
يقول جون سيرل* في مقالته الشهيرة حول آفاق الفلسفة في الألفية الثالثة..
لا أحسبني أتجشم المغالاة في تقدير أثر التحيز المعرفي على ممارسة الفلسفة قرابة أربعمائة سنة، ذلك أن السؤال المعرفي كان مركزيا حتى في المواضيع بعيدة الصلة بنظرية المعرفة. وقد كان هذا الأمر ظاهرا على نحو واضح في علم الأخلاق والفلسفة السياسية. قد تعتقد أن السؤال” كيف تعرف؟” لا يبدو بالغ الوضوح في مثل هذه المجالات، غير أنك ستجد في واقع الحال أن السؤال المركزي لعلم الأخلاق في هذه الحقبة كان ” كيف يمكن أن تكون لنا معرفة موضوعية في علم الأخلاق؟”. ” كيف يكون لنا هذا النوع من اليقين المعرفي في أحكامنا الأخلاقية التي نكد من أجل الوصول إليها في أحكامنا العلمية؟”. يبدو أنه لم يكن من الممكن أن يكون هناك سؤال جوهري في علم الأخلاق عند آبائنا وأجدادنا الفلاسفة بالقدر الذي كان عليه هذا السؤال. لقد كانت نتيجة التحليل الفلسفي لخطاب علم الأخلاق شكوكية بالفعل لدى من يقبلون بالتمييز بين الوصفي والقيمي. وبحسب وجهة النظر هذه، يستحيل أن تكون هناك معرفة موضوعية في علم الأخلاق، لأن الجمل الأخلاقية لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة موضوعيا. الفلسفة السياسية أيضا أصابها تحيز معرفي فجاءت صيغة السؤال مرة أخرى على النحو ذاته ” كيف لنا أن نتأكد، وكيف تكون لنا موضوعية معرفية إزاء أحكامنا ومزاعم واجباتنا السياسية؟” وهكذا كما تأثر علم الأخلاق وقعت الفلسفة السياسية في شلل مماثل بسبب من الشكوكية ذاتها. لكن الفلسفة السياسية تطورت وسرت فيها الحياة مجددا مع نشر كتاب ” نظرية العدالة ” لجون رولز وهو الكتاب الذي سأعرض له لاحقا.
ليس ثمة مجال كان التحيز المعرفي صارخا فيه أكثر من فلسفة اللغة. لم يكن لدى فريجه قلق معرفي حيال المعنى، لكن لاحقيه في القرن العشرين أحالوا الأسئلة الخاصة بالمعنى إلى أسئلة خاصة بمعرفة المعنى. أتصور أن هذا الخطأ المتوارث حتى أيامنا هذه قد كان بمثابة كارثة . هناك اتجاه وحراك متكامل في فلسفة اللغة يعتقد أن السؤال المركزي هو: ما نوع الدليل الذي يمتلكه المستمع حين يعزو المعنى إلى المتكلم في لغة ما؟
ما نوع الدليل الذي أمتلكه للقول بإنك حين تلفظ كلمة )أرنب( مثلا،
تعني ما أعنيه أنا بالكلمة )أرنب (؟
ولم تؤخذ الإجابة – التي أراها شخصيا خاطئة – على هذا السؤال على أساس أنها مجرد سمة معرفية حول الطريقة التي نقرر بها الأسئلة الخاصة بالمعنى ، بل أخذت على أساس أنها بمثابة مفتاح لفهم طبيعة المعنى.
المعنى يُحَلّل بالكامل عبر أنواع الدليل الذي يمكن أن يمتلكه المستمع حول ما يعنيه المتكلم. لقد اعتقد كثير من الفلاسفة المبرزين أن السؤال المعرفي قد منحنا بالفعل جوابا للسؤال الأنطولوجي، أي أن الحقائق المتعلقة بالمعنى قد تشكلت بالكامل عبر الدليل الذي يمكن أن يكون لدينا حول المعنى.
أعتقد أن هذه وجهة نظر خاطئة سواء كانت في فلسفة اللغة أم في العلوم والفلسفة عموما. الأمر يبدو وكأن المعرفة في الطبيعة الفيزياء – يفترض بها أن تكون معرفة تختص كليا بالتجارب والقراءات القياسية، طالما أننا نستخدم التجارب والقراءات القياسية لاختبار معرفتنا الطبيعية بالعالم. على نحو مماثل يتجلى الخطأ في افتراض أن الحقائق الخاصة بالمعنى حقائق خاصة بالظروف المحيطة التي يتلفظ الناس فيها بالتعابير، طالما أننا نستخدم الظروف المحيطة التي نتلفظ فيها بالتعابير كدليل للحكم عمّا يعنون. أعتقد أن هذا التحيز المعرفي يمثل خطأ عصرنا الفلسفي ، وهو أمر سأعرض له بمزيد من النقاش في الجزء اللاحق. إنني أهدف فكريا إلى جعل ما أقترحه هنا يتعين في ضرورة تركنا الشكوكية* والاختزالية. أعتقد أنه لا يمكننا التوصل إلى تحليل بنّاء مرض للغة والعقل والمجتمع والعقلانية والعدالة السياسية وغيرها حتى نهجر هوسنا بفكرة أن افتراضاتنا حول كل ما نقوم به من بحث و تحقيق يقدم تبريرا لإمكانية المعرفة. وأن التقدم الحقيقي في المعرفة الفلسفية عموما يتطلب تقليص واختزال المستوى الأعلى من الظاهرة إلى نزعة معرفية أوسع حيال الظواهر في الأساس. ليست مقاربة الشكوكية محاولة لدحضها من خلالها، إنما للتغلب عليها وتجاوزها على نحو يمكننا من المضي قدما بغية التعامل مع المسائل والمشاكل الراهنة. وكما قلت سابقا، فأنا لست واثقا من كوننا قد توصلنا إلى ذلك فعلا، لكنني واثق من أنني أخوض على صعيد فكري غمار هذه المرحلة. وبحسب تفسيري للمشهد الفلسفي المعاصر أرى أن الشكوكية قد تراجعت عن أن تمثل الاهتمام الرئيسي للفلاسفة وأن الاختزالية قد أخفقت عموما. الوضع الذي نحن فيه الآن يشبه تماما حالة الانتقال من سقراط و أفلاطون إلى أرسطو في تاريخ مسار الفلسفة اليونانية. لقد انشغل سقراط و أفلاطون على نحو جاد بالشكوكية وناضلوا من أجل قضايا جزئية. غير أن أرسطو لم ينظر إلى المفارقات الشكوكية نظرة جادة تشكل تحد لمشروعه الكلي محاولا إيجاد فلسفة نظرية نظامية بناءة. أظن أننا الآن نمتلك العتاد للتحرك باتجاه طور جديد من الفلسفة الأرسطية في القرن الواحد والعشرين.
جون سيرل(1932 ) : أستاذ فلسفة اللغة والعقل بجامعة كاليفورنيا – بيركلي .
اقترن اسمه مع أوستن بنظرية أفعال الكلام وهو يعد من أبرز فلاسفة اللغة المعاصرين وإن آلت اهتماماته الراهنة لفلسفة العقل ومعالجة آليات الوعي.
انقسم المختصون بالفلسفة والمترجمون بين استخدام مصطلح الشكوكية، أو الارتيابية مكافئا للمصطلح الانجليزي skepticism إلا أنني آثرت الأول كون الارتياب يشي بالاتهام المفضي للقلق في حين يعبر الشك عن تساوي النقيضين المصحوب بالتحير. تقول: أشك في فوز الفريق ولا يصح أن تقول: أرتاب في فوز الفريق لكنك تقول أرتاب في قرار الحكم.