رأي

بورقيبة والمادة «الشخمة»

أمين مازن

عُرِفَ‭ ‬عن‭ ‬السيد‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬وهو‭ ‬يعلن‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬منتهجاً‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬انتهاج‭ ‬أسلوب‭ ‬المراحل،‭ ‬تحريضه‭ ‬الدائم‭ ‬على‭ ‬الاهتمام‭ ‬بما‭ ‬سماه‭ ‬المادة‭ ‬الشخمة،‭ ‬قاصدًا‭ ‬الدماغ‭ ‬وهو‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬سلامته‭ ‬ستتكفل‭ ‬بتوفير‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نقص،‭ ‬خاصةً‭ ‬وأن‭ ‬تونس‭ ‬صغيرة‭ ‬المساحة‭ ‬والعدد‭ ‬وواحدة‭ ‬من‭ ‬مستعمرات‭ ‬فرنسا‭ ‬التي‭ ‬نُكبت‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بالاحتلال‭ ‬الألماني‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬تتحرر‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬بهزيمة‭ ‬هتلر‭ ‬وانتحاره‭ ‬على‭ ‬أشهر‭ ‬الروايات‭. ‬إنها‭ ‬الوضعية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬أمامها‭ ‬اقتصاديو‭ ‬المرحلة‭ ‬سوى‭ ‬التوجه‭ ‬للأنشطة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬ذات‭ ‬المردود‭ ‬السريع‭ ‬والجهد‭ ‬اليسير‭ ‬والتسويق‭ ‬المضمون،‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬السياحة‭ ‬ما‭ ‬شكّلَ‭ ‬أوسع‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬وأضمن‭ ‬العائدات‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬عند‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تركته‭ ‬أهوال‭ ‬الحروب‭ ‬على‭ ‬المداخيل‭ ‬من‭ ‬الكساد،‭ ‬والنفوس‭ ‬من‭ ‬السأم،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تنال‭ ‬قدرًا‭ ‬من‭ ‬الاستقلال‭ ‬صَغُرَ‭ ‬أو‭ ‬كَبُرَ‭ ‬ألا‭ ‬أن‭ ‬تتعرض‭ ‬لأثقاله‭ ‬وتسعى‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬تبعاته؛‭ ‬فكانت‭ ‬السياحة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬نشاط‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬ما‭ ‬أخذ‭ ‬يغري‭ ‬للتوجه،‭ ‬فقد‭ ‬وضعت‭ ‬الحرب‭ ‬أوزارها‭ ‬وبدأ‭ ‬الذين‭ ‬نُكِبُوا‭ ‬في‭ ‬أعزَّائهم‭ ‬أو‭ ‬فقدوا‭ ‬ما‭ ‬حسبوا‭ ‬أنهم‭ ‬قد‭ ‬أمّنوه‭ ‬لسد‭ ‬ما‭ ‬سيسألهم‭ ‬فيه‭ ‬سائل‭ ‬أو‭ ‬محروم،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأحق‭ ‬بالاهتمام‭ ‬تخطيطًا‭ ‬أو‭ ‬تمويلًا‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬يحض‭ ‬على‭ ‬الاستهلاك‭ ‬السريع‭ ‬فكان‭ ‬في‭ ‬النشاط‭ ‬السياحي‭ ‬ما‭ ‬حفّزَ‭ ‬أصحاب‭ ‬الأموال‭ ‬على‭ ‬إنفاقها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬أكبر‭ ‬ضمانًا‭ ‬لسرعة‭ ‬تعويض‭ ‬المفقود،‭ ‬وأسهل‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬وقرب‭ ‬التسويق،‭ ‬فكانت‭ ‬سلسلة‭ ‬الفنادق‭ ‬التي‭ ‬أُقيمت‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬التونسية‭ ‬ضمن‭ ‬خطة‭ ‬لم‭ ‬يتفطن‭ ‬إليها‭ ‬عديد‭ ‬الذين‭ ‬طالما‭ ‬وطأوا‭ ‬أرض‭ ‬تونس‭ ‬ولفت‭ ‬أنظارهم‭ ‬كثرة‭ ‬المهرجانات‭ ‬الفنية‭ ‬والعلمية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬منها‭ ‬مدينة‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬إحياؤها‭ ‬على‭ ‬التونسيين‭ ‬وحدهم،‭ ‬وإنما‭ ‬يتسع‭ ‬دائمًا‭ ‬ليشمل‭ ‬المحيط‭ ‬العربي‭ ‬والدولي،‭ ‬فنجد‭ ‬المشاركين‭ ‬يبدؤون‭ ‬بالعشرات‭ ‬وقد‭ ‬يصلون‭ ‬المئات،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬حاضر‭ ‬لهذه‭ ‬المهرجانات‭ ‬إلا‭ ‬ورُسِمَت‭ ‬له‭ ‬سلفًا‭ ‬المهمة‭ ‬المنوطة‭ ‬به،‭ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬المختلفين‭ ‬مع‭ ‬آراء‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬اتخذوا‭ ‬من‭ ‬تبنِّي‭ ‬تونس‭ ‬للنشاط‭ ‬السياحي‭ ‬مأخذًا‭ ‬بشأن‭ ‬جدوى‭ ‬المردود،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬العالمين‭ ‬ببواطن‭ ‬الأمور‭ ‬كانوا‭ ‬دائمًا‭ ‬يسخرون‭ ‬من‭ ‬مهاجمي‭ ‬السياسات‭ ‬التونسية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الجدوى‭ ‬عندما‭ ‬أدركوا‭ ‬ما‭ ‬تشترطه‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬تأثيث‭ ‬منشآتها‭ ‬السياحية‭ ‬من‭ ‬الانتاج‭ ‬المحلِّي‭ ‬دون‭ ‬غيره‭ ‬وقَصْرِ‭ ‬العمالة‭ ‬على‭ ‬التونسية‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬لأن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬القيد‭ ‬أملى‭ ‬نظام‭ ‬التدريب‭ ‬فأوجد‭ ‬الكوادر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عملها‭ ‬محليًا،‭ ‬وإنما‭ ‬يمكن‭ ‬الاستعانة‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬بأكملها‭. ‬أما‭ ‬المهرجانات‭ ‬فإن‭ ‬العائد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يُعَدد،‭ ‬فيتضح‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬أن‭ ‬السياحة‭ ‬ليست‭ ‬لهوى‭ ‬أو‭ ‬تفريطًا،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬خطة‭ ‬محكمة‭ ‬ومورد‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬لولا‭ ‬العقلية‭ ‬الناضجة‭ ‬التي‭ ‬أفلحت‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬العائد‭ ‬من‭ ‬أقصر‭ ‬الطرق،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لسلامة‭ ‬المادة‭ ‬الشخمة‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬نادى‭ ‬بها‭ ‬بورقيبة‭ ‬وهو‭ ‬يتولى‭ ‬رئاسة‭ ‬تونس،‭ ‬والتي‭ ‬هيأت‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬واحدةً‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬الدول‭ ‬الصغيرة‭ ‬قُدرةً‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬أجود‭ ‬المردود‭ ‬نموًا‭ ‬في‭ ‬الموارد‭ ‬وتكوينًا‭ ‬للكوادر‭ ‬وحضورًا‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الدولي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى