بنغازي .. دور تاريخي في تأصيل الهوية

ميدان البلدية .. ميدان سوق الحشيش ..
ميدان الحدادة ..
ميدان الفندق القديم
في مدينة بنغازي توجد عديد الميادين، منها القديم والحديث، منها ما كان قبل وجود الاستعمار الايطالي في بلادنا، ومنها ما قام بإنشائها الإيطاليون، لعل أشهرها ميدان البلدية، الذي يعد أحد أقدم ميادين بنغازي، وأحد الميادين الأربعة الكبيرة )ميدان البلدية، ميدان سوق الحشيش، ميدان الحدادة، ميدان الفندق القديم(، التي كانت موجودة بمدينة بنغازي قبل الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911م.
لقد مرّ الزمن ولم يفقد هذا الميدان أهميته بوصفه «قلب المدينة النابض»، كما ظلّ يلعب دوراً ثقافياًّ وسياسياًّ واجتماعياًّ كبيراً، كيف لا وقد بات ملتقى المثقفين والشعراء والسياسيين والشباب المتحمسين والعاملين في شتى المجالات، يلتقون في مقاهيه وزواياه وعلى أرصفته، يَعرضون قضايا وهموم وأفكار جيلهم وشؤونهم العامة، هو الميدان الذي ذكره قائد القوات البريطانية عندما دخلت قواته بنغازي سنة 1943م، ووصفه بـ قاعة استقبال ليبيا، وهو ما يشير ضمنياًّ إلى أنه واحد من أهم الميادين وأجملها، إضافة إلى أهميته المستمدة من موقع المدينة ومينائها البحري، التي كانت تاريخياً بوابة أفريقيا الأولى على العالم.
ولا يمكن اختزال الأهمية الثقافية لهذا الميدان في كونه فقط مقراً لبلدية بنغازي، وإنما تعود أهميته الأساسية إلى زمن مضى، فهو قلب المدينة النابض بالأفراح ومنطلق التحولات الكبرى، وله دور الكبير في تأصيل الهوية الحضارية للمجتمع، وتصميمه ليس وليد اليوم، أو أحد معطيات العصر الحديث، وإنما ظهر منذ فجر التاريخ بأشكال وأهداف وظيفية مختلفة؛ حيث تجلت مظاهر التصميم العام في عدة حضارات قديمة وما شهدته من تطور في المفهوم العام، كما تم الاستفادة من التجارب العربية والأجنبية في التنسيق الحضري للميدان بالأماكن المحيطة مع الوضع في الاعتبار أهمية الرجوع إلى دراسة العناصر التاريخية )المعمارية والفنية( لاستلهام الأفكار منها وتطبيقها بشكل حديث، فعملية التنسيق الحضري لا تأتي بشكل عفوي دون وعي بعوامل كثيرة لطبيعة المدينة والناس المقيمين بها ونوعية الزوار الذين يتوافدون عليها.
لقد حفظ ميدان البلدية التاريخي ذاكرة مدينة بنغازي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عبر الزمن، بساحته المربعة المبلطة بالحجارة، والمعروفة قبل دخول الايطاليين لمدينة بنغازي باسم ميدان البلدية، الذي يقع وسط المدينة حيث المدينة القديمة بمحلة سيدي سالم، بين سوق الظلام وسوق الحوت، ويوجد به مبنى مقر بلدية بنغازي، أو قصر بلدية بنغازي، الذي يعد أقدم المباني الإدارية الحكومية في المدينة، بني في القرن التاسع عشر، إذ يرجع تأسيسه إلى العام 1872م، عن طريق رشيد باشا المدفون في جامع بو قلاز )جامع عصمان( سنة 1893م، كما يوجد به فرع المصرف التجاري الوطني وجامع عبدالسميع القاضي «الجامع العتيق»، أحد المباني التاريخية، كما يعد الميدان مكانًا لمرور حركة الناس في المدينة، حيث تعلو في هذا الميدان أصوات الزوّار على أصوات أي شيء آخر.
تصل إلى الميدان عبر امتداد شارع عمر المختار الذي يصلك إلى Piazza أيّ الميدان والذي اتّخذ اسمُه مِن مبنى البلدِيّة الموجودة به، وإن كانت البلدية التي سمي الميدان باسمها أمست أطلالًا وذكريات، وبجانب المبنى يوجد ممر يُسمّى «شارع البلدِيّة»، يقُودُك السير فِيه إلى البَحَر، يميل ميدان البلَدِيّة إلى التربيع فِي شكله أيّ ساحة شبه مربّعة تقريباً، ويُشابه فِي طرازه المعماري وإلى حدٍ بعيْد ساحات رُوما الشّهيرة، مضافاً إليها مذاق عربيّ إسْلامي متمثل فِي بعض مبانيه، وتحيط بالميدان المنسق تنسيقاً جميلاً، أمّا الشكل المعماري لهذه المنطقة الممتدة مِن بداية شارع عُمر المُختَار إلى ميدان البلدِيّة فهي تجمع بين طرازين: الطّرّاز العَرَبيّ الإسلامي المُصمْم مِن سُكّان المدينة، والطّرّاز الأوروبي الذي صمّمَه الإيطاليون، الشقَّق السكنيّة والمحال التجاريّة الكائنة تحت أقواس جميلة أضافت على المكان رونقاً وبهاءً.
من أشهر معالم الميدان «مقهى العرودي» مُلتقى الأُدَبَاء وكبار موظفي الدّولة وأعيان المدينة فِي زمن الرّاحل أحمَد رفِيْق المهدوي شاعر الوطن، الذي كان المقهى المفضل له، وكان له كرسي محدد في المقهى، يلتف حوله نخبة من الشعراء الشباب، منهم الشاعر رجب الماجري، وفي الستينيات كان المقهى المفضل للفيلسوف الدكتور عبد الرحمن بدوي، ويُذكر أن الحاج مُصْطفى العرودي كان مِن أصدقاء أحمَد رفِيْق المهدوي ومحبيه، وعنه ذكر أستاذنا سَالم الكبتي، أن الحاج العرودي كان قد أنشأ قبل مقهاه بميدان البلَدِيّة، مقهاه المعروف باسم «قهوة الشط» فِي فترة الاحتلال الإيطالي، والتي ورد ذكرها فِي أشعار رفِيْق فِي زمن هجرته إلى تُركيَا:
وقهوة الشّط ما أحلى الجُلُوْس بها..بيْن الأحِبّة فِي تِلك العَشِيّات، لقد انتهى مقهى مُصْطفى العرودي بميدان البلدِيّة وللأسف الشديد إلى شيء آخر كمَا انتهت معظم الأشياء الجميلة فِي بلادنا، وتحول هذا المقهى الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالحراك الثقافي والسّياسِي فِي مرحلة مِن أهمّ مراحل تاريخ بلادنا، وكان يُعد معلماً بارزاً من معالم المدينة، إلى محل تجاري بدلاً مِن الحفاظ عليه وتطويره ليصبح كمقاهي القاهرة التي ارتبطت بمشاهير مصْر ونخبتها مِن الأُدَبَاء والمُثقفين، والتي هي اليوم مِن أبرز الأماكن السّياحيّة فِي مِصْر.
بجانب المقهى زنقة «لاطمة» تؤدي الى حيث كان يسكن الاذاعي بلقاسم بن دادو، والفنان علي الشعالية في بناية فوق المقهى، ثم حلاق شفيق رضوان، بعده محل حسونة لألعاب الأطفال، بعده خياط، ثم صيدليّة الفلاح لصاحبها صالح الفلاح والتي كانت ضمن أقدم أربع صيدليات أنشأها لِيبيّون لتكون أوّل الصيدليات بمدينة بنغازي، والدكتور صالح من سكان شارع قصر حمد، وكان تعمل فيها دكتورة صيدلانية مصرية، وكان يوجد بالصيدلية د.عبد الرسول الغويل «يضرب الابر» من سكان بن عيسى، وكان يوجد بجانب الصيدلية محل منصور الحمرى للمواد الكهربائية، ومحل محمد الكوافى اكريمش للمواد المنزلية، ومقابل الصيدلية محل لبيع الألبان وخاصة الياغورت، وذياب الخياط حلوني يقوم بصناعة الزبادي «الياغورت»، ثم زنقة صغيرة من خلالها تصل إلى مخبز «كوشة» التومي، والكنيسة القديمة، ثم محل سويلم العمامي لملابس الأطفال، وبعده محل بن زبلح للمكسرات، في الجهة المقابلة حيث يوجد مبنى البلدية، كان يوجد البنك التجاري والمقهى التجاري، ومركز شرطة المدينة، وبجانبه مقهى «بيرلاتو» أيام الاحتلال الايطالي مكان الشرطة السياحية حالياً، مقابلة لمبنى البلدية من جهة الباب الجانبي، تفصل بينهما زنقة صغيرة، ثم مبنى البلدية، بعده سينما 9 أغسطس وكانت سينما صيفية وشتوية، ثم مكتب الأهلي لتعليم الطباعة على الآلة الكاتبة لصاحبه النعاس، وقد هدمت السينما والمعهد وشيد مكانها مبنى المصرف التجاري الوطني، باتجاه قوس سيدي سالم القوس الجميل الذي يُدخلك لشارع سيّدِي سَالم، ويشعرك وأنتَ تقف بجواره أنه أكبر من قوس النصر بـ«الشانزليزيه» والذي هدم في سنة 1986م، وتُدخلك الناحية الثانية مِنْ الجامع إلى سُوْق الظّلام الذي شيد فِي العهد العثماني الثّاني في ليبَيا مدخل الجامع العتيق ومدخل شارع سيدي سالم الذي به مقهي الحجلاكي، قبل القوس دكان الفلاح، ورجب مفراكس للأثاث، ثم مكتب سليمان الصلابى المحامي، وبعده ممر به من الداخل مكتب حسن أعبيدة المحامي، ثم بعد القوس مغسلة بابا ويلة «فوق المغسلة كان مقر غرفة التجارة والصناعة وكان مديرها عوض لنقي»، ثم حلواني يوناني، وفى الدور الأول مكتب عبد الرحمن بونخيلة محرر العقود، ثم السنفاز الطرابلسي سالم الزيانى وسحلب الصباح، وحلاق سليم طرخان صاحب الدراجة Hillman، ومطعم بوعشرين فول وطعمية، وإلى الأمام قليلا يوجد حلاق الغويل والمرابط، وحسن القريتلي، ومكتب الكاتب العمومي البمبة، ومكتب الكاتب العمومي مصطفى الشركسي والد الهيلاهوب الرائع أستاذنا سي فؤاد الشركسي، وحلاق محمد بن جميعة، ومطحن «القهوة» البن، وأمامه فندق ومطعم المستيري، وخياط بن سعود، وخياط عبدالسلام المذبل وهو من سكان شارع محمد موسى، وحلواني قوبعة، ومكتب الفاسي، والخراز، ومكتب المحامي مخلوف، وحجرة الكفيف عبدالله وخادمه قدوره، محل مواد منزلية، محل ازواوة للسجائر يديره عبد الله العفاس، محل نظيم البورى، بعده محل ازواوة للدرجات يديره إبراهيم العفاس، ثم مدخل سوق الظلام، والسنفاز مصطفي القمودي الذي قدم إلى مدينة بنغازي في فترة الخمسينيات قادمًا من تونس وهو أفضل من يقوم بإعداد السفنز بالدحي، والمخارق والزلابية في شهر رمضان، ثم سوبر ماركت خليفة الشيباني، وعصمان، وزقاق الغرياني، ودكان الشويهدى، والشارع المقابل يصل بك إلى القبة وسيدى سالم، المكان لازالت ملامحه واضحة.
من أبرز معالم الميدان الجامع العتيق، الذي تحت قبته اختلط عبق كل هذا التاريخ
لم يشفع لهذا المكان المفعم بالروح، فقد خصوصيته بعد هدم سُوْق الظلام سنة 1986م، تمامًا مثلما حدث لقوس سيدي سالم الجميل ولكثير من معالم المدينة التاريخية، معالم ذات صلة بموروث بنغازي الثقافي ووجدانيات سكانها، طمست ودمرت وازيلت بالكامل في حقب مختلفة لأسباب غير مقنعة، إلا في أذهان من قام بهذا الفعل المشين، ولم تترك كل هذه المعالم والبنايات لتتعايش مع التراث.