬وقت‭ ‬ممكن‭. ‬لأن‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬فارس‭ ‬مقالة‭ ‬صحفية‭ ‬أدبية‭ ‬لا‭ ‬يُشقُّ‭ ‬له‭ ‬غبار‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬جهة‭. ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬لأن‭ ‬المقالة‭ ‬الصحفية‭ ‬الأدبية‭ ‬فنّ‭ ‬اثبت‭ ‬حضوره‭ ‬وفعاليته‭ ‬وجماله‭ ‬وأهميته‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬السرد‭ ‬العربي‭ ‬والصحافة‭ ‬العربية‭ ‬الأدبية‭ ‬وفي‭ ‬الذائقة‭ ‬الأدبية‭ ‬الإنسانية‭ ‬عمومًا‭. ‬المقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬القصيرة‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬يومية‭ ‬أو‭ ‬أسبوعية‭ ‬يكتبها‭ ‬عديدون‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬لكن‭ ‬أغلبهم‭ )‬مع‭ ‬كامل‭ ‬تقديري‭ ‬واحترامي‭ ‬لهم‭( ‬لا‭ ‬يرقون‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬جمال‭ ‬وأناقة‭ ‬مقالة‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭. ‬وهذا‭ ‬رأي‭ ‬شخصي‭.‬

القاريء‭ ‬لمقالة‭ ‬منصور‭ ‬لا‭ ‬يستمتع‭ ‬فقط‭ ‬بجمال‭ ‬الكتابة‭ ‬وموهبة‭ ‬منصور‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الفكرة‭ ‬في‭ ‬سطور‭ ‬قلائل‭ ‬وبوضوح‭. ‬فهو‭ ‬ينتقي‭ ‬فكرة‭ ‬موضوعه‭ ‬بملقط،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬نسجها،‭ ‬على‭ ‬مهل،‭ ‬بمهارة‭ ‬وذكاء،‭ ‬ليصل‭ ‬في‭ ‬الختام‭ ‬بفكرته‭ ‬واضحة‭ ‬وأنيقة،‭ ‬شكلاً‭ ‬وموضوعًا،‭ ‬لعقل‭ ‬ووجدان‭ ‬القاريء‭.‬

مهارته‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬الفكرة‭ ‬بما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬متناقضات‭ ‬تبدو‭ ‬جلّية‭. ‬إذ‭ ‬يستند‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف،‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬مقالاته،‭ ‬على‭ ‬رصيد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬القراءات‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الليبي،‭ ‬وموهبته‭ ‬تتضح‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬استحضار‭ ‬وقائع‭ ‬تاريخية‭ ‬واجلاء‭ ‬الغبار‭ ‬عنها،‭ ‬وتقديمها‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬مختلف‭.‬

منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬واحدٌ‭ ‬من‭ ‬كُتّاب‭ ‬ليبين‭ ‬قلائل‭- ‬من‭ ‬ضمنهم‭ ‬المرحوم‭ ‬الشاعر‭ ‬والناقد‭ ‬محمد‭ ‬الفقيه‭ ‬صالح‭- ‬ممن‭ ‬ينتمون‭ ‬بجدارة‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬المرحوم‭ ‬الأستاذ‭ ‬يوسف‭ ‬القويري‭ ‬في‭ ‬فنّ‭ ‬كتابة‭ ‬المقالة‭ ‬الأدبية‭ ‬الصحفية‭.‬

منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬كان‭ ‬محظوظًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬جيله‭ ‬من‭ ‬الكُتّاب،‭ ‬لأن‭ ‬سنوات‭ ‬التكوين‭ ‬في‭ ‬مصراته،‭ ‬ترافقت‭ ‬وتزامنت‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬وعمل‭ ‬المرحوم‭ ‬يوسف‭ ‬القويري‭ ‬في‭ ‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬بالمدينة،‭ ‬وكان‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬عطائه‭. ‬هذا‭ ‬أولا‭.‬

أما‭ ‬ثانيًا،‭ ‬فإن‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬قاريءٌ‭ ‬نَهمٌ،‭ ‬على‭ ‬اطلاع‭ ‬وثقافة‭ ‬واسعين‭ ‬بما‭ ‬يصدر‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مجالات‭ ‬اهتماماته‭ ‬المسرحية‭ ‬والروائية‭ ‬والتاريخية‭ ‬والتشكيلية‭. ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬إجادته‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬أجنبية‭. ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬متابعاته‭ ‬للنشاطات‭ ‬الثقافية‭ ‬والمسرحية‭ ‬والفنّية‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬وخارجها‭. ‬ويرفد‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬حِسٌّ‭ ‬وطني‭ ‬لا‭ ‬ريبَ‭ ‬فيه‭.‬

لا‭ ‬يتبع‭ ‬سواه‭ ‬

عبد‭ ‬العزيز‭ ‬الوصلي

حين‭ ‬ألِجُ‭ ‬مقهى‭ ‬‮«‬هارون‮»‬‭ ‬وأطالع‭ ‬تهليله‭ ‬وترحيبه‭ ‬بالجميع،‭ ‬يتصل‭ ‬بفلان‭ ‬يستعجله،‭ ‬ويستقبل‭ ‬مكالمة‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬يصف‭ ‬له‭ ‬الطريق،‭ ‬ويسأل‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬غياب‭ ‬ثالث،‭ ‬أخاله‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬يستقبل‭ ‬ضيوفه‭ ‬بكرم‭ ‬وفرح‭ ‬عارمين،‭ ‬لا‭ ‬زبونًا‭ ‬لمكان‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عادي،‭ ‬وإن‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬هو‭ ‬بالذات‭ ‬ورشة‭ ‬عمل‭ ‬لنصف‭ ‬إنتاج‭ ‬البلاد‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬والفني،‭ ‬مكان‭ ‬بائس‭ ‬صيّره‭ ‬بمفرده،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تفعل‭ ‬وزارة‭ ‬أو‭ ‬مؤسسة،‭ ‬مركزا‭ ‬ثقافيا‭ ‬نابضا‭ ‬بالحياة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬مجرد‭ ‬مقهى‭ ‬ناء‭ ‬في‭ ‬ردهة‭ ‬فندق‭ ‬متوسط‭ ‬في‭ ‬زقاق‭ ‬جانبي‭ ‬بمنطقة‭ ‬الظهرة‭ ‬وسط‭ ‬طرابلس‭. ‬

التقيه‭ ‬هناك‭ ‬ورغم‭ ‬ميلي‭ ‬للقاءات‭ ‬الثنائية‭ ‬أو‭ ‬الثلاثية‭ ‬الهادئة،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬أبتهج‭ ‬لبهجته،‭ ‬وأفرح‭ ‬لفرحه،‭ ‬وتأسرني‭ ‬طيبة‭ ‬قلبه‭ ‬ونقاء‭ ‬روحه،‭ ‬لكنني‭ ‬أحزن‭ ‬وآسف‭ ‬بشدة‭ ‬لاجتماعيته‭ ‬‮«‬المفرطة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تهبنا‭ ‬الأخ‭ ‬والصديق‭ ‬والأب‭ ‬الرؤوف‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحرمنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬المثقف‭ ‬العظيم‭ ‬والموهوب‭ ‬الفذ‭ ‬والكاتب‭ ‬المقلّ،‭ ‬كما‭ ‬أنعته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لقاء‭ ‬بما‭ ‬يشبه‭ ‬العقوق‭ ‬ويبتسم‭ ‬بحنو‭ ‬أب‭ ‬ولا‭ ‬يوبخني‭. ‬

انتقاد‭ ‬يشاطرني‭ ‬فيه‭ ‬كثيرون‭ ‬لكن‭ ‬منصور‭ ‬بوشناف‭ ‬لا‭ ‬يستمع‭ ‬سوى‭ ‬لنبض‭ ‬قلبه،‭ ‬ولا‭ ‬يتبع‭ ‬سواه،‭ ‬فللطفل‭ ‬السبعيني‭ ‬طريقته‭ ‬الخاصة‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬الفرح‭ ‬باجتماعية‭ ‬رأيتها‭ ‬مفرطة،‭ ‬ورآها‭ ‬تعويضا‭ ‬لما‭ ‬سرقته‭ ‬عزلته‭ ‬الإجبارية،‭ ‬فرفض‭ ‬عزلة‭ ‬اختيارية‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬ضرورية‭ ‬لمنجزه‭ ‬الإبداعي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يزاحم‭ ‬إنتاج‭ ‬كبار‭ ‬المنطقة‭ ‬كما‭ ‬وكيفا‭. ‬

لكن‭ ‬منصور‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬أوسعنا‭ ‬ثقافة‭ ‬وأعمقنا‭ ‬تجربة‭ ‬وأكبرنا‭ ‬قلبا،‭ ‬عرف‭ ‬جيدا‭ ‬أن‭ ‬مضاعفة‭ ‬عدد‭ ‬رواياته‭ ‬وكتبه‭ ‬وفوزه‭ ‬بجائزة‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬تكريم‭ ‬هناك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شيئا‭ ‬أمام‭ ‬أن‭ ‬ينصّب‭ ‬وزيرا‭ ‬أبديا‭ ‬للثقافة‭ ‬الليبية،‭ ‬وعرّابا‭ ‬وأبا‭ ‬روحيا‭ ‬لكل‭ ‬مثقفيها‭ ‬بأجيالهم‭ ‬المتعاقبة‭ ‬ومواهبهم‭ ‬المتفاوتة‭ ‬وأيدولوجياتهم‭ ‬المتناقضة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى