المفترق.. إبراهيم بيوض
قصة قصيرة
تفنن المدن في اخفاء النقائض، وتبدع في خداع الغرباء، فتخفي مكبات النفاية واحياء البؤس وتنصب شراك الفتنة في المداخل كي تلتذ بكلمات الغزل، كلما طالتها يد الزمان خلعت في الركن جلدها البالي كالافعى، واستعادت شبابها من جديد ،لكن لحداقة المدن نقائص ايضا، فقد يلتقي النقيض بالنقيض،فهاهو ذا ارقى فنادق العاصمة يحط بجوار مقام (سيدي العارف) ولا يفصل بينهما سوى مسافة يتقاسمها طريق ضيق ورصيف يتحول الى موقف للسيارات. هناك على الرصيف بالذات يتجلى التناقض، ويكتمل المشهد في مواسم زيارات الضريح فتختلط سيارات المراسم الفارهة بسيارات النقل القديمة التي تقل المريدين والزوار يحملون الرايات والدفوف غير مبالين بالنزل الفحم ولا بضيوف الدولة الدولة الكبار،وينسل سائقو السيارات الفارهة ببدلهم الرسمية وربطات العنق في خطى خجلى من بين فوضى الدراويش والمريدين بملابسهم الرثة.
يلتقي العالمان على الرصيف ، يفرقهم الطريق ويتقاسمهم النزل والمقام. يحدث احيانا ان يطل ضيوف الدولة من الشرفات العالية، ويقف السواح نصف عراة لمراقبة المشهد، واحيانا تخون بعضهم نسائم الشمال فتعبث بستائر الغرف وينكشف للمارة عناق الاجساد ا لمحموم !
من جهة الشاطي يبدو المقام وكأنه يندس بينفكي عملاق وتبدو اعمدة مدخل النزل كأسنان مارد تهم لتطبق على البنيان الهش لمقام الشيخ.
من لم يقرأ الملامح في اواجهة قد يدرك الرمز في القفا فقد تجلت العلامة في شقا صغير دب في صمت وارتسم بمحاذاة الرصيف في نصف دائرة، ولكن احدا لم يتنبه فظلت الأقدام تتخطى الرمز المنحوت في الأرض دون ان تقراء الرسالة.
لم ينتبه احد حتى للحفر التي تشكلت من اتساع الفتق في الرن القصي من الرصيف لولا ان سيارة المراسم الانيقة قد علقت بإحداها!
كانت الحفرة كالفخ مغطاة بقشرة من القطران، وتطلب تحرير السيارة عدة ساعات حمد الله سائقها عدة مرات لانه كان لوحده ولم يكن يصحب ضيفا رفيعا من ضيوف الدولة الكبار.!
في الصباح اعاد المهندس الشاب الذي ارسلته مصلحة الآثار لاستطلاع الأمر نفس العبارة على مسامع ( الحاج محفوظ) الرجل المسن الذي يقسم نهاره بين الاذان في المسجد المجاور ، وخدمة الضريح .
سره سؤال المهندس الشاب عن تفتق الرصيف فأجابه بحماس :
– منذ عام ظهر الشق بمحاذاة الرصيف كما تصدع السقف والزوايا.
دوّن المهند س الشاب أرقاما وحروف في كراس صغير ، بدت مبهمة للشيخ محفوظ لكنها شجعته ، فأوغل في التفاصيل:
ذات يوم ضحكت من عابر كان يزور الضريح حين قال :(سيدي العارف أراد ان يغتسل فقصد البحر.!) لم افطن للرمز او للنبؤة التي تحملها العبارة الا حين بدأ النزل يعج بالنصارى والمتنصرين، وبتنا نرى في الشرفات ما نرى . لم يمض وقتا حتى بدأ التصدع والفتق يدب في البنيان.
انهمك المهندس الشاب في رسم خطوطه وارقامه المبهمة متجاهلا الحاج المحفوظ ومضى يتتبع الشق فحام حول الضريح مرتين ثم دق الجدران بقضيب من معدن، تبعه الحاج محفوظ حتى مدخل الضريح، وتكلم دون ان يسأله هذه المرة:
– أحيانا احمد الله على قصر نظري فلم اعد ارى اكثر من الطريق، احيانا من الأفضل ان لاترى وان “من لطف الله بالناس ان الخطايا وان انتنت- لاتفوح”*
أعاد المهندس الشاب العبارة ألا خيرة ألف مرة في ذهنه ولم يستطع أن يتبين ما اذا كانت دعاء ام أحجية.
تفحص الشرفات العالية للنزل، واختطف نظرة لوجه الحاج محفوظ فوجده يبتسم .! دس الكراس الصغير في جيبه وغادر.
بعد ايام عاد يصحب عمالا شرعوا في مداواة الشقوق والحفر, و ألجموا واجهة الضريح بسور تسنده أعمدة من الخرسان، انغرزت كحراب ضخمة في بدن الضريح.!
– لكن الفتق لم يختف….. سيظل ابد يتسع
قال ذلك درويش عابرا ذات يوم واختفى.