فنون

بين موسكو و طرابلس :مريم الصيد.. بلد الثلج منحنى الأساس وموطن الشمس عرفني على روح الألوان

حاورها / عبدالسلام الفقهي

في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تلامس‭ ‬فيها‭ ‬الفرشاة‭ ‬قماش‭ ‬مريم‭ ‬الصيد،‭ ‬يتحول‭ ‬الفضاء‭ ‬المحيط‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬فضاءات‭ ‬للطاقة‭ ‬الإنسانية‭. ‬هي‭ ‬فنانة‭ ‬لا‭ ‬ترسم‭ ‬الأشكال‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬ترسم‭ ‬الهالات‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بها،‭ ‬تستنطق‭ ‬الجسد‭ ‬ليتحدث‭ ‬بلغة‭ ‬الشغف،‭ ‬والألم،‭ ‬والانتشاء‭…‬

تجربتها‭ ‬الفنية‭ ‬رحلة‭ ‬فريدة‭ ‬عبر‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والروح‭ ‬بين‭ ‬صرامة‭ ‬التكوين‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الروسية‭ ‬وحرارة‭ ‬الوجدان‭ ‬في‭ ‬بيئتها‭ ‬الليبية،‭ ‬مازجةً‭ ‬برودة‭ ‬الأكاديمي‭ ‬بدفء‭ ‬الحسي‭. ‬في‭ ‬معرضها‭ ‬الشخصي‭ ‬الأول‭ ‬أثيري‭.‬،

دعتنا‭ ‬فيه‭ ‬الصيد‭ ‬للغوص‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬فلسفتها‭ ‬أن‭ ‬الجسد‭ ‬ليس‭ ‬كتلة‭ ‬مادية،‭ ‬بل‭ ‬مستودع‭ ‬للطاقة‭ ‬الروحية‭ ‬والخبرات‭ ‬المعاشة‭. ‬التقينا‭ ‬بها‭ ‬لنفتح‭ ‬صندوق‭ ‬أسرارها‭ ‬الفنية،‭ ‬و‭ ‬يكون‭ ‬حوار‭ ‬يتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬اللوحة‭ ‬ليدخل‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬الفكرة‭.. ‬

‭: ‬كيف‭ ‬استوحيتِ‭ ‬فكرة‭ ‬عنوان‭ ‬معرضك‭ ‬الأخير،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬قادك‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أثيري‮»‬؟

استوحيت‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬أثيري‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طاقة‭ ‬البشر‭ ‬والظروف‭ ‬التي‭ ‬مررت‭ ‬بها‭. ‬جسدت‭ ‬هذه‭ ‬الطاقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لوحة‭ ‬بمعنى‭ ‬‮«‬أثيري‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الهالة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬طبقة‭ ‬الأورا‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بالإنسان‭. ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬لترجمة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬مرئي،‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬وتأثيرات،‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬ولون‭. ‬إذ‭ ‬حاولت‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬المفهوم‭ ‬العلمي‭ ‬والفلسفي‭ ‬والنفسي‭ ‬للمصطلح،‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬فسحة‭ ‬بصرية،‭ ‬تحاكي‭ ‬بصورة‭ ‬متخيلة‭ ‬حواراتنا‭ ‬الجوانية‭ ‬وتقدم‭ ‬خارطة‭ ‬روحية‭ ‬لصراعاتنا‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭. ‬

‭ ‬لازالت‭ ‬أعمالك‭ ‬شغوفة‭ ‬بالجسد،‭ ‬كيف‭ ‬ترين‭ ‬فلسفة‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬الأثير؟

فلسفة‭ ‬الجسد‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬إنساني‭ ‬عن‭ ‬المراحل‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬اليومية‭: ‬من‭ ‬الألم،‭ ‬والفقد،‭ ‬والفرح،‭ ‬والحنين،‭ ‬والتواصل،‭ ‬والانتشاء‭. ‬أسماء‭ ‬لوحاتي‭ ‬عبرت‭ ‬بها‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة،‭ ‬ولكنها‭ ‬تجعلك‭ ‬تغوص‭ ‬لفهم‭ ‬طلاسم‭ ‬الألوان‭ ‬والتعبير‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حركة‭ ‬الجسد‭. ‬ودائماً‭ ‬أترك‭ ‬المتلقي‭ ‬يصل‭ ‬لفهم‭ ‬اللوحة،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬السر‭ ‬ربما‭ ‬في‭ ‬لوحاتي‭. ‬الجسد‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬شكل‭ ‬مادي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬وعاء‭ ‬الأثير‭ ‬والخبرات‭.‬

‭ ‬أيضاً‭ ‬ما‭ ‬سر‭ ‬اهتمامك‭ ‬بلغة‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬تجربتك‭ ‬الفنية‭ ‬بصفة‭ ‬عامة؟

