لا يختار أحد النزول في المحطة المقررة له، يمضي القطار ثم يسقط منه عمر أحدهم، حاكما أو رياضيا أو قاضيا أو معلما أو شاعرا أو إنسانا عاملا، هي توقف أخير بالنسبة إليه لكن القطار يظل يشق الدرب ولا يتوقف. في المحطة 25 سقط كثيرون ممن نعرفهم، ويبدو أنه سيظل يسقط آخرون في هذي المحطة، لكن الحياة تظل تتحرك قدما ويلبد على كل شيء النسيان.
وحدهها الآثار المتبقية من الراحلين ما يدل على مرورهم، فلن يخلد الوجدان الناس لأن أصحاب الوجدان أيضا سيرحلون، وهي فكرة منطقية لكنها قد تبدو مؤسفة وقاسية.
يفقد العالم العالم والفنان ولكنه يظل ينجب غيرهم، يخلق الله ما يشاء، ومنهم ذوو العقل الثاقب وذوو الحس المرهف.
في بلادنا ليس هنالك قطار إلا قطار الحياة، وليس هناك أخبار إلا من فارقوا الحياة، فيصبح موت أحد حدثا تراجيديا لكنه سريع التبخر ودرامي بشكل سطحي، بينما يتم عند شعب آخر تقبل موت أحدهم والاعتبار بما فعل وترك، وفي بلادنا لا قيمة أصلا للحياة البشرية في نظر السلطة سواء سلطة الحكم أو العقل الجمعي وهو ما يفسر عدم بقاء أي حزن عميق في مكانه بل يدهسه القطيع وهو يمر إلى المرعى.
مات فلان، ثم حملة من الإشادة والحسرة والتأسف تختفي في اليوم التالي، ويختفي ذلك الميت كله، ويعود الناس إلى حياة ردود الأفعال العصبية ومجاراة السائد والسخرية من كل ما يحدثه الغير ما لم تحكم المصلحة.
موت حي وسط بيئة موات هو لا حدث في الحقيقة، بل هو لحظة من الاحتفال تنطفيء عند أول لايك في فيسبوك أو هدف بالصدفة لفريق من الدرجة العاشرة أو أكذوبة يطلقها فم السلطان أو انقطاع مستدام للكهرباء كما انقطع منذ زمن في هذي البلاد ضوء الأحلام البسيطة.