
بسبب انشغالي ، التزاما ، بمتطلبات البرنامج الثقافي لأيام معرض النيابة العامة الدولي للكتاب ، لم يتسنى لي حضور حفل افتتاح الدورة « 13 » للمهرجان الوطني للفنون المسرحية ، التي تم تقديم عروضها على مدى الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر المنصرم ، واختتمت الخميس بتتويج من رآه المحكمون أهلا ، وحجب الجوائز التي لم توفى حقها.
لقد عاندني الحظ ، مرة أخرى ، هذا العام ، ففشلت في تلبية دعوة الفنان ، الصديق عبد الباسط أبوقندة ، رئيس الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون ، وكنت قد تغيبت ، قسرا ، أيضا ، عن أول دورة تنظمها الهيئة ، النشطة ، المثابرة ، للأغنية الليبية ، وحملت ، تكريما ، اسم الراحل الكبير ، الفنان ، عبد اللطيف حويل ، طيب الله ثراه.
صبيحة اليوم الموالي لحفل الافتتاح ، قررت التعويض ، على نحو ما ، عما فاتني ، فقصدت إلى حيث اتخذت اللجنة الثقافية للمهرجان ، مقرا لتنفيذ برنامجها ، وكانت قد تشكلت برئاسة الكاتب والناقد ، المميز ، منصور بوشناف ، وعضوية كل من / ميلاد الحصادي ، وطارق الشرع والمخرج / عمر هندر ، وثلاثتهم أسماء مرموقة في مجال فنون المسرح. تأكد لي صدق ظني بشأن قيمة مفردات البرنامج الثقافي المصاحب لأيام المهرجان ، منذ الوهلة الأولى لولوج قاعة الندوة ، فالحوار كان سيدور حول تجربة الكاتب المسرحي الراحل فرج قناو ، رحمه الله ، الذي يعد واحدا من أشهر كتاب المسرح الاجتماعي ، الليبي ، إن جاز التعبير ، وما تزال مكانته عالية ، رفيعة ، في نفوس مجايليه ، وما تزال حاضرة بذاكرتي ، مشاهد من
« البنت الي قالت لا » ، التي كتب فصولها «قناو » ، رحمه الله ، وقدمها لجمهور مطالع النصف الثاني من عقد سبعينات القرن الماضي ، المخرج عبد الله الزروق ، وما تزال ذاكرتي حافلة بمشاهد اللوحات الاستعراضية ، التي كانت نجمتها الفنانة خدوجة صبري ، صحبة ما لا يقل عن عشرين شابا ، من الجنسين ، وقد رسموا بليونة أجسامهم ، وشغف اندماجهم الحركي ، حكاية موازية لما كان يجري على ألسنة الشخوص من أقوال وحوارات ، وقد لا أبالغ إن قلت أن مسرح ، الزروق ، الاستعراضي ، حينذاك ، كان سابقا ، وربما أكثر إمتاعا ، عما قدمه لاحقا ، المخرج السينمائي ، الشهير حسين كمال.
قاعة الندوة تزينت بوجوه يشهد لها إخلاصها الكبير للمسرح ، وقد جاءوا ، أغلب الظن ، من كل المدن الليبية ، وحتى لا أقع في مصيدة النسيان ، فلن أذكر أيا من الحاضرين ، الذين تناوب جميعهم ، تقريبا ، على نسج سيرة ، فرج قناو ، كما شهدوه منها ، وتلاوة ما بصفحته ، رحمه الله ، من إسهام ، كان له عميق الأثر ، في صياغة قدر لا يمكن إنكاره ، من ملامح هوية المسرح الاجتماعي الليبي ، وما قدمه من أعمال ، على مدى عقدي السبعينات والثمانينات ، وكذلك تجربته الأقصر عمرا في مجال المنوعات التلفزيونية ، الرمضانية ، على نحو خاص.
في طريقي للمغادرة ، توقفت عند الصديق العزيز ، الفنان محمد الصادق ، الذي ختم سيل عبارات ، ودعابات ، محبته ، بتذكيري أن موعد عرض مسرحيته « بث مباشر » ، التي يشارك بها في مسابقة المهرجان الرسمية ، سيكون مساء الأربعاء ، ولا أدري إن كانت محبتي « للصادق » ، و تقديري الشخصي ، لتشبثه بالستارة الأسطورية لأستاذ الشعوب ، أم أن عاملي الحظ والصدفة ، قادا خطاي ، عشية يوم ذاك ، نحو مسرح الكشاف.
ما لا شك فيه ، أن مشاهدة عرض واحد ، لا تجيز التعليق على مستوى كل الأعمال المشاركة في المهرجان ، ولكن المرتبة التي وضع بها المحكمون « بث محمد الصادق المباشر» ، من حيث عدد ، وطبيعة ، الجوائز المسندة للمشاركين فيه ، تأليفا , وتمثيلا ، وإخراجا ، قد تسمح بشيء من المقاربة ، مع التأكيد على مسألة عدم التقليل من شأن أي من الأعمال الأخرى المشاركة ، ولا أي من كوادرها في كل الاختصاصات. سأزعم أن الصديق ، الفنان ، محمد الصادق ، لن يخالفني ، كثيرا ، النظر إلى أن « بث مباشر « التي ألفها بنفسه ، وقام بإخراجها ، أيضا ، إنما تم إنتاجها على عجل ، ومع قليل من التشدد ، فإن المشاهد ، ناقدا ، أم كان من الجمهور ، قد لا يصنفها حتى في خانة مسرح الفصل الواحد ، وأن العرض
«الخطابي» الذي استغرق 67 دقيقة ، قد لا يزيد عن كونه قائمة «اسكتشات » ، اجتهد « الصادق « في ربطها بخيط واحد ، لا يصعب أن تتبين فيه ناقوسا ، يدق بأعلى ما أوتيت حنجرة « عيد سعيد « من صراخ لينبه لحجم مستنقع ما انغمس فيه المجتمع الليبي من وحل التجرد من الأخلاق ، طلبا للمال والجاه ، وهي رسالة مؤثرة ، قطعا ، وكان لابد أن يتفاعل معها ، على نحو متكرر ، الجمهور الذي احتشد بمسرح الكشاف. الجمهور ، بتقديري ، كان أكبر المساهمين في صنع الحدث ، ورغما عن عقود « الجدب المسرحي » إن جاز التعبير ، فمن الملاحظ أن الجمهور الليبي ما يزال على عهده مع الذائقة « الفرجوية »، بل إن متوسط الأعمار الذي ينحو ، بفارق شاسع ، إلى عهد الشباب ، والانضباط ، احتراما ، لما يجري على الركح ، وحين التفاعل معه ، ليبعث على مستوى عال من التفاؤل بأن المسرح ما يزال على مكانته الرفيعة ، في قائمة خيارات الليبيين لوسائل الثقافة والترفيه ، وفي ظني أن هذا التفاؤل ، وشغف جيل شاب ، على نحو ما أظهره شباب مسرح الخمس ، هو ما ينبغي البناء عليه لإطلاق برنامج وطني للثقافة والترفيه ، تتم بموجبه استعادة الموسم المسرحي ، قبل التخطيط للمهرجان ، وتنظيم مسابقاته. إننا من دون موسم مسرحي سنوي ، يستغرق معظم شهور السنة ، وتتم تدوير عروضه بين المدن ، وحيثما كانت هناك إمكانية للعرض ، إنما نظل نعيش ذات مشهد المفارقة المغرقة في السذاجة والمأساوية ، في آن واحد..
تغيب مباريات دوري كرة القدم عن الملاعب ، وتنفطر القلوب حسرة على عدم الترشح لكأس العالم.



