يظل السحر أحد الهواجس فى بلداننا العربية خاصة، والعالم بشكل عام، لاسيما وهو من الملفات الشائكة التى يجب العودة إلى الاشتباك معها، ومواجهة تداعياتها الخطيرة على المجتمع، فقد انتشرت فى الفترة الأخيرة على بعض القنوات الفضائية إعلانات عن برامج عن السحر وجلب الحبيب وجلب السعادة وجلب المتوفى وغيرها من الخرافات، وتقوم تلك القنوات أيضًا باستضافة هؤلاء الدجالين، لأسباب لا نعلمها ربما لجذب متابعين لهم أو ليس عندهم ما يقدموه للمشاهد أو لتحقيق أرباح مالية لأنها تجارة رابحة، وذلك على حساب خداع المشاهدين البسطاء وتدمير المجتمع.
بالنظرلحركةالسحر عبر التاريخ واتصال حضوره إلى الزمن الحاضر فلايمكن أن نعتبر السحر جزءًا من الماضى، أو ننبذه بوصفه نتيجة مباشرة للجهل، أو نصنفه على أنه مرحلة تطورية من مراحل الفكر الإنسانى، على الأقل ليس من المنظور الثقافى، نعم لقد فسر العلم كثيرا من الأمور التي كانت تعتبر غامضة وخفية، تفسيرًا علميا يستند على التعليل المنطقي المستند لمعطيات علمية، لكننا لا نستطيع التغاضيَ عنه، فالسحر سيظل دائمًا بديلًا قائمًا لدى البعض، إن السحر بمعناه الواسع يشكل جزءًا من الحالة الإنسانية، والاعتقاد بأنه سيختفي في نهاية المطاف لا يعدو كونَه مجرد أمنية.
ففي عصور مضت بلغت محاربة الهرطقة «السحر» ومن ضمنها مطاردة السحرة في أوروبا أوجها تقريبا ما بين القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر، وقد أعدم خلال هذه الفترة بتهمة مزاولة السحر ما بين 40 ألف إلى 100 ألف شخص، معظمهم أحرقوا أحياء، وتشكل نسبة النساء منهم من 75 إلى 85 في المئة، وغالبا ما كانت أعمارهن تزيد عن 40 عاما.
وكذلك فى الوطن العربى ومنذ القدم، وفي جزيرة العرب كان للسحرة والكهان حضورهم في المجتمع ولهم حضوة ومكانة حيث استعملوا السحر لمعرفة مكان الضالة والشيء المسروق، وللتفرقة بين الزوج وزوجه كما أشار القرآن، وكان السحرةيتنوعون رجالا ونساء، بيد أن النساء كان لهن النصيب الأكبر من حيث عددة الممارسات لهذه الطقوس.
وهناك عدة أسباب أخرى لربط السحر والشعوذة بالنساء، فقد كانت العصور القديمة ذكورية بامتياز وكون النساء هن الطرف الأضعف شجع على استهدافهن، كما روج رجال الكنيسة المتشددون في أوروبا في القرون الوسطى بشكل عام أن الوظيفة الحصرية للنساء هي إنجاب الأطفال، وتربيتهم، وإدارة الحياة المنزلية، وتقديم نموذج للخضوع المسيحي لأزواجهن، وبالتالي أي خروج عن هذا الإطار، يمكن وضعه ضمن الممارسات الشيطانية.
من أين أتى السحر؟ قبل ظهور علم الأنثروبولوجيا بوقتٍ طويل، ظل المثقفون يفكرون مليًّا في إجابة هذا السؤال، وغالبًا ما كانت الإجابة أنه أتى من الشرق، لكن ما مدى بُعد هذا الشرق الذي أتى منه السحر؟ يقدم لنا المفكر الروماني المناصر لمذهب الطبيعة بلينيوس الأكبر )٢٣٧٩م( أول محاولة مدروسة لتصور تاريخ السحر؛ فقد ورد في كتابه «التاريخ الطبيعي» أنه كان هناك «إجماع عالمي على أن السحر بدأ في بلاد فارس بظهور زرادشت» وبناءً على حسابات القرن الرابع قبل الميلاد التي أجراها عالم الرياضيات الإغريقي يودوكسوس والفيلسوف أرسطو، قدَّر بلينيوس أن زرادشت قد عاش قبل ستة آلاف عام من زمن أفلاطون الذي وُلد في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن السحر لم يجد طريقه إلى الغرب إلا خلال الحملة الحربية الفاشلة التي شنها الملك الفارسي خشایارشا على الإغريق، وقد كان هذا عام ٤٨٠ قبل الميلاد. وكان هناك ساحر يُدعى أوستانا والذي اعتقد بلينيوس أنه أول من دوَّن السحر يرافق خشايارشا «ونشر الوباء في العالم أينما حل خلال رحلتهما» وهكذا أصيب الإغريق كما يذهب بلينيوس متحسرًا باشتهاء السحر والجنون به. وذكر أن فيثاغورس وأفلاطون وإيمبيدوكليس وديموقريطوس ارتحلوا جميعًا إلى الشرق ليعرفوا المزيد عن السحر الذي نشره أوستانا ورفيقه المجوسي، اللذان اعتبرهما بلينيوس محتالَين وأحمقَين.
اما على صعيد الديانات السماوية فتجد الديانة اليهودية في العهد القديم «التوراة» هجوما على السحر والسحرة «سفر لاويين ٢٠/٦، ٢٧؛ سفر تثنية ٢٢/١٨» حيث يعتبر السحر رجسا ونجاسة وزنى. ومع هذا، فهناك إشارات في العهد القديم إلى قبول السحر كوسيلة مشروعة. وهناك حادثة أليشع وهو ينصح الملك يوآش أن يتنبأ بفرص النصر ضد آرام عن طريق رمي السهام «سفر ملوك ثاني ١٣/١٤ ـ ١٩» . وقصة شمشون لا يمكن فهمها إلا في إطار أنها قصة ساحر يعد شعره مكمن قوته وحياته بالنسبة إليه. ولعل أحجار أوريم وتوميم على رداء الكاهن الأعظم، وعمودي بوعز ويوقين في الهيكل، كانت لها وظائف سحرية. كما أن حادثة أصنام الترافيم تدل هي الأخرى على الإيمان بالسحر بشكل أو بآخر.
وكذالك مذهب الكابالا اليهودي وهو مذهب تصوفي اشراقي يستخدم ممارسات سحرية ولا زالت شائعة في أتباع هاذا المذهب إلى اليوم، ويحظى بانتشار وساع بين اتباع الديانة اليهودية. اما الديانة المسيحية فقد حذا بعض الكُتَّاب المسيحيين الأوائل حذو الإغريق والرومان في رد أصول السحر إلى عالم البشر، وتحديدًا إلى زرادشت وأوستانا، لكنَّ ثَمَّةَ أسماءً أخرى كانت بارزة، منها ملكان مصريان ساحران اسمهما نخت أنبو وبختانيس. لكن لما كان تاريخ السحر مغمورًا بالكامل في «رؤية عالمية» مسيحية، كان لا بد أن يحتويَ العهد القديم نسبة السحر إلى أصول ومواقع جغرافية. ظهر السرد الرئيسي في أدب مؤثر وملفق، مثل الرسالة الإكليمندية الزائفة التي تنسب للأب كليمنت أسقف روما، والتي انتشرت خلال القرن الرابع الميلادي. تقول الرسالة إن شياطينَ هي التي علَّمت البشر السحر، ويتوافق هذا مع تراث يهودي ورد في جزء من «سفر أخنوخ» يحمل اسم «الملائكة الساهرون» الذي ربما يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد؛ إذ يذكر هذا الكتاب أن شياطين هبطت من عند الرب مدفوعة بدوافع الفسق التي جعلتها تتمرد وتهبط إلى الأرض لتتزوج من بنات البشر، وأنجبت عمالقة، وقد لقنت تلك الشياطين رفيقاتها الإناث السحر وعلم الأعشاب بينما كانت تستمع بحريتها.
زما في الديانة المسيحية فد نظرت الكنيسة إلى السحر على أنه تعبير عن التمرد ضد الأعراف والمؤسسة الدينية، وربطت بينه وبين الخضوع للشيطان، ولكن بينما كانت لدى الرجال فرصة لمقاومة الغواية الشيطانية انطلاقا من امتلاكهم الوعي والعلم، فإن النساء “الجاهلات”، أكثر عرضة للاستسلام للإغراء وإبرام مواثيق “الإخلاص للشياطين”.
لطالما كان احتكار المعرفة من أدوات السيطرة، لذا كان رجال الكنيسة يدافعون عن مواقعهم كمالكين حصريين للحكمة والمعرفة بأنواعها، ومثلت النساء اللواتي كن خبيرات بأسرار العقاقير والأعشاب، وبارعات في استقراء ظواهر الطبيعة، تهديدا لا يمكن قبوله.
لذلك كان تركيز المسيحية منصبًّا بشدة على انتقال السحر عبر سلسلة من الذكور؛ إذ ورد في «إقرارات» الرسالة الإكليمندية الزائفة أن حام بن نوح كان أول من مارس هذا الفن الشيطاني الفاسق الجديد، وقد ظل علمه بالسحر باقيًا بعد “الطوفان العظيم” ووصل إلى مصرايم ابنه، ومن ابنه إلى ذريته من المصريين والفرس والبابليين. وهكذا شُبِّه مصرايم بزرادشت «وإن كانت مصادر أخرى تذكر أن حام هو نفسه زرادشت». لكن إبيفانيوس أحد آباء الكنيسة في القرن الرابع كان يعتقد أن السحر ظهر قبل حام واختار أن ينسبه لجاريد ابن الجيل الخامس من ذرية آدم. يعد النمرود أيضًا شخصية بارزة في هذه الحكايات التاريخية الأولى عن السحر؛ إذ يقول العهد القديم إنه حفيد حام، وإنه عاش بالقرب من المراكز الحضرية الهامة في بابل وأوروك «الوركاء». وقد اكتسب شهرة أسطورية كصياد بارع وثائر في وجه الرب. يقول إبيفانيوس إن النمرود وضع أسس علم السحر، وتروي «الإقرارات» كيف تلقى علمه بالسحر في لمح البصر من أعلى، من السماء. وكان بعض الكُتَّاب الأوائل أيضًا يعتبرون أن النمرود هو نفسه زرادشت. وبصرف النظر عن السلالة التي انحدر منها، كانت الرؤية المسيحية اليهودية تذهب إلى أن السحر أنتجه البابليون أو الفرس أو المصريون، الذين تعلم موسى منهم حيلة أو اثنتين.
أما الإسلام فقد وقف من السحر موقفا حاسما، فسدّ كل طريق يؤدي إليه، وحرّم تعلمه وتعليمه وممارسته، منعا لضرره، وحسما لمادة الخرافة أن تتسلل إلى عقول المسلمين فتعطلها عن التفكير الصحيح، والتخطيط القائم على قانون الأسباب والمسببات الذي قام عليه نظام الكون .
فالسحر كما أخبر الله عنه أنه طريق للفساد وسبب للضرر بين العباد، وهو فوق ذلك كله سبب للكفر بالله سبحانه والخروج عن دينه وشرعه .
بناء على هذه الآثار المدمرة على الفرد والمجتمع، فقد أجمل القرآن مفاسد السحر فذكر في مقدمتها الكفر بالله سبحانه، والتفريق بين المرء وزوجه، وإدخال الضرر على العباد، قال تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } يقول القرطبي في تفسير الآية: «ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبُغْض، وبإلقاء الشرور حتى يفرّق الساحر بين المرء وزوجه» وينشر العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع..
ولا يزال السحر ذلك الموضوع الذي وكما يقال «ملأ الدنيا وشغل الناس» ولا زال عالمه متشابك متداخل تمتزج فيه الحقيقة بالخيال ، ويتقاطع، أحيانا مع الجريمة المنظمة، وعمل العصابات بكافة أنواعها ، من قتل وخطف وترويج مخدرات، ولايزال الناس مختلفون فيه منذ الأزل فلم تتفق فيه كلمتهم ، ولم ينضبط لهم ضابط في الزخذ بتلابيب هذا الكيان الهلامي الزئبقي ، فلا قوانين الطبيعة، والتعاليلي المنطقية، ولا القرات الطبيعية التي وهبها الله لأغلب البشر تستوعبه وتفهمه ويبقى البشر مختلفون فيه كما اختلفوا في غيره، وذلك طبيعة البشر ، الاختلاف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ـــــــــ
من مصادر التقرير
* موقع صحيفة مونت كارلو الدولية mcd
* موسوعة ويكيبيديا
* صحيفة الجزيرة الالكترونية
* تفسير القرطبي
*كتاب السحر مقدمة قصيرة جدا/ أوين ديفنز
* السحر والدين في عصور ما قبل التاريخ/ خزعل الماجدي