
ربما لا يعنى الفن التشكيلي في جانب منه بقصدية التوثيق قدر اهتمامه بالتعبير عن حالة جمالية يعيشها الفنان ونفسية تعكس جانبا من مشاعره وأحاسيسه الداخلية وتذوقه اللوني للبيئة والشخوص , فيما يبرز الكاريكاتير كجناح ساخر لهذا الفن متجاوزا ما هو جمالي إلى رصد مشهدية الواقع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لأي بلد , وهو ما يقودنا إلى علاقة ذلك بظهور السلطة الرابعة بحكم ارتباط الاثنين بالمتابعة والنقد والتوجيه , لذا فالحديث عن الكاريكاتير كوثيقة يحيلنا إذا إلى محطات مهمة من أحداث عايشها الواقع المحلي والاقليمي والعالمي سجل فيها الفن الساخر حضوره بقوة .
الحاجة لشد الانتباه ولفت ذهن الجمهور للمطبوعة كانت جزءا من مغزى وجود الكاريكاتير وهو ما قاد الدكتور مصطفى العجيلي لمفاتحة الباحث الراحل فؤاد الكعبازي عن رغبته في اصدار صحيفة تزاوج بين خطوطه وكلماته وكانت صحيفة(المرآة) الصادرة سنة 1946لمالكها العجيلي أولى خطوات هذا الفن في مسيرة المشهد الصحفي الليبي عبر رسومات الكعبازي ومقالات رئيس مجلس ادارتها.
الكعبازي وديانكو
هذه الاشارات جزء مما دونه المؤلف علي محمد الأصفر في كتابه (تاريخ الرسم الساخر في ليبيا ) الصادر سنة 1981عن الدار العربية للكتاب ,معرفا بأهم الموضوعات التي تناولها كل فنان والمميزات الفنية في لوحاته, وكما وثق الكعبازي في رسوماته الساخرة العديد من وجوه الرموز الادبية والاجتماعية في المجتمع الطرابلسي كان مشغولا أيضا بما يعنى بطبيعة الوضع السياسي آنذاك خصوصا والبلاد كانت تحت الوصاية البريطانية مثل سخريته من متصرف مدينة الزاوية الانجليزي المتعجرف (دياكنو) حيث جسده الكعبازي في هيئة عسكري يتأبط جريدة كتب عليها )الزاوية ( .
يذكر الأصفر أنالسبب في تقسيم هذا اللون الي جملة من المراحل هو تميز كل مرحلة بفنانين وإنتاج وتوقيت زمني ومستوى في المعالجات والطرح) لكنني لاحظت ارتباط المراحل ببدايات كل فنان مع الصحافة بغض النظر عن الاسلوب فقد يجتمع في مرحلة واحدة أكثر من فنان كل بأسلوبه , وفي العموم يرى الأصفر أن المرحلة التأسيسية تقع بين السنوات (1946-1951) وهي بدايات الكعبازي مع صحيفة (المرآة ) واستمراره حتى اتجاه الكعبازي إلى التعليم بحكم الظروف وانشغاله بتقلد عديد المهام فيما بعد .
الجدير بالذكر كما يوثقها الأصفر في كتابه حديث الكعبازي عن وجهة نظره فيما يرسم وموضوعه الأساس في النقد الذي يعكس أولا فلسفته الخاصة وكذا طبيعة وظرفية ذلك الزمن ومدى استيعابه لخصوصية هذا حيث يقول : اذا كان احجامي راجعا في أول الأمر عن نكسة المرآة فانه أصبح نهائيا بسبب التحول الاجتماعي الذي طرأ على الانسان الليبي في حكمه الذاتي حيث أصبحت له المناصب والرتب والحصانات وهي لدينا مبعث حساسيات لم تبق للرسوم الساخرة ضحايا ذات بال سوى رجل الشارع الذي لا يثير سخريتي بأي وجه من الأوجه لاعجابي وتقديري لأصالته )ص40
منعطف آخر
مع نشر أول عمل للفنان محمد شرف الدين بصحيفة شعلة الحرية 1951. يمكن اعتباره المرحلة الانتقالية بين مرحلة الكعبازي والمرحلة الثانية التي سجلت بداياتها 1959مع اعتماد الفنان أمين شقليلة رسام كاريكاتير متخصص في صحيفة (الليبي) . والجمهور سيكون على موعد مع أول معرض كاريكاتير للفنان عبدالحميد الجليدي 1959. يمكن اعتبار محمد الزواوي وصالح بن دردف جسر آخر يصل المرحلة الثانية (1958_1963) بالثالثة الا أن الزواوي الذي رأت أعماله طريقها إلى النشر 1963يتجاوز بن دردف في تواصله مع الاجيال اللاحقة حتى وفاته.
الفأر والصاروخ
يصافح القراء المرحلة الثالثة سنة 1968مع نشر الفنان محمد عبية أول أعماله متخذا مسلكا انتقاديا يطبع جل رسوماته مثل تهكمه على منظومة الدفاع الجوي الانجليزية وتأكيد دعايتها أن ( ليبيا ستكون من الدول ذات الاستراتيجية العسكرية الرهيبة)، وكان رد عبية ساخرا في صحيفة (الحرية) برسمه صاروخا يقوده فارا يشرب الشاي، وقد آثار العمل ردود أفعال واسعة آنذاك.
تصلنا المرحلة الثالثة أيضا بأعمال الفنانين )محمد الشريف، محمد قريفة، محمد نجيب، التيجاني أحمد، أحمد أبوفيلة(وإن اختلفت الخطوط بين فنان وآخر لكن يجمعها وحدة الموضوع والمرتكز في الغالب على الجانب الاجتماعي (غلاء المهور، الفساد، السلوكيات المنحرفة).
لا تتحدد المرحلة بزمن معين فهي تندمج وتندغم في نسيج ما بعد (الثالثة) كما يصفها الأصفر لتقدم لنا أسماء بعضها ظل متواصلا مع الريشة وأخرى توقفت أو انشغلت بهمومها الخاصة أو انخرطت في مجالات أبعدتها عن طقسها الفني و استنزفت ما تبقى من شغف .
يفتتح الأصفر بوابة المرحلة بتجربة الأكاديمي الفنان الدكتور عياد هاشم الذي عالج في أعماله تمظهرات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمسلك اليومي للمواطن الليبي. ورسم بحس نقدي عيوب تلك الثقافة داخل وخارج البيت الليبي. حيث كانت ولازالت مظاهر هذه السلوكيات ماثلة حتى اللحظة.
كما نرصد أعمالا للكاتب الصحفي محمود النطاح الذي صافح خطوط الكاريكاتير وأبحر لفترة في هوامش الواقع الليبي قبل انتقاله لفضاء السلطة الرابعة. أيضا نرصد أسماء فنانين شباب آنذاك لهم مستقبل مع سحر الخطوط كما يصفهم المؤلف وهم (عوض القماطي، وخيري الشريف، عبدالقادر السبعي) كما لا ينسى الإشارة إلى تجربة الفنان جمعة الترهوني. ولا أعرف إن كان يقصد الفنان جمال الترهونى وورد خطأ باسم جمعة.
في العموم لا تبتعد موضوعات المرحلة ما بعد الثالثة عن أفكار وشواغل سابقاتها باستثناء التخلص قليلا من تأثيرات البعد القومي أو اليساري الذي يتفاعل مع احداث عالمية كما في أعمال الجيل الأول (الكعبازي ومحمد شرف الدين وأمين شقليلة ) ثم يأتي الفنان محمد الزواوي كفضاء فاصل للتحول من البعد القومي إلى الشأن المحلي الذي نجده واضحا في أعمال الزواوي نفسه وكذا أعمال محمد عبية محمد ومحمد الشريف والتيجاني الخ . يمكن القضية الفلسطينية هي الاستثناء في ذلك لكونها كانت ولازالت تمثل الرابط المشترك في وجدان المواطن العربي