
أحيانًا، حين أرى المشهد في الملاعب الليبية، اتساءل ببراءة طفل ضائع:
هل نحن نتابع مباراة كرة قدم، أم نشهد بروفة لحرب أهلية؟!
مقاعد تتطاير، رجال أمن يختفون مثل «النينجا»، أعلام تمتلئ بالشتم أكثر من الشعارات الوطنية، والمشجع المسكين يدخل الملعب ليشجّع، فيخرج مصابًا بتورّم في الكتف، واشتباه في انتماءه الجهوي.
كرة القدم عندنا لم تعد رياضة..!!
بل أصبحت طقسًا شعبيًا للتنفيس عن الغضب وتوزيع الإحباط الاجتماعي على شكل شتائم وهتافات… وأحيانًا لكمات.
من المفترض أنها مباراة… لا معركة تحرير !!
يكفي أن تُخطئ في لون قميصك لتجد نفسك «خائنًا يكفي أن تصفّق لفريقك الخاسر لتُتّهم بالاستفزاز».
يكفي أن تبتسم للحكم لتُصنّف عميلًا أجنبياً.. كل شيء هنا هشّ: النظام، الصوت، وحتى السياج المعدني الذي انهار ذات مرة وتسبب في وفاة مشجع، لم تُذكر سيرته إلا في صفحة نعي عابرة.
أما الجهات المسؤولة؟ فتكتفي ببيانات تبدأ بـ)نستنكر(، وتنتهي بـ)سوف نتخذ الإجراءات القانونية المناسبة(… ولا شيء يحدث.
من الجماهير إلى الجماهير… سلامٌ على العقول
الشاب الليبي اليوم لا يملك ناديًا صحيًا يفرّغ فيه غضبه ولا ملعبًا آمنًا، ولا حتى «جنان» يسمع فيه صوت نفسه.
فتحوّل التشجيع إلى انفجار جماهيري، فيه يصرخ، ويقذف، ويحرق، ثم ينام مرتاحًا لأنه «انتصر» على الحكم، لا على الخصم.
الجمهور ليس مجرمًا بطبعه، بل جائعًا، غاضبًا، محبطًا،
يشاهد الوطن ينهار من حوله، فيأتي إلى المدرج ليشعر أن له صوتًا .. حتى لو كان صراخًا في الفراغ.
الشباب بين المطرقة والعارضة
المشكلة ليست فقط في الشغب، بل في ما وراءه.
الشاب الليبي يُمنع من السفر دون مبرر لا يجد وظيفة إلا عبر «مقابلة اجتماعية» مع شخص ما إن غضب، اتُّهِم بالتحريض وإن سكت، قيل عنه إنه سلبي وغير وطني وإن ذهب ليُشجّع فريقه، عاد مكسورًا أو معتقلاً حتى الكرة… لم تُترك له، بل حُوّلت إلى منصة للضغط، وساحة لتصفية الحسابات، وتفريغ الطاقات المكبوتة.
قوانين؟ نعم. تطبيق؟ لا.
يملك الاتحاد الليبي لكرة القدم قائمة عقوبات تُشبه كتابًا مقدسًا:
منع جماهير-خصم نقاط-إيقاف ملاعب-غرامات
لكنها تُستخدم فقط على الفرق الصغيرة، بينما الكبار يُربَّتون على الكتف ويقال لهم:
سامحونا هالمرة ولو أن القوانين كانت تُطبّق بعدل، لما شهدنا ما شهدناه في مباراة الأمس بطرابلس، من شغب جماعي و17 إصابة واعتداء على الحكّام.
العالم يتقدّم .. ونحن نعود بكرة القدم إلى العصر الحجري في أوروبا، الجماهير تدخل الملعب بعد تسجيل بصمة العين.
في ليبيا، تدخل الجماهير بأسنانها .. أحيانًا حرفيًا.
في العالم، الكاميرات تراقب الجمهور.
في ليبيا، الجمهور يسرق الكاميرا.
العالم يُدرّس “ثقافة التشجيع”، ونحن نحتاج إلى دورة بعنوان: “كيف تحضر مباراة دون أن تُسجَن أو تُصَاب؟”
الخاتمة؟ كرة القدم لا تُربّى وحدها… بل يجب تربية الشعب كله معها
لن تتغير الملاعب ما لم نُغيّر ما في عقولنا.
ولن نصنع جمهورًا راقيًا ما دمنا نُغذي فيه الكراهية ونمنع عنه التعليم، ونطالبه أن يكون متحضّرًا في بلد لا تمنحه سوى الفوضى.
فيا كل مسؤول، ويا كل لاعب، ويا كل رجل أمن:
إن أردتم ملاعب بلا شغب… فابدؤوا بتجهيز وطن فيه ما يستحقّ الحياة.
حتى ذلك الحين، سنظل نُشاهد الكرة… وننتظر الصافرة التي لا تأتي.