سر‭ ‬اهتمامي‭ ‬بلغة‭ ‬الجسد‭ ‬في‭ ‬تجربتي‭ ‬الفنية‭ ‬ربما‭ ‬لكونها‭ ‬تحاكي‭ ‬ما‭ ‬أشعر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬مررت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬اليومية‭. ‬لغة‭ ‬الجسد‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬عالمية‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬حرفية؛‭ ‬إنها‭ ‬أصدق‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الداخلية‭. ‬إطلالة‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬إنسان‭ ‬الكهف‭ ‬يقودك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الجسد‭ ‬كان‭ ‬حاضرا‭ ‬وبقوة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬التجليات‭ ‬اللونية‭ ‬للبشر،بملامح‭ ‬أو‭ ‬بدونها،‭ ‬حيث‭ ‬سعي‭ ‬الإنسان‭ ‬ولازال‭ ‬إلى‭ ‬بث‭ ‬كل‭ ‬أفكاره‭ ‬وتصوراته‭ ‬وأحلامه،‭ ‬وكذا‭ ‬لحظات‭ ‬يأسه‭ ‬وطيشه،‭ ‬وخوفه‭ ‬وغطرسته،‭ ‬كل‭ ‬تناقضات‭ ‬واقعه‭ ‬نجدها‭ ‬مبثوثه‭ ‬على‭ ‬جدارية‭ ‬الجسد‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬ولازال‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬قاتلا‭ ‬وقتيلا‭. ‬

‭ ‬كيف‭ ‬نفهم‭ ‬واقع‭ ‬تجربتك‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬وليبيا،‭ ‬أيهما‭ ‬أضاف‭ ‬للآخر،‭ ‬وأين‭ ‬تأثير‭ ‬البيئة‭ ‬الليبية‭ ‬في‭ ‬أعمالك؟

أعتقد‭ ‬أنها‭ ‬إضافة‭ ‬مكملة‭ ‬لبعضها‭ ‬البعض،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفصل‭ ‬بين‭ ‬موطن‭ ‬ولادتي‭ ‬وبين‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭ ‬التي‭ ‬عشت‭ ‬فيها‭. ‬فتأثير‭ ‬ليبيا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬الألوان‭ ‬الحارة‭ ‬الدافئة،‭ ‬وبعض‭ ‬لوحاتي‭ ‬دمجت‭ ‬فيها‭ ‬الألوان‭ ‬الباردة‭ ‬والحارة‭. ‬ربما‭ ‬الأسلوب‭ ‬الأوروبي‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬أعمالي‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬البعض،‭ ‬لا‭ ‬أعرف،‭ ‬لكن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الروسية‭ ‬منحتني‭ ‬أساساً‭ ‬قوياً،‭ ‬بينما‭ ‬ليبيا‭ ‬منحتني‭ ‬الروح‭ ‬والدفء‭ ‬اللوني‭. ‬

وفق‭ ‬ما‭ ‬أشرت‭ ‬يصعب‭ ‬رسم‭ ‬خطوط‭ ‬الاندماج‭ ‬بين‭ ‬لغة‭ ‬الثلج‭ ‬والشمس،‭ ‬لكنها‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬للمتلقي‭ ‬عبر‭ ‬الألوان‭ ‬ومواضع‭ ‬توزيعها‭ ‬وكذا‭ ‬طبيعة‭ ‬المشهد‭ ‬وحدود‭ ‬حركة‭ ‬الشخوص‭ ‬فيه‭ ‬والمعنى‭ ‬المشتغل‭ ‬عليه‭. ‬

‭ ‬كيف‭ ‬تجدين‭ ‬الفضاء‭ ‬التشكيلي‭ ‬الليبي‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرك،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأفكار،‭ ‬ومستوى‭ ‬المشاركات‭ ‬وزخمها؟

الفضاء‭ ‬الليبي‭ ‬له‭ ‬مشاركاته‭ ‬وجمهوره‭ ‬الخاص،‭ ‬كهوية‭ ‬ليبية‭ ‬مطلوبة‭ ‬في‭ ‬السوق‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬زخماً‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به‭ ‬ومواهب‭ ‬تحاول‭ ‬نشر‭ ‬جمال‭ ‬ليبيا‭.‬‭ ‬ربما‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الدعم‭ ‬والمساحات‭ ‬النقدية،‭ ‬ولكن‭ ‬الحراك‭ ‬موجود‭ ‬والأفكار‭ ‬تنبع‭ ‬من‭ ‬واقعنا‭ ‬الثري‭.‬

‭ ‬أنت‭ ‬تمارسين‭ ‬النشاط‭ ‬الفني‭ ‬كرسامة،‭ ‬وكمحاضرة‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الفنون،‭ ‬أين‭ ‬تجدين‭ ‬نفسك‭ ‬بين‭ ‬الاثنين،‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬فجوة‭ ‬بين‭ ‬الوسط‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والوسط‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬التشكيلي؟

بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فجوة‭ ‬بين‭ ‬الوسط‭ ‬الأكاديمي‭ ‬والوسط‭ ‬الفني‭ ‬التشكيلي،‭ ‬فهما‭ ‬مكملان‭ ‬لبعض،‭ ‬وينحصر‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬حبي‭ ‬للفن‭ ‬والعطاء‭.‬‭ ‬فمهنة‭ ‬التدريس‭ ‬مهنة‭ ‬سامية‭ ‬ورسالة‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬توصل‭ ‬لطلاب‭ ‬المستقبل،‭ ‬الطلاب‭ ‬الشغوفين‭ ‬بالمعرفة‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭. ‬أعتقد‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬وظيفتنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭: ‬العمل‭ ‬على‭ ‬المستقبل‭. ‬الحاضر‭ ‬هو‭ ‬الحاضر،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقدم‭ ‬للمستقبل‭ ‬حتى‭ ‬يبقى‭ ‬الأثر؟‭ ‬التدريس‭ ‬هو‭ ‬زرع،‭ ‬والرسم‭ ‬هو‭ ‬حصاد‭ ‬شخصي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى