الاولىتقارير

الكيماوي : والجرعات القاتلة !!

عبير علي

بينما‭ ‬يخوض‭ ‬مريض‭ ‬السرطان‭ ‬معركته‭ ‬الأشد‭ ‬ضد‭ ‬الورم،‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬موازية‭ ‬ضد‭ ‬غياب‭ ‬العدالة‭ ‬الصحية‭. ‬فالمصيبة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬في‭ ‬تأخر‭ ‬العلاج‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬خطورته‭: ‬جرعات‭ ‬مشبوهة،‭ ‬مزوّرة،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬فعّالة،‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬عروق‭ ‬المرضى‭ ‬وتدّعي‭ ‬أنها‭ ‬دواء،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬جرعة‭ ‬موت‭ ‬مؤجلة‭.‬

هذا‭ ‬التقرير‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬الجرعات‭ ‬الدوائية‭ ‬الخاصة‭ ‬بمرضى‭ ‬الأورام‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المنشأ،‭ ‬التركيب،‭ ‬الرقابة،‭ ‬النتائج‭ ‬الصحية،‭ ‬والقصور‭ ‬الحكومي،‭ ‬مع‭ ‬توثيق‭ ‬دقيق‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬رسمية‭ ‬وصحية‭ ‬محلية‭ ‬ودولية‭.‬

‭ ‬أدوية‭ ‬الأورام‭ ‬من‭ ‬علاج‭ ‬إلى‭ ‬تهديد

أدوية‭ ‬السرطان‭ ‬‮«‬العلاج‭ ‬الكيماوي‭ ‬والمناعي‮»‬‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دقة‭ ‬صارمة‭ ‬في‭ ‬التصنيع‭ ‬والحفظ‭ ‬والنقل‭. ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬هذه‭ ‬الأدوية‭:‬

دوكسوروبيسين‭ ‬‮«‬Doxorubicin‮»‬

سيسبلاتين‭ ‬‮«‬Cisplatin‮»‬

كاربوبلاتين‭ ‬‮«‬Carboplatin‮»‬

بيفاسيزوماب‭ ‬‮«‬Bevacizumab‮»‬

تراستوزوماب‭ ‬‮«‬Trastuzumab‮»‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬تحقيقات‭ ‬ديوان‭ ‬المحاسبة‭ ‬الليبي‭ ‬لعام‭ ‬2023‭ ‬أظهرت‭ ‬أن‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأدوية‭ ‬تم‭ ‬توريدها‭ ‬عبر‭ ‬شركات‭ ‬محلية‭ ‬غير‭ ‬متخصصة،‭ ‬دون‭ ‬المرور‭ ‬بمسارات‭ ‬التحقق‭ ‬اللازمة،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬وصول‭ ‬جرعات‭ ‬غير‭ ‬فعالة‭ ‬أو‭ ‬مزيفة‭ ‬إلى‭ ‬المراكز‭ ‬الطبية‭.‬

تحليل‭ ‬الجرعات‭: ‬ماذا‭ ‬وُجد‭ ‬في‭ ‬العينة؟

في‭ ‬مايو‭ ‬2022،‭ ‬أرسلت‭ ‬إدارة‭ ‬مركز‭ ‬طرابلس‭ ‬لعلاج‭ ‬الأورام‭ ‬عينات‭ ‬من‭ ‬دواء‭ “‬دوكسوروبيسين‭” ‬لتحليلها‭ ‬في‭ ‬مختبر‭ ‬تابع‭ ‬لمركز‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬الأغذية‭ ‬والأدوية‭. ‬النتيجة‭ ‬كانت‭ ‬صادمة‭:‬

الجرعة‭ ‬المكتوبة‭: ‬50‭ ‬ملغم

الجرعة‭ ‬الحقيقية‭: ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬6‭-‬9‭ ‬ملغم‭ ‬فقط

النقاوة‭ ‬الكيميائية‭: ‬دون‭ ‬المعايير‭ ‬الدولية

المواد‭ ‬الحافظة‭: ‬غير‭ ‬مطابقة‭ ‬للمعايير‭ ‬الدوائية‭ ‬الأوروبية

بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬ما‭ ‬يُعطى‭ ‬للمريض‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬محلولًا‭ ‬مائيًا‭ ‬شبه‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬المادة‭ ‬الفعالة،‭ ‬يسبب‭ ‬آثارًا‭ ‬جانبية‭ ‬دون‭ ‬فائدة‭ ‬علاجية‭.‬

حالات‭ ‬موثقة‭: ‬التدهور‭ ‬بعد‭ ‬الجرعة

في‭ ‬أغسطس‭ ‬2023،‭ ‬تلقّت‭ ‬مريضة‭ ‬تُدعى‭ “‬م‭. ‬ج‭.” ‬‮«‬41‭ ‬عامًا،‭ ‬من‭ ‬بنغازي‮»‬‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬دواء‭ ‬بيڤاسيزوماب‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬مصراتة‭ ‬للأورام‭. ‬وبعد‭ ‬أسبوع،‭ ‬ظهرت‭ ‬عليها‭ ‬علامات‭ ‬تورم‭ ‬عام،‭ ‬ضيق‭ ‬تنفس،‭ ‬وانخفاض‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬المناعة‭. ‬تحليل‭ ‬الدم‭ ‬أظهر‭ ‬أن‭ ‬الورم‭ ‬لم‭ ‬يتأثر‭ ‬بالجرعة‭ ‬مطلقًا،‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬الأطباء‭ ‬إلى‭ ‬فحص‭ ‬عينة‭ ‬من‭ ‬الدواء‭ ‬مباشرة‭.‬

النتيجة‭: ‬المادة‭ ‬الفعالة‭ ‬كانت‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬10‭%‬،‭ ‬بينما‭ ‬اختفت‭ ‬خواص‭ ‬التثبيط‭ ‬المناعي‭ ‬تمامًا،‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الجرعة‭ ‬كانت‭ ‬مغشوشة‭.‬

ووفقًا‭ ‬لتقرير‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬لمكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬‮«‬سبتمبر‭ ‬2023‮»‬،‭ ‬تم‭ ‬تسجيل‭ ‬47‭ ‬حالة‭ ‬مشابهة‭ ‬خلال‭ ‬شهرين‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬الأورام‭ ‬بطرابلس‭ ‬ومصراتة‭.‬

من‭ ‬أين‭ ‬تأتي‭ ‬الجرعات؟

غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تُستورد‭ ‬أدوية‭ ‬الأورام‭ ‬من‭ ‬الهند،‭ ‬تركيا،‭ ‬الصين‭ ‬أو‭ ‬أوروبا،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬يتم‭ ‬استلامها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬شركات‭ ‬ليبية‭ ‬وسيطة‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬شهادات‭ ‬اعتماد‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬دولية‭. ‬تحقيقات‭ ‬لاحقة‭ ‬كشفت‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الشحنات‭ ‬تم‭ ‬جلبها‭ ‬من‭ ‬مصانع‭ ‬غير‭ ‬مرخصة‭ ‬في‭ ‬باكستان،‭ ‬وبيعت‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أدوية‭ ‬من‭ ‬شركات‭ ‬عالمية‭ ‬‮«‬مثل‭ “‬Roche‭” ‬أو‭ “‬Pfizer‭”‬‮»‬‭ ‬باستخدام‭ ‬ملصقات‭ ‬مزورة‭.‬

إحدى‭ ‬الصفقات‭ ‬المثيرة‭ ‬للجدل‭ ‬شملت‭ ‬توريد‭ ‬12‭ ‬ألف‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ “‬تراستوزوماب‭” ‬لعلاج‭ ‬سرطان‭ ‬الثدي‭ ‬في‭ ‬2022،‭ ‬تم‭ ‬فحص‭ ‬200‭ ‬منها‭ ‬لاحقًا،‭ ‬وثبت‭ ‬أن‭ ‬63‭% ‬منها‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬أي‭ ‬مادة‭ ‬فعالة‭ ‬إطلاقًا‭.‬

الرقابة‭ ‬الدوائية‭: ‬فجوات‭ ‬قاتلة

تشير‭ ‬بيانات‭ ‬ديوان‭ ‬المحاسبة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬85‭% ‬من‭ ‬شحنات‭ ‬أدوية‭ ‬الأورام‭ ‬لم‭ ‬تخضع‭ ‬لفحص‭ ‬مخبري‭ ‬كامل‭ ‬قبل‭ ‬توزيعها‭. ‬وتتحمّل‭ ‬إدارة‭ ‬الصيدلة‭ ‬والمعدات‭ ‬الطبية‭ ‬مسؤولية‭ ‬الرقابة‭ ‬الأولية،‭ ‬لكن‭ ‬ضعف‭ ‬الإمكانيات‭ ‬والفساد‭ ‬الإداري‭ ‬ساهما‭ ‬في‭ ‬دخول‭ ‬أدوية‭ ‬غير‭ ‬معتمدة‭ ‬إلى‭ ‬مخازن‭ ‬الدولة‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬المركز‭ ‬الوطني‭ ‬لمراقبة‭ ‬الجودة‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬الأجهزة‭ ‬الحديثة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬عملية‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬صلاحية‭ ‬الجرعة‭ ‬غير‭ ‬دقيقة‭ ‬أو‭ ‬متأخرة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬عند‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأدوية‭ ‬الحساسة‭.‬

الآثار‭ ‬السريرية‭ ‬للجرعات‭ ‬المغشوشة

النتائج‭ ‬السريرية‭ ‬لتلقي‭ ‬جرعة‭ ‬دواء‭ ‬مغشوش‭ ‬أو‭ ‬ناقصة‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬فشل‭ ‬العلاج‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬مضاعفات‭ ‬مباشرة،‭ ‬مثل‭:‬

تسمم‭ ‬كبدي‭ ‬وكلوي‭ ‬بسبب‭ ‬تراكم‭ ‬مواد‭ ‬حافظة‭ ‬غير‭ ‬مرخصة

التهابات‭ ‬وريدية‭ ‬نتيجة‭ ‬سوء‭ ‬التعقيم

فشل‭ ‬مناعي‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬المرضى‭ ‬الذين‭ ‬تلقوا‭ ‬أدوية‭ ‬مناعية‭ ‬مزيفة

تدهور‭ ‬سريع‭ ‬للحالة‭ ‬العامة‭ ‬بسبب‭ ‬الانقطاع‭ ‬غير‭ ‬المقصود‭ ‬للعلاج‭ ‬الحقيقي

تقارير‭ ‬مراكز‭ ‬الأورام‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬وطرابلس‭ ‬أظهرت‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬22‭% ‬من‭ ‬حالات‭ ‬التدهور‭ ‬المفاجئ‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬2022‭-‬2023‭ ‬كانت‭ ‬مرتبطة‭ ‬مباشرة‭ ‬بجرعات‭ ‬مشبوهة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬فعالة‭.‬

تحركات‭ ‬حكومية‭ ‬محدودة

رغم‭ ‬تراكم‭ ‬الأدلة،‭ ‬اقتصرت‭ ‬الردود‭ ‬الرسمية‭ ‬على‭ ‬بيانات‭ ‬إعلامية‭ ‬ووعود‭ ‬بإعادة‭ ‬تنظيم‭ ‬آليات‭ ‬الشراء‭. ‬ففي‭ ‬فبراير‭ ‬2024،‭ ‬أعلنت‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬الليبية‭ ‬عن‭ ‬إطلاق‭ ‬منصة‭ ‬لتتبع‭ ‬مصدر‭ ‬الدواء‭ ‬إلكترونيًا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المنصة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مفعّلة‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬2025‭.‬

منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬أصدرت‭ ‬تحذيرًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬2023،‭ ‬دعت‭ ‬فيه‭ ‬الحكومة‭ ‬الليبية‭ ‬إلى‭ “‬وقف‭ ‬تداول‭ ‬أي‭ ‬جرعات‭ ‬كيماوية‭ ‬غير‭ ‬معتمدة‭ ‬حتى‭ ‬إشعار‭ ‬آخر‭”‬،‭ ‬لكن‭ ‬الاستجابة‭ ‬بقيت‭ ‬محدودة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التنفيذ‭.‬

إن‭ ‬أزمة‭ ‬جرعات‭ ‬أدوية‭ ‬الأورام‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬الإمداد،‭ ‬بل‭ ‬كارثة‭ ‬أخلاقية‭ ‬وصحية‭ ‬تهدد‭ ‬حياة‭ ‬الآلاف‭. ‬فحين‭ ‬يتحول‭ ‬العلاج‭ ‬إلى‭ ‬خطر،‭ ‬ويفقد‭ ‬المريض‭ ‬ثقته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حقنة،‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬مؤشرًا‭ ‬على‭ ‬انهيار‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية‭ ‬من‭ ‬جذورها‭.‬

الجرعة‭ ‬الكيماوية‭ ‬ليست‭ ‬رقمًا‭ ‬على‭ ‬ملصق،‭ ‬بل‭ ‬حياة‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬قارورة‭. ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬إصلاح‭ ‬شامل‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬الاستيراد‭ ‬وحتى‭ ‬مراقبة‭ ‬الحقن‭ ‬داخل‭ ‬المراكز،‭ ‬ستبقى‭ ‬الجرعات‭ ‬أداة‭ ‬موت‭ ‬مغلفة‭ ‬بورق‭ ‬رسمي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى