ثقافةحوار

حوار مع الشاعر الليبي عمر الكدي كتبتُ قصيدة “المنفى” في ثلاث جلسات.. وكانت أكثر قصيدة مؤلمة 

أجرى الحوار سميرة البوزيدي 

وحديث الغربة والمنفى 

على ضوء المشاركة الشعرية المميزة للشاعر الليبي عمر الكدي في الامسية الشعرية بمدينة لاهاي بهولندا يوم 17 ديسمبر نحاور صاحب القصيدة الأشهر بلاد تحبها وتزدريك للإقتراب من عوالمه الشعرية والسردية وعن سيرته  في الهجرة.

ومن المعروف أن نشاط الكدي كشاعر بدأ تحديدًا في أواخر الثمانينيات، حيث تجلى حضوره خلال المناشط المحلية التي تنظمها رابطة الكتَّاب أو جهات ثقافية وإعلامية أخرى. لعل أشهر نصوصه تلك التي استمدتْ تجذرها في الذاكرة من عنوانها: «بلاد تحبها وتزدريك».

وفي عام 1999سافر الى هولندا كلاجئ وعمل بالقسم العربي لإذاعة هولندا.

كتب العديد المؤلفات منها بلاد تحبها وتزدريك، منفى، حوليات الخراب، حروب ماريش وثوراتها الثلاث، حبر المنفى، وحراس الجحيم.

تجربة الهجرة والمنفى إلى أي حد أثرتْ في كتابة الكدي ؟ 

تجربة المنفى تجربة صعبة ومؤلمة خاصة في بدايتها، ولكنها غنية ومثمرة فيما بعد، خاصة وأنا غادرتُ ليبيا وأنا على مشارف الأربعين وهي سن متأخرة لبداية جديدة في مكان جديد، وبعد الاندماج في المجتمع الجديد، وتعلم اللغة، تتسع الآفاق ويمكن الاستفادة القصوى من الحرية تقريبًا المطلقة، ومن امكانات بلاد في مصاف الدول الأكثر تطورًا، ليس فقط على الصعيد الصناعي والتكنولوحي والبنية التحتية، وإنما وهذا الأهم في التجربة التاريخية التي مكنتهم من الوصول إلى هذه المكانة، وهكذا اتيح ليّ أن اتأمل ليبيا من بعيد، فاعرف أمراضها بشكل افضل وايضا اعرف امكاناتها الكامنة وهي كبيرة، وادرس تاريخها بطريقة اكثر موضوعية، مما كنتُ عليه وأنا غارق في واقعها المزعج؛ فالرؤية من خارج الصورة ليس كالرؤية من داخل الصورة. 

 بلاد تحبها وتزدريك    ؟

ما ذكرياتك مع هذا النص من حيث زمنه وظروف كتابته 

كتبتُ قصيدة بلاد تحبها وتزدريك ذات عشية عام 1993. كتبتها دفعة واحدة دون مقدمات في جلسة واحدة، اشبه بامرأة يدركها والطلق وهي لم تكن تعلم انها حامل! واسرعتُ بها إلى مربوعة الشاعر نصر الدين القاضي حيث كنا نلتقي مجموعة من الأصدقاء والكتَّاب وللمثقفين الذين استقبلوا القصيدة بحفاوة كبيرة، وبعد نشرها في مجلة (لا ) بدأت رحلة شهرتها الغريبة.

واذكر أنني كنتُ مسافرًا بسيارتي في الجنوب الليبي، وعندما توقفتُ في محطة وقود قرب قرية صغيرة، التقيتُ صدفة بأحد زملاء الدراسة، الذي اصر على استضافتي إلى جانب عدد من وجهاء القرية، وبعد العشاء دخل علينا شابٌ صغير لعله في السنة الأخيرة بالمرحلة الثانوية. سألني مباشرة هل أنتَ الشاعر عمر الكدي وعندما جاوبته بالايجاب استأذن أن يقرأ عليَّ قصيدة؛ واخذ يقرأ قصيدة (بلاد تحبها وتزدريك) من الذاكرة دون خطاء واحد وبطريقة مؤثرة، وعندها عرفتُ أن القصيدة وصلتْ إلى النَّاس ولم تعد ملكي، وبالرغم من حمولة الاحتجاج في القصيدة إلا انها لم تتسبب في أي مشكلة بل بالعكس اشاد بها حتى مثقفو النظام، وكأنها تعويذة سحرية وحدتْ الليبيين، ولكن قصيدة (أرى ما لا ترون) كادتْ أن تقودني إلى محكمة ثورية وبالتأكيد السجن لولا أن الإجراءات توقفتْ في مستوى معين.

إلى أين تميل في الكتابة؟ إلى السرد أو الشعر وإلى أي مدى وصلت بالشعر والسرد؟

في المنفى توقفتُ عن كتابة الشعر، لم اكتب إلا قصيدة (باب على البحر) و(أبواب على الصحراء) التي بدأت كتابتها في طرابلس، بالاضافة إلى بعض المراثي، وخاصة بعد الوفاة الماساوية للصديق الشاعر بالقاسم المزداوي؛ حتى انني شكوتُ حالي في قصيدة (منفى) عندما قلت: 

والشعر حادي والأيام قافلة وأنا أحدو أيامي بالصمت، لم تكتب إلا المراثي وكانك حانوتي يدق المسامير في النعش.

في ذلك الوقت وجدتُ الوقت والمزاج لاكتب القصة القصيرة وهكذا ولدت مجموعة (حراس الجحيم) التي كتبتها في الاجازة الصيفية عندما كنتُ اعمل طباخًا في مطعم هولندي، على ضفاف بحيرة قريبة من بيتي، ثم لم اتوقف عن الكتابة السردية حتى فرغت من كتابة ثلاث روايات بالاضافة إلى الكثير من المقالات السياسية والفكرية والساخرة قبل ان يعود الشعر في اصفى اشكاله واكثرها كثافة في قصيدة (منفى) وقصيدة (قال لي شيخي وجدي)، خلال اقامتي في الدوحة أثناء عملي في قناة (ليبيا لكل الأحرار). 

نلاحظ وتيرة السخرية السوداء في سردكَ مثل نموذج قصة الكلب رمضان.. في حين يرتفع منسوب الآسى في النص الشعري أيهم أقرب لنفسك في الكتابة؟ 

بالتاكيد الشعر اقرب إلى نفسي، فعندما اكتب الشعر اكتبه بكل صدق واخلاص، وكأنني اقطع من لحمي، اما الكتابة السردية فلا تخلو من حيل ومنكهات وبهارات الشعر في غنى عنها، وبالرغم من السخرية العالية في نصوصي السردية إلا أنها نصوص مؤلمة مثل كل نصوص الكوميديا السوداء. 

تجربة العمل في القسم العربي بإذاعة هولندا احك ِ لنا عنها؟ 

العمل في القسم العربي بإذاعة هولندا اعتبرها اغنى تجربة في عملي المهني، خاصة وأنني دخلتُ للصحافة من باب النضال، وهو نقيض العمل المهني المحايد قدر الامكان، فبعد هذه التجربة لا  اعتقد في وجود إعلام محايد مائة في المائة، ولكنَّني تحت رقابة مهنية صارمة تعلمتُ كيف اعكس وجهات النظر المختلفة واطرحها للقاريء والمستمع ليكون رأيه، فرأيي أنا ليس مهمًا على الاطلاق، وعندما لا اجد من يمثل الحكومة مثلاً أمثلها أنا واطرح وجهة نظرها أمام رأي المعارضة، وهكذا كنتُ عن طيب خاطر أصبح محامي الشيطان.

كما اكتشف الهولنديون امكانات كامنة في داخلي لم اكن اعلم بها مثل أن صوتي يصلح لاكون مذيعًا، وأن لدي موهبة لكتابة وتقديم برنامج إذاعي؛ وهكذا قدمتُ برنامجًا حيويًا يربط استوديوهاتنا في «هلفرسوم» بهولندا مع استوديوهات الشركاء في الوطن العربي، كما اكتشفتُ قدرتي على الترجمة، بالاضافة إلى التدقيق اللغوي، وهكذا أصبحت اقوم بخمس وظائف يقوم بها خمسة أشخاص، كما تعلمتُ كيف يمكن الاستفادة القصوى من أي عنصر، فعدد العاملين في إذاعة هولندا لم يتجاوز 300 شخص بما في ذلك القسم المالي والإداري والقانوني، ومع ذلك كانت الإذاعة تتحدث بعشر لغات بما في ذلك اللغة العربية، والصينية، والأندونيسية، ولغة جزر الكاريبي

في 2015، صدر ديوانك بعنوان (منفى) لماذا تأخر صدور هذا الديوان ؟ 

في عام 2013 خلال اقامتي في الدوحة، قرَّرتُ كتابة رواية عن ليبيا بعد مائة سنة من ثورة فبراير، وهي بلد متقدم جدًا، حيث يصل عمر السكان المتوقع عند الولادة إلى خمسئمة سنة، كما تجري بها أربعة أنهار من الجنوب إلى الشمال، وتنتج كهرباء من الطاقة الشمسية وتبيعها إلى كل أنحاء العالم، ويعتمد السكان في خدمتهم على روبوتات متطورة. كنتُ اكتب الرواية بينما التلفزيون مفتوح ينقل الأخبار المؤسفة القادمة من ليبيا، وفي نوبة غضب توقفتُ وصرختُ من سيصدقني، خاصة وأن دافعي للكتابة هو ايصال رسالة لليبيين بأنه بالامكان بناء مستقبل مشرق، وبعد أن هدأتُ قليلاً فتحتُ صفحة جديدة وانسابت قصيدة (منفى) بكل يسر وسهولة، وكأنها كانت هناك تنتظر الخروج، ولم اكن اشعر بالغربة في بلد عربي وبين عدد كبير من الليبيين، وكان خروجي من هولندا اتاح ليّ القدرة للتعبير عن تجربة مرعبة لا يصمد فيها إلا اولو العزم.

كتبتُ القصيدة في ثلاث جلسات وكانت أكثر قصيدة مؤلمة، حتى انني لم استطع التوقف عن البكاء، ربما لهذا السبَّب لم انشرها، لأنني لم احتمل حتى اعادة قراءتها، وفي عام 2015اثناء اقامتي في القاهرة تصالحت معها ونشرتها في نفس العام، وعندما قرأتها في أمسية شعرية باتيليه القاهرة اضطرَّرتُ للتوقف، لأن الحاضرات انخرطن في نوبة بكاء، فاشفقتُ عليهن.

وهذا ما حدث ايضًا في أمسية لاهاي، فقد رايتُ رجالًا ونساءً يبكين في صمت ربما لأنهم منفيون مثلي، وبالرغم من أنَّني احفظ القصيدة إلا أنني اتحاشى قراءتها في السهرات التي تجمعني بأصدقائي الليبيين والمصريين والعرب بسبب حجم الآسى في طياتها. 

احكِ لنا عن مشاركتك الشعرية الأخيرة في لاهاي ؟

بدعوة من مؤسسة (اماري) الهولندية، دعاني صديقي الشاعر العراقي محمد الأمين وهو زميلي في إذاعة هولندا، ومترجم ممتاز ويتقن العربية والفارسية، والهولندية إلى هذه الأمسية، وشعرتُ انني اعود إلى عوالمي القديمة بعد تجربة منهكة مع المرض تجاوزتها وكأنني ولدتُ من جديد، خاصة وأن الأمسية لأحياء ذكرى الشاعر الصوفي الكبير جلال الدين الرومي، فاستيقظ الصوفي في داخلي وخرج من صومعته ليعانق طراوة الحياة. أقيمت الأمسية في مجمع ثقافي بمدينة لاهاي القريبة من مكان سكني، وتولوا ترجمة القصيدة، وقد تنشر باللغة الهولندية في كتاب قريبًا، وماذا اريد من بلد المنفى، بينما لم أحصل حتى الآن على الرقم الوطني في البلد الذي ولدتُ به بينما أرى صديقي الشاعر مفتاح العماري يتعذَّب في مستشفيات تركيا في غياب الدولة نصبح جميعًا يتامى، بينما اللصوص يسرقون الميراث.

ما نمر به اليوم هو مخاضٌ عسير سبق أن مرت به الشعوب الأوروبية التي عانت من الفقر والظلم وخاضت حروبًا دينية وطائفية وقومية حتى تعبت من الحروب، وعندها لجأت إلى الحوار وتغليب المصلحة العامة، ووصلت إلى الديمقراطية على مراحل، لا ننسى أن الثورة الفرنسية انحشرت في عنق الزجاجة سبعين عامًا قبل أن تحقَّق شعاراتها، وفي هولندا كان التحول أكثر سلمية، وأقل دموية من فرنسا، ومع ذلك لا تزال في هولندا احزاب أصولية بعضها ممثل في البرلمان مثل حزب الاتحاد المسيحي، وثمة حزب مرخص ينادي بتطبيق الكتاب المقدس، كما يطالب بعودة المرأة إلى البيت، ويمنع عضوات الحزب من التصويت في الانتخابات، وبالرغم من معاناة النَّاس المريرة إلا أنني متفائل بالمستقبل، كل ما ارجوه هو أن ينظم النَّاس انفسهم ويجهروا بمطالبهم، وأن لا يعتبروا الدولة غنيمة، وإنما غيمة تهطل على الجميع.

مستقبلكم ومستقبل أطفالكم بأيديكم، أما أن تصنعوه بأنفسكم، أو لن يجد أطفالكم إلا المنافي أو الفقر والطغيان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى