
من خلال هذه الذاكرة التراثية الرائعة أخذتنا، الباش مهندسة سُمية الجربي في رحلة عبر عتبات الزمن لنتعرف على المأكولات التي تتميز بها المائدة في يوم عاشوراء، وجلسنا معا على المائدة الدرناوية العامرة بطبيعتها بالأطباق والمشروبات، وتناولنا كل ما لذ وطاب من أطباق شهية متنوعة ومشروبات حلوة ولذيذة ومنعشة، وتعرفنا على مأثر الموروث الغذائي الدرناوي الجميل، واستذكرنا ما تميز به أهلنا في مدينة درنة الزاهرة، من صلة رحم وألفة وترابط وحب وود وعطف وإحسان، ونثر بذور السعادة على أديم أرضنا الليبية الطيبة.
لكل مجتمع ما يميزه عن غيره من المجتمعات الأخرى من حيث العادات والتقاليد في المناسبات الدينية، وأهلنا في مدينة درنة الزاهرة من أبرز المجتمعات الليبية في الاستعداد لهذه المناسبات، وذلك لما لهذه المناسبات من مكانة كبيرة في نفوس أحبتنا وأهلنا (الدراونة).
تقول المهندسة سُمية الجربي: ولأهلنا في درنة أسلوبهم الخاص في الاحتفال بقدوم كل مناسبة، بعادات وتقاليد توارثوها عبر الزمن، حيث تميزت الأسرة (الدرناوية) بأحياء المناسبات بشكل مميز، خاصة المناسبات الدينية عبر كل أزمنتها، بدفء اللحظات الجميلة، وتواصل الناس مع بعضهم البعض، وتألف قلوبهم وتراحمهم، تقاليد وعادات جميلة مليئة بالكثير من المحبة والتراحم والعطاء في هذه المناسبات، فهي من المظاهر الاجتماعية للمدينة، بشوارعها وأزقتها وحواريها، برائحة الياسمين والزهر، وناسها الطيبون، وحكاياتها، وأحداثها التي ضمنت الاستمرار.
ترتبط عاشوراء في مدينة درنة (المدينة الاندلسية في ليبيا) بتقاليد قديمة توارثتها الأجيال منذ زمن بعيد، ويحرص (الدراونة) كثيراً على إحيائها بسعادة كبيرة، ولعل من بين تلك التقاليد المميزة في عاشوراء طبق (السليقة)، وهي أكلة شعبية (درناوية) أصيلة ارتبطت بيوم عاشوراء، تجمع مكوناتها بين مجموعة من البقوليات والقديد، انتقلت من درنة إلى بقية المدن، ويعتبر طبق السليقة جزءا من الموروث الثقافي (الدرناوي)، ومن العادات والتقاليد المعروفة لدى (الدراونة)، في يوم عاشوراء، يتم تبادلها بين الجيران في (اوعية) صغيرة كعربون محبة ووئام بين الناس، وتعد فرصة للتجمع العائلي مع الأصدقاء والجيران في يوم عاشوراء، ولا يخلو بيت في مدينة درنة من هذه الأكلة، التي تعتبر من أشهر وأطيب الأكلات الشعبية، ومن ألذ المأكولات الليبية، ومن رموز الموروث الغذائي، بل تعد من مظاهر يوم عاشوراء، ويقبل عليها (الدراونة) بشراهة لا توصف، واتأسف لحالنا الآن، وما آلت إليه الأمور نتيجة التطرف الفكري، والجهوية، فلا تكاد الأجيال الجديدة تعرف شيئا عن عاداتنا وتقاليدنا.
فعندما تجوب شوارع وأزقة وحواري (البلاد) المدينة القديمة في مدينة الزهر والنوار، تشتم رائحة هذا الطبق تنبعت من كل بيت (درناوي) أصيل، في شارع البحر وشارع الحبس وشارع الوادي تشم عبق الزهر والورد والياسمين تفوح من هذه الشوارع والأزقة، وفي الجوار القريب تشاهد عراجين الموز تتدلى في الوادي، ومنظر الرمان الشهي (صردوك درنة الشلفي)، في ذلك الزمن كانت هذه المدينة لؤلؤة ليبيا، لكن طالها الإهمال، في حقب زمنية، لكنها بقت، حتى بعد اعصار دانيال، الذي أتى على الكثير من معالمها، وعادت من جديد لأن (الدراونة) لهم تاريخ كبير، تتحدث عنهم ذاكرة المدينة الجميلة، التي تنقلنا لكل الأحداث (الدرناوية) التي مرت بالمدينة، كما نقلتني لها حكايات جدتي الصبورة و(الحنينة) صاحبة الروح المرحة، وهي تحدثني عن تاريخ هذه المدينة الزاهرة، وأهلها الطيبون. أماكن ترعرعت بين جناباتها ثقافة وطنية وحس قومي أهلها لتلعب دورها التاريخي في الوحدة الوطنية، إننا أمام حالات استثناء صنعت من المكان محرابا للحياة، فما بالك حين تجد انك أمام استثناء مميز جدا.
في حين يقمن ربات البيوت الليبيات المنحدرات من نسل الاندلسيون، والموريسكيون، والكراغلة والاتراك والشراكسة، والقريتلية، بإعداد طبق البليلة، وهى لا تختلف عن السليقة الا في مذاقها الحلو حيث يستبدل الملح والبهارات بالسكر واللوز والزبيب ويضاف الحمص والقمح المسلوق ويزين بجوز الهند، ويتم تبادل تلك الاطباق بين الجيران والاقارب والمعارف في الحى والمدينة، فتصبح فرصة للأولاد والبنات للحصول على الحلوى والنقود مقابل قيامهم بإحضار تلك الاطباق فلم يكن من العادة اعادة أي (وعاء) فارغ، حيث يحمل الأطفال صحون الفول والحمص والسليقة والبليلة في (أوعية) صغيرة ليوزعوها على الجيران والاحباب، ويعودون الى بيوتهم بسليقة الجيران، في مشهد حيوي رائع تزدان به أزقة وحواري وشوارع مدينة الياسمين وكأنها خلية نحل، تتنقل الأواني من بيت لبيت ولا تنتهي إلا بعد آذان صلاة العصر، بكل فرح ومرح وطيبة وعفوية. ويجوبون الشوارع وهم ينشدون (وارشة نملة ونميلة .. وارشة جاك الغرنوق .. وراشة ينقبلك عينك .. وارشة عينك لافوق .. وراشة عدا للسوق .. وراشة شراء عبروق .. وارشة من وسط السوق .. وارشة عبروق فضية .. وارشة بألفين ومية).
والغرنوق هو الطائر البحري المعروف (ونقبك) أي نقرك بمنقاره، ويرى الباحث التاريخي مصطفى الطرابلسي رحمه الله في هذه الاهزوجة كنوع من التعبير الشعبي عما كان يصيب الناس من عسف الجبأة في العهود الماضية، فالمعروف أن جبأة الضرائب في العهد العثماني لم يدخروا وسيلة او فرصة لأجل استنزاف موارد الناس، فكانوا يجمعون منهم النقود والأقوات وقد يصادرون منهم ما يدخرون من قوت أو نقود ولا يستثنون أحد حتى الفقراء.
كما يردد الاطفال في مدينة درنة عبارة مسجوعة (اللي ما تعطى العاشوراء، تصبح برمتها مقعورة) وهى تقليد ومحاكاة لما كان يجرى أمام اعين الاطفال من مساومات وتهديدات يطلقها جبأة الاموال من موظفي الدولة آنذاك.
ولأننا مجتمع محافظ على تعاليمه الدينية فقد اتخذ الناس في ليبيا في العقود الماضية من يوم عاشوراء من كل عام موعد لأداء الزكاة، ربما لأنها تتوافق مع بداية العام الهجري الجديد حيث يقوم المزارعين ورعاة الماشية والتجار بمراجعة حساباتهم والتدقيق في حصاد عامهم من الخسائر والارباح وفقا للتقويم الهجري، وفى مدينة درنة يطُلق على يوم عاشوراء وما يؤدى فيه من طقوس (تعوشير) وربما جاءت الكلمة كما يفسرها الباحث التاريخي مصطفى الطرابلسي رحمه الله بأنها تدل على أخذ العشر أو نصف العشر بالنسبة لزكاة الحبوب، أو أخذ ربع العشر، بالنسبة لزكاة النقدين وعروض التجارة، يعتمد في مناسباته حتى الدينية منها على الطعام كان ولابد من تعلم الربة كافة صنوف الطعام الحديث والتقليدي وبالتأكيد (لابأس على إسبار الناس) فما إن ينقضي سبر حتى يلحقه أخر.
تقدم على المائدة يوم عاشوراء وجبة للغذاء، ومن المعروف أن كل أهلنا في ليبيا لديهم تقريباً نفس العادات والتقاليد في الاحتفال بذكرى عاشوراء، ولكن يبقى لكل مكان مظاهره الخاصة به، والتي تميزه عن غيره من الأماكن الأخرى.
احتفالات ليبيا دائما أكثر بهجة، هكذا هي عادات وتقاليد أهلنا في مدينة الياسمين درنة الجميلة بتركيبتهم الاندلسية الرائعة، وبصلة الرحم التي أوصاهم بها نبينا وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، من المحزن أن تندثر تلك العادات التراثية الجميلة.
لقد كان زمنا جميلا وأياما رائعة تسودها المحبة والصدق والعفوية المفقودة في زمننا الحاضر.
شاركتني في الإعداد لهذه المقالة التراثية، أختنا وزميلتنا المثقفة الباش مهندسة سُمية الجربي، عضو مؤسسة إرثنا للتراث والثقافة EFHC، عن مدينة الياسمين درنة الزاهرة.
كل الشكر لها على الجهد الكبير الذي قامت به من أجل الإعداد لهذه المقالة، وعلى تعريفنا دائما بروائع ومأثر موروثنا الثقافي والاجتماعي الجميل، الغني بكل تفاصيله الجميلة، وعلى ثقافتها الواسعة، وإلمامها المعرفي الكبير، وعلى حيويتها وحماستها.
سليقة لذيذة وعاشورة سعيدة وكل العام وأنتم بخير.