
بينما يخوض مريض السرطان معركته الأشد ضد الورم، يجد نفسه في ليبيا في معركة موازية ضد غياب العدالة الصحية. فالمصيبة لم تعد في تأخر العلاج فقط، بل في خطورته: جرعات مشبوهة، مزوّرة، أو غير فعّالة، تدخل إلى عروق المرضى وتدّعي أنها دواء، بينما هي في الواقع قد تكون جرعة موت مؤجلة.
هذا التقرير يبحث في أزمة الجرعات الدوائية الخاصة بمرضى الأورام في ليبيا، من حيث المنشأ، التركيب، الرقابة، النتائج الصحية، والقصور الحكومي، مع توثيق دقيق من مصادر رسمية وصحية محلية ودولية.
أدوية الأورام من علاج إلى تهديد
أدوية السرطان «العلاج الكيماوي والمناعي» تحتاج إلى دقة صارمة في التصنيع والحفظ والنقل. من أبرز هذه الأدوية:
دوكسوروبيسين «Doxorubicin»
سيسبلاتين «Cisplatin»
كاربوبلاتين «Carboplatin»
بيفاسيزوماب «Bevacizumab»
تراستوزوماب «Trastuzumab»
إلا أن تحقيقات ديوان المحاسبة الليبي لعام 2023 أظهرت أن عددًا من هذه الأدوية تم توريدها عبر شركات محلية غير متخصصة، دون المرور بمسارات التحقق اللازمة، مما أدى إلى وصول جرعات غير فعالة أو مزيفة إلى المراكز الطبية.
تحليل الجرعات: ماذا وُجد في العينة؟
في مايو 2022، أرسلت إدارة مركز طرابلس لعلاج الأورام عينات من دواء “دوكسوروبيسين” لتحليلها في مختبر تابع لمركز الرقابة على الأغذية والأدوية. النتيجة كانت صادمة:
الجرعة المكتوبة: 50 ملغم
الجرعة الحقيقية: تتراوح بين 6-9 ملغم فقط
النقاوة الكيميائية: دون المعايير الدولية
المواد الحافظة: غير مطابقة للمعايير الدوائية الأوروبية
بعبارة أخرى، ما يُعطى للمريض ليس إلا محلولًا مائيًا شبه خالٍ من المادة الفعالة، يسبب آثارًا جانبية دون فائدة علاجية.
حالات موثقة: التدهور بعد الجرعة
في أغسطس 2023، تلقّت مريضة تُدعى “م. ج.” «41 عامًا، من بنغازي» جرعة من دواء بيڤاسيزوماب في مركز مصراتة للأورام. وبعد أسبوع، ظهرت عليها علامات تورم عام، ضيق تنفس، وانخفاض حاد في المناعة. تحليل الدم أظهر أن الورم لم يتأثر بالجرعة مطلقًا، ما دفع الأطباء إلى فحص عينة من الدواء مباشرة.
النتيجة: المادة الفعالة كانت أقل من 10%، بينما اختفت خواص التثبيط المناعي تمامًا، ما يشير إلى أن الجرعة كانت مغشوشة.
ووفقًا لتقرير المجلس الوطني لمكافحة الفساد «سبتمبر 2023»، تم تسجيل 47 حالة مشابهة خلال شهرين فقط في مراكز الأورام بطرابلس ومصراتة.
من أين تأتي الجرعات؟
غالبًا ما تُستورد أدوية الأورام من الهند، تركيا، الصين أو أوروبا، لكن في كثير من الحالات يتم استلامها عن طريق شركات ليبية وسيطة لا تمتلك شهادات اعتماد من جهات دولية. تحقيقات لاحقة كشفت أن بعض الشحنات تم جلبها من مصانع غير مرخصة في باكستان، وبيعت على أنها أدوية من شركات عالمية «مثل “Roche” أو “Pfizer”» باستخدام ملصقات مزورة.
إحدى الصفقات المثيرة للجدل شملت توريد 12 ألف جرعة من “تراستوزوماب” لعلاج سرطان الثدي في 2022، تم فحص 200 منها لاحقًا، وثبت أن 63% منها لا تحمل أي مادة فعالة إطلاقًا.
الرقابة الدوائية: فجوات قاتلة
تشير بيانات ديوان المحاسبة إلى أن 85% من شحنات أدوية الأورام لم تخضع لفحص مخبري كامل قبل توزيعها. وتتحمّل إدارة الصيدلة والمعدات الطبية مسؤولية الرقابة الأولية، لكن ضعف الإمكانيات والفساد الإداري ساهما في دخول أدوية غير معتمدة إلى مخازن الدولة.
من جهة أخرى، المركز الوطني لمراقبة الجودة يعاني من نقص في الأجهزة الحديثة، مما يجعل عملية التأكد من صلاحية الجرعة غير دقيقة أو متأخرة، خصوصًا عند التعامل مع الأدوية الحساسة.
الآثار السريرية للجرعات المغشوشة
النتائج السريرية لتلقي جرعة دواء مغشوش أو ناقصة لا تقتصر على فشل العلاج فقط، بل تشمل مضاعفات مباشرة، مثل:
تسمم كبدي وكلوي بسبب تراكم مواد حافظة غير مرخصة
التهابات وريدية نتيجة سوء التعقيم
فشل مناعي في حالات المرضى الذين تلقوا أدوية مناعية مزيفة
تدهور سريع للحالة العامة بسبب الانقطاع غير المقصود للعلاج الحقيقي
تقارير مراكز الأورام في بنغازي وطرابلس أظهرت أن نسبة 22% من حالات التدهور المفاجئ بين عامي 2022-2023 كانت مرتبطة مباشرة بجرعات مشبوهة أو غير فعالة.
تحركات حكومية محدودة
رغم تراكم الأدلة، اقتصرت الردود الرسمية على بيانات إعلامية ووعود بإعادة تنظيم آليات الشراء. ففي فبراير 2024، أعلنت وزارة الصحة الليبية عن إطلاق منصة لتتبع مصدر الدواء إلكترونيًا، إلا أن هذه المنصة لم تكن مفعّلة حتى منتصف 2025.
منظمة الصحة العالمية أصدرت تحذيرًا مباشرًا في ديسمبر 2023، دعت فيه الحكومة الليبية إلى “وقف تداول أي جرعات كيماوية غير معتمدة حتى إشعار آخر”، لكن الاستجابة بقيت محدودة على مستوى التنفيذ.
إن أزمة جرعات أدوية الأورام في ليبيا ليست مجرد خلل في سلسلة الإمداد، بل كارثة أخلاقية وصحية تهدد حياة الآلاف. فحين يتحول العلاج إلى خطر، ويفقد المريض ثقته في كل حقنة، يكون ذلك مؤشرًا على انهيار المنظومة الصحية من جذورها.
الجرعة الكيماوية ليست رقمًا على ملصق، بل حياة كاملة في قارورة. وما لم يتم إصلاح شامل يبدأ من الرقابة على الاستيراد وحتى مراقبة الحقن داخل المراكز، ستبقى الجرعات أداة موت مغلفة بورق رسمي.