رتوش

جولة‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ .. ‬الليم‭ .. ‬عين‭ ‬قابل‭!!!‬

زكريا العنقودي

هذه‭ ‬المدينة‭ ‬لم‭ ‬يهبها‭ ‬اللّه‭ ‬هذه‭ ‬الجغرافيا‭ ‬عبثًا‭..‬استلقتْ‭ ‬كفاتنةٍ‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬المتوسط،‭  ‬بمفاتنها‭ ‬اغوتْ‭ ‬الجميع،‭ )‬فنيقيون‭ ‬رومان‭ ‬بيزنطيون‭(..‬فتحتْ‭ ‬ذراعيها‭ ‬فرحًا‭ ‬حين‭ ‬جاء‭ ‬القادمون‭ ‬العرب،‭ ‬فاعتنقتْ‭ ‬الإسلام‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬جاءها‭  ‬الغزاة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ )‬وندال‭ ‬اسبان‭ ‬فرسان‭ ‬القديس‭ ‬يوحنا‭(‬،‭ ‬وحكمها‭ ‬العصملي‭ ‬لقرون،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسلموها‭ ‬لإيطاليا‭ .‬

طرابلس‭ ‬وجودها‭ ‬ليس‭ ‬عبثًا،‭ ‬وليس‭ ‬عبثًا‭ ‬وجودنا‭ ‬فيها،‭ ‬فكم‭ ‬نحن‭ ‬محظوظون‭ ‬كوننا‭ ‬نسكنها،‭ ‬بل‭ ‬كوننا‭ ‬اولادها‭ .‬

جال‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬اليوم‭ ‬كما‭ ‬كل‭ ‬جمعة،‭  ‬القهوة‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬هايتي،‭ ‬كانتْ‭ ‬الساعة‭ ‬ثمانية‭ ‬ونصف‭ ‬صباحًا‭ ‬حين‭ ‬فجاءة‭  ‬مر‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الشارع‭ ‬الجميل‭ ‬الضيق‭ ‬طبعًا،‭  ‬رتل‭ ‬عسكري‭ ‬يقارب‭ ‬28‭ ‬سيارة‭ 

‭)‬لاند‭ ‬كروزل،‭ ‬ثعلوبة،‭ ‬وتيوتا‭ ‬27‭( .. ‬أسلحة‭ ‬متوسطة‭ ‬لا‭ ‬ادري‭ ‬خفيفة،‭ ‬أو‭ ‬ثقيلة،‭ ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬اجهل‭  ‬مصطلحات‭ ‬القتل‭ ‬والقتلة،‭ ‬وأدواتهم،‭ ‬لا‭ ‬ادرك‭  ‬أسماءها‭ ‬ولا‭ ‬معناها‭ .. ‬و‭ ‬احمد‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬ذلك‭  .‬

شارع‭ ‬هايتي‭ ‬وسط‭ ‬بلاد،‭ ‬شارع‭ ‬رهيف‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬اسمه‭ ‬تاريخ،‭ ‬مفروض‭ ‬يمنع‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬السيارت‭ ‬المرور‭ ‬فيه،‭ ‬يتحوَّل‭ ‬فقط‭ ‬كما‭ ‬العالم‭ ‬لشارع‭ ‬للراجلين‭ ‬فقط،‭ ‬ويمر‭ ‬منه‭ ‬صغار‭  ‬البلاد‭ ‬القادمون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ليبيا‭ ‬فهذه‭ ‬عاصمتهم‭ .. ‬صغار‭ ‬بلاد‭ ‬جنتل‭ ‬مان،‭ ‬نظاف‭ ‬ومساويين‭ ‬،‭  ‬يحبوا‭ ‬مدينتهم،‭ ‬يغاروا‭ ‬عليها‭ ‬وشاحطين‭.‬

وأنتم‭ ‬في‭ ‬2025‭ ‬تمروا‭ ‬من‭ ‬هايتي،‭ ‬وفي‭ ‬سرعة‭ ‬رهيبة‭ ‬تتجاوز‭ ‬120‭ ‬برتل‭ ‬عسكري‭ ‬جاهز‭ ‬للحرب،‭ ‬وكأن‭ ‬الصهاينة‭ ‬لهم‭ ‬معسكر‭  ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬ضفتيه‭ .‬

تجاوزتْ‭ ‬همهم‭ ‬بصعوبة،‭ ‬فبعد‭ ‬هالعمر‭ ‬صارتْ‭ ‬عندي‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬الغاء‭ ‬كل‭ ‬الموحشات،‭ ‬واعود‭ ‬للمضي‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬تعوذتُ‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬حتى‭ ‬قهوتي‭ ‬خليتها،‭ ‬شي‭ ‬يسد‭ ‬النية،‭ ‬وانطلقتُ‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ميدان‭ ‬الجزائر،‭ ‬خطوة‭ ‬القدام‭ ‬بعدين‭ ‬يسار‭ ‬شارع‭ ‬البلدية،‭ ‬مشيتُ‭ ‬مسافة،‭ ‬هنا‭ ‬مازال‭ ‬يقبع‭ ‬ورغم‭ ‬جمال‭ ‬معماره،‭ ‬جاثمًا‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬كل‭ ‬الليبيين‭ ‬الفندق‭ ‬الكبير‭  ‬‮«‬قراند‭ ‬اوتيل‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬إعادة‭ ‬الصياغة‭ ‬وهدم‭ ‬الأصل‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬الفندق‭ ‬الأكبر‭ ‬بطرابلس‭ ‬خارج‭ ‬الخدمة،‭ ‬لأجل‭ ‬غير‭ ‬مسمى،‭  – ‬لا‭ ‬يحدف‭ ‬لا‭ ‬يمد‭ ‬رشاد‭ – ‬،‭ ‬وغارق‭ ‬في‭  ‬سبات‭ ‬عميق‭.‬

تجاوزتُ‭ ‬الكبير،‭ ‬حزينًا‭ ‬وقلقًا،‭ ‬واخرجته‭  ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬تمامًا‭ ‬كرتل‭ ‬شارع‭ ‬هايتي،‭ ‬وانطلقتُ‭ ‬اكمل‭ ‬جولتي‭ .‬

دخلتُ‭ ‬زقزاقًا،‭ ‬بين‭ ‬شارع‭ ‬البلدية،‭ ‬والأزقة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬ما‭ ‬بينه‭ ‬وشارع‭ ‬الاستقلال‭ .. ‬يا‭ ‬جمال‭ ‬الابنية‭ ‬يا‭ ‬عبق‭ ‬التاريخ‭ .‬

الطلياني‭ ‬استعمار‭ ‬بشع،‭ ‬قاومناه‭ ‬وحاربناه،‭  ‬لزمن‭ ‬طويل،‭ ‬الطلياني‭ ‬لم‭ ‬يعلّمنا‭ ‬حتى،‭ ‬لكن‭ ‬هنا‭ ‬اقف‭ ‬الطلياني‭ ‬متع‭ ‬معمار،‭ ‬فبناها‭ ‬ليبيا‭ ‬ليس‭ ‬لأجل‭ ‬خاطرنا‭ ‬أو‭ ‬لخاطر‭ ‬عيوننا،‭ ‬لكن‭ ‬لأجل‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬أمجاد‭ ‬روما‭ .. ‬رحل‭ ‬الطلياني‭ ‬من‭ ‬ليبيا‭ ‬مهزومًا،‭ ‬لكنه‭ ‬ترك‭ ‬خلفه‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العمارة،‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬وسط‭ ‬المدينة‭ ‬وسنتر‭  ‬طرابلس‭ ‬كاملاً،‭ ‬ولولاه‭ ‬لما‭ ‬كنا‭ ‬نملك‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الجمال،‭ ‬هذه‭ ‬العمارة،‭ ‬وهذه‭ ‬العاصمة،‭ ‬وهذا‭ ‬النغم‭ ‬الجميل‭.‬

في‭ ‬آخر‭ ‬شارع‭ ‬البلدية‭ ‬دخلتُ‭ ‬آخر‭ ‬شارع‭ ‬قبل‭ ‬ميدان‭ ‬الشهداء،‭ ‬يسارًا‭ ‬باتحاه‭ ‬الاستقلال،‭ ‬طفيت‭ ‬‮«‬الموطو‮»‬‭ ‬كما‭ ‬الجمعة‭ ‬الماضية‭ .. ‬واخرجتُ‭ ‬هاتفي‭ ‬للتصوير،‭ ‬تحسرتُ‭ ‬حين‭ ‬تذكرتُ‭ ‬هدم‭ ‬مبنى‭ ‬اللجنة‭ ‬الشعبية‭ ‬العامة‭  ‬حينها،‭  ‬والذي‭ ‬كنتُ‭ ‬طفلاً‭ ‬حين‭ ‬ادخلني‭ ‬جدي‭ ‬لداخله‭ ‬ليصلح‭ ‬لهم‭ ‬خطوط‭ ‬الهاتف؛‭ ‬فسنترال‭ ‬جدي‭ ‬مصطفى‭ ‬بالشارع‭ ‬نفسه،‭  ‬تجولتُ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المبنى،‭ ‬كان‭ ‬تحفةً‭ ‬فنيةً،‭ ‬تخيلته‭ ‬قائمًا‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬ليس‭ ‬كمؤسسة‭ ‬حكومية‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬كملحق‭ ‬لمتحف‭ ‬‮«‬السرايا‮»‬‭  ‬مثلاً‭ ‬وبعنوان‭ ‬خاص،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬غاليري‮»‬‭  ‬و«دار‭ ‬فنون‮»‬‭ ‬ونادٍ‭ ‬للتشكيليين،‭ ‬ومدرسة‭ ‬لهواة‭ ‬الرسم،‭ ‬والنحت‭ ‬والتشكيل‭ .‬

المهم‭ .. ‬أخذتُ‭ ‬بعض‭ ‬الصور،‭ ‬لاحتْ‭ ‬ليّ‭ ‬‮«‬السرايا‮»‬‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬لم‭ ‬يحجبها‭ ‬الشجر‭ ‬فالتقطتُ‭ ‬سريعًا‭ ‬صورًا‭ ‬لها،‭ ‬ومن‭ ‬زاويا‭ ‬تختلف،‭ ‬انطلقتُ‭ ‬اثر‭ ‬ذلك‭ ‬وشرعتُ‭  ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العودة،‭ ‬دخلتُ‭ ‬على‭ ‬ميزران‭ ‬كما‭ ‬العادة‭ .. ‬على‭ ‬المبنى‭ ‬العثماني‭ ‬المجاور‭ ‬لحيدر‭ ‬الساعاتي،‭ ‬والذي‭ ‬تشغله‭ ‬الآن‭ ‬إحدى‭ ‬إدارات‭ ‬التعليم‭.‬ومن‭ ‬ذاك‭ ‬الزقاق‭ ‬الصغير‭ ‬المجاور‭ ‬خذيت‭ ‬يمين،‭ ‬دخلت‭ ‬على‭ ‬جنان‭  ‬النَّوار‭  ‬شارع‭ ‬الوادي‭.‬

تذكرتُ‭ ‬الطاحونة‭ ‬الحمراء‭  ‬واحلى‭ ‬هامبورقا‭ .. ‬مطعم‭ ‬عمي‭ ‬حمد‭ ‬متع‭ ‬الدجاج‭ ‬المحمر‭ .. ‬والكوشة‭ ‬السمحة‭ ‬متع‭ ‬‮«‬الباستا‭ ‬دورة‮»‬‭  ‬أيام‭ ‬الخبزة‭ ‬الصح،‭ ‬لفيت‭ ‬على‭ ‬الجرات،‭ ‬على‭ ‬يميني‭ ‬المصلى‭ ‬متع‭ ‬سيدي‭ ‬منيدر‭ ‬شارع‭ ‬المفاتيح‭ ‬توا‭.‬

زمان‭ ‬كنا‭ ‬صغار،‭ ‬نخافوا‭  ‬نخطموا‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬كان‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجبابين‮»‬‭  ‬لفيت‭ ‬يسارًا‭ ‬على‭ ‬الجزيرة‭ ‬وعدتُ‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬‮«‬السعدية‮»‬‭ ‬ياحسرة‭ ‬‮«‬ياسعدية‮»‬‭ ‬شكون‭ ‬يتذكر‭ ‬معاي‭ ‬عمي‭ ‬الحاج‭ ‬‮«‬السكليستي‮»‬،‭ ‬واعتقد‭ ‬كان‭ ‬اقطع‭ ‬وبيد‭ ‬وحدة،‭ ‬لكن‭ ‬خدمة‭ ‬صح‭ ‬واقوى‭  ‬‮«‬سكليستي‮»‬‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ .‬

شارع‭ ‬السعدية‭ ‬لما‭ ‬تدخله‭ ‬كانتْ‭ ‬هناك‭ ‬مدرسة‭ ‬قرآنية‭ ‬في‭ ‬أوله‭ ‬على‭ ‬اليمين،‭ ‬مقابل‭ ‬الجرات‭ ‬توا‭ ‬،‭ ‬للبنات‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬رابعة‭ ‬العدوية‮»‬‭  ‬،‭ ‬كملت‭ ‬طريقي‭ ‬طلعت‭ ‬من‭ ‬السعدية،‭ ‬وليت‭ ‬ميزران‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بعد‭ ‬ركابة‭ ‬الجامع،‭ ‬لقيت‭ ‬بورتر‭  ‬مدرسة‭ ‬يبيعوا‭ ‬في‭ ‬الليم‭.‬

‮«‬العين‭ ‬قابل‭ ‬يا‭ ‬ليم‮»‬‭ .‬

كملت‭ ‬في‭ ‬الطويل‭ ‬لشارع‭ ‬الزاوية‭ ‬على‭ ‬اليمين،‭  ‬مدرسة‭ ‬شارع‭ ‬الزاوية‭ ‬هنا‭ ‬طفولتي‭ ‬وصغار‭ ‬شارعي‭ ‬من‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬للسادس‭ ‬هنا‭ ‬درست‭ ‬أيام‭ ‬التعليم‭ ‬صح‭ .‬

أستاذ‭ ‬‮«‬رمضان‭ ‬الحمسوك‮»‬،‭ ‬وعمي‭ ‬‮«‬الامين‭ ‬الجعفري‮»‬‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ .‬

أخيرًا‭ .. ‬عذرًا‭ ‬لكثر‭ ‬الكلام،‭ ‬لكن‭ ‬الصدر‭ ‬يضيق‭ ‬ويضج‭ ‬بالكلام،‭ ‬زيدها‭ ‬لما‭ ‬مر‭ ‬من‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬هايتي‭ ‬ذاك‭ ‬الرتل‭ ‬المدجج‭ ‬بالسلاح‭ .. ‬تمنيت‭ ‬نحصل‭ ‬فرصة‭ ‬ونركب‭ ‬أعلى‭ ‬السرايا‭ ‬ونصرخ‭ ‬طرابلس‭ ‬لكل‭ ‬الليبيين‭ ..‬

كون‭ ‬نظيف،‭ ‬جنتل‭ ‬مان‭ ‬،‭ ‬واشحط‭ ‬روحك‭ ‬،‭ ‬هي‭ ‬ملكك‭ ‬هي‭ ‬ليك‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى