رأي

الفساد الكبير وصلاحيات ديوان المحاسبة.. لفائزة الباشا

بات جليا بأن تفش الفساد في مجتمع من المجتمعات يقوض حقه في التنمية ويهدد أمنه واستقراره لما يتسبب به من تدمير للقيم الأخلاقية التي تكفل له التماسك والقوة اللازمة لمواجهة المتغيرات التي تطرأ بحكم التطور المجتمعي باعتبار الحراك الاجتماعي ظاهرة طبيعية يتسبب الفساد في فقدانها التوازن الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وكذلك السياسي ، حيث تسيطر معايير القيم المادية على الحياة الخاصة والعامة على حد سواء ، وتنهار العلاقات الهشة التي قوامها الشخصنة والمصلحة على حساب مصالح مجموع الأفراد ويصبح لكل شيء ثمن يقاس به كالكلمة الإعلامية وتصريف الأمور الإدارية والمشاريع الاقتصادية التنموية وحكم القضاء وتنتشر الرذيلة وتزدهر؛ وتنتهك حقوق الأفراد والمجتمع معا فلا نتمكن من الحصول على حقوقنا إلا بالواسطة وبمقدار ما نقدمه من تنازلات وفي زمن الفساد تباح المحظورات وتصبح السياسات رهنا بالذات الأنانية .

    

وبات مؤكدا أنه لا وجود لنظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في غياب الأسس المادية التي تكفل التوزيع العادل للمداخيل وحماية ثروات الشعوب والتصدي للفساد بمختلف صوره، بموجب سياسة جنائية فاعلة ورادعة تتصدي لمختلف صور الفساد الكبير والصغير مثل الإجرام الاقتصادي، والإجرام الانتخابي، وتزوير شهادات حسن السلوك والشهادات العلمية لمن يريدون أن يصبحوا فاعلين في الحياة العامة  وليكونوا سياسيين  بارزين يسن  القرارات التي تحقق أغراضهم الإجرامية ، ويتلاعبون بعقول العامة وهو ما يؤمن لهم الحماية الرسمية . 

ويقول محمد حسنين هيكل في كتابه (خريف الغضب) « إن المال أكبر مولدات القوة .. والقوة أيضاً أكبر أسباب النفوذ .. وفي أحيان كثيرة فإن النفوذ نفسه استثمار رابح» .

الفساد الكبير  الذي عرف بالفساد الأبيض انسجاما مع فئة المجرمين ذوي الياقات البيضاء؛ وهم فئة المجرمين الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم رجال اعمال، وفي موجة النهب للمال العام بات هذا النوع من أخطر صور الفساد ، لأن  فساد من يدعون انهم رجال أعمال أو سياسيين أو برلمانيين يؤدى لا محالة إلى فساد أكبر في المجتمعات لما يتاح لهم من امكانات لشراء الذمم تسهل عليهم  تعديل التشريعات والتلاعب بها ، ولتمكينهم من اختيار الاشخاص المنوط بهم تولى الشأن العام من قمة الهرم أي رئيس الدولة أو نواب للشعب ، ومجالس بلدياتومنظمات مجتمع مدني وهمية لها أجنداتها ، و يعمدون إلى  نشر الفساد بقوة نفوذهم واستخدام سلطاتهم في تحقيق مصالحهم الشخصية لا للمصلحة العامة.

لذلك لا يقبل الأقوال التي تسوق للقبول بالفساد ونتائجه، والتي رسخت كمصطلحات شائعة في  الثقافة العربية لها دلالات سلبية تنافي ما جاءت به الشريعة الإسلامية ، فاستخدم مصطلح العطية والعطاء ، والمنفعة ، والهدية والتحقق ، وتغليف الفساد بعنوان جميل براق يناقض ما شريعتنا السمحة التي تنهى على الفساد والإفساد فقال نبي الله سليمان وهم يعرضون عليه هديتهم ،: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36 سورة النمل )…. “ردا على: «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» (35 النمل).

ولقد نهى الخالق العظيم عن الفساد بمختلف مظاهره وأشكاله، وألزم المسلمين مواجهته بالعمل بداية على تحصين النفس، والابتعاد عن الرذائل وعن كل ما ينطوي على مفسدة للنفس والمال والعقل ويهدد المخالفين منهم بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة كقوله تعالي:«أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار».

وبغض النظر عن التقسيمات المختلفة للفساد الذي بات يعرف بالنهب في وطني؛ فأبرز تصنفين ، ما عرف بالفساد الإداري، وهو   الفساد الصغير، الذي تدمنه مجموعات الموظفين والقطاع الخاص ممن تربطه علاقات عمل مع الدولة ، ويتمحور بالتالي حول ما يقدم من خدمات ، أما الفساد الكبير الذي أشرنا إليه؛ فيرتبط بعالم المقاولات والأعمال والنفط ويمارسه أصحاب النفوذ والسلطة والمال، وغالبا ما تكون الشركات المتعددة الجنسية طرفا فيه وهو فساد تندمج فيه الهيمنة الاقتصادية بالسيطرة السياسية ، حيث تقدم  المبادرات بما في ذلك المشاريع التنموية  والخصخصة وحل ودمج الشركات وإعادة التأسيس وما يقتضيه ذلك من تعديلات تشريعية وإصدار قرارات ولوائح تنفيذية من سلطات أدمنت النهب الممنهج للمال العام.

إن ديوان المحاسبة من الأجهزة الرقابية المنوط بها مكافحة الفساد الكبير، وهو «هيئة رقابية عليا تتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة تتبع السلطة التشريعية في الدولة»، السلطة التي لم تجدد لرئيس الديوان ولم تعين وكيل له، بما يكفل قيام الديوان بدوره الرقابي على أموال الدولة ، والتأكد من حسن استعمال والمحافظة عليها،  ومما لاشك فيه إن المادة (28) الإعلان الدستوري 2012 م ، تكفل استقلال الديوان عن سيطرة السلطة التشريعية، والخضوع للمبادئ الدستورية التي تكفل اضطلاعه بدوره بحرية مقيدة، مع ضمان الحيدة  النزاهة الموضوعية والشفافية لتقديم المخالفين للمسألة القانونية ، مما يخضع السلطة البرلمانية لرقابته، وفي الوقت ذاته إخضاع الديوان للمحاسبة والرقابة شرط لازم لقيام دولة القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى