
الشغب الرياضي .. ظاهرة نفسية أم
أزمة اجتماعية؟!
في الوقت الذي يُفترض أن تكون فيه الملاعب فضاءً للفرح، والتنافس الشريف، وتفريغ الطاقات بشكل إيجابي، تحولت بعض مباريات القمة بين الأهلي والاتحاد إلى مسرح لفوضى عارمة، وصدامات جماهيرية مؤسفة. مشاهد العنف، والصراخ، والاعتداءات لم تعد مجرد حوادث عابرة، بل باتت ظاهرة مقلقة تهدد القيم الرياضية، وأمن المجتمع، وسلامة أفراده.
هذه الظاهرة ليست مجرد انفعال لحظي أو ردة فعل رياضية، بل تعكس خلفها أبعادًا نفسية واجتماعية معقدة، ترتبط بتركيبة المجتمع، وضغوطه، ومشاكله اليومية. فما الذي يدفع الجماهير إلى التحول من مشجعين إلى مثيري شغب؟ وما حجم التأثير النفسي والاجتماعي لهذا السلوك؟ والأهم… كيف يمكن أن نعيد للملاعب رسالتها الحقيقية، بعيدًا عن العنف والتعصب؟
هذا ما سنحاول الوقوف عليه من خلال رؤية خبراء في علم النفس والاجتماع، لفهم الظاهرة، وتحليل أسبابها، ووضع حلول حقيقية لها.
صحيفة )فبراير( التقتْ بالدكتور والخبير الاجتماعي علي عمر المبروك — أ. علم الاجتماع — الذي حدثنا على ظاهرة الشغب الجماهيري في المباريات.
بدايةً نرحب بكَ، ونود أن نعرف، كيف تنظرون كخبراء اجتماعيين إلى ظاهرة الشغب الجماهيري التي باتت تثير القلق في الملاعب الليبية.
شكرًا لكم على هذا اللقاء في الحقيقة، ظاهرة الشغب الجماهيري ليستْ مسألة رياضية بحتة، بل هي ظاهرة اجتماعية معقدة. ما يحدث في الملاعب هو انعكاسٌ لمجموعة من التوترات الاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية التي يعاني منها قطاعٌ واسع من الشباب. الملعبُ يصبح في كثير من الأحيان ساحة لتفريغ الإحباط، والغضب المتراكم في الحياة اليومية.
من وجهة نظركم، ما الأسباب الاجتماعية الرئيسة التي تقف خلف هذه الظاهرة ؟
هناك عدة أسباب، أهمها:
• ضعف التنشئة الاجتماعية في الأسرة والمدرسة، عدم غرس قيم التسامح وقبول الآخر.
• ارتفاع معدلات البطالة، وشعور الشباب بالتهميش، مما يولد لديهم رغبةً في التمرد على أي سلطة، أو نظام، حتى لو كان ذلك في ملعب كرة القدم.
• انتشار الخطاب المتعصب في بعض وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، والذي يغذي العداوات بدلًا من نشر الروح الرياضية.
• غياب القدوات الإيجابية في المجال الرياضي، سواء من اللاعبين أو الإداريين.
هل يمكنَّنا القول إنّ الأمرَ مرتبطٌ بعوامل نفسية أيضًا؟
بكل تأكيد فالعامل النفسي يلعب دورًا محوريًا، نحن نتحدث عن شباب يعاني من ضغوطات )اقتصادية، اجتماعية، نفسية(، وأحيانًا من الإحباط وفقدان الأمل الملاعب تصبح متنفسًا لهم، لكن بدل أن تكون متنفسًا إيجابيًا، تتحوَّل بسبب غياب الضبط النفسي والاجتماعي إلى مساحة للفوضى والعنف.
دكتور .. ما الآثار الاجتماعية لهذه الظاهرة على المدى البعيد؟
الآثار خطيرة جدًا نحن نتحدث عن ترسيخ ثقافة العنف بين الأجيال، وعن خلق حالة من الانقسام داخل المجتمع، ليس فقط بين جماهير «الأهلي والاتحاد»، بل بين أي مجموعتين تختلفان في الرأي، أو الانتماء .. كما أن استمرار هذه الظاهرة يفقد الرياضة دورها كوسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية والتواصل الاجتماعي.
برأيكم، ما الحلول الاجتماعية التي يمكن أن تُسهم في الحد من استفحال هذه الظاهرة؟
الحلول تبدأ من :
• إعادة بناء منظومة القيم داخل الأسرة والمدرسة.
• إطلاق حملات توعية عبر الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تركز على نبذ التعصب والعنف.
• تعزيز دور الأندية الرياضية في تنظيم أنشطة ثقافية واجتماعية، وليس فقط رياضية.
• إدخال برامج الصحة النفسية داخل الأندية، لمساعدة المشجعين على إدارة الغضب والانفعالات.
• فرض قوانين صارمة على المحرضين على العنف، سواء في الملاعب، أو عبر الإعلام.
• تدريب الإعلاميين والمعلقين الرياضيين على استخدام خطاب معتدل وبنّاء.
في الختام .. ما رسالتكم للجماهير الرياضية.
رسالتي واضحة: أنتم أكبر من مجرد مشجعين لأندية، أنتم أبناء وطن واحد الرياضة وسيلة للفرح، للترابط، للتنافس الشريف، لا للفوضى، أو التناحر، حب ناديك لا يعني كراهية الآخر، لنتذكر دائمًا أنَّ الهدف من الرياضة هو أن تجمعنا، لا أنَّ تفرقنا.
الخبير النفسي د. محمد أشرف — اختصاصي علم النفس الاجتماعي — حدثنا حول ظاهرة الشغب.
د. محمد، نرحب بكَ، ونود أنّ نسألك، كيف تفسرون من الناحية النفسية ظاهرة الشغب الجماهيري، ومباراة «الأهلي والاتحاد» أنموذج؟
الحقيقة إنّ الشغب الجماهيري ليس سلوكًا عفويًا، أو لحظيًا فقط، بل هو انعكاسٌ لحالة نفسية جماعية، المشجع في الملعب لا يتصرف كفرد مستقل، بل يتحوَّل إلى جزء من «عقل جماعي»؛ حيث تتراجع السيطرة على الذات، وترتفع المشاعر الانفعالية مثل :
)الحماس، والغضب، والتعصب( هذا السلوك يتغذى على ضغوط نفسية سابقة، سواء في حياة الفرد اليومية، أو في مجتمعه.
دكتور، ما أبرز الدوافع النفسية التي تدفع الجماهير للانخراط في أعمال الشغب؟
هناك عدة دوافع نفسية، منها:
. تفريغ الضغوط : الفرد الذي يشعر بالإحباط أو الفشل في حياته اليومية، يجد في التشجيع وسيلة للتنفيس عن تلك المشاعر.
. البحث عن الهوية : الانتماء للنادي يمنح المشجع إحساسًا بالهوية والانتماء، ومع أي تهديد لهذه الهوية كـ)الخسارة، أو الاستفزاز( قد يتحوَّل الانتماء إلى عدوانية.
. تأثير الحشد : في وجود مجموعة كبيرة، تنخفض السيطرة على الذات، ويصبح الفرد أكثر عرضةً لسلوكيات لم يكن ليفعلها بمفرده.
. الإثارة النفسية : بعض الأفراد يسعون دون وعي إلى الإثارة والتحدي، والشعور بالقوة وسط الجماعة.
. نقص مهارات ضبط الانفعال : كثيرون لا يملكون أدوات التعامل مع مشاعر الغضب، أو الإحباط، فيتجهون إلى السلوك العدواني.
هل يمكن القول إنّ هذه الظاهرة ترتبط بأمراض نفسية، أم هي سلوكيات ظرفية؟
هي ليستْ أمراضًا نفسية بالمعنى المرضي، لكنها سلوكيات نفسية اجتماعية ناتجة عن ضغوط، ونقص مهارات التكيف النفسي. لكن إذا استمرتْ وتكرَّرتْ بشكل مستمر، قد تؤدي إلى تطور أنماط من السلوك العدواني المزمن، وهذا مؤشرٌ خطيرٌ على المستويين النفسي والاجتماعي.
ما خطورة هذه الظاهرة على الصحة النفسية للمجتمع؟
الخطورة تكمن في أن العنف يصبح مع الوقت مقبولًا، ومبرّرًا في عيون بعض الفئات، مما يؤدي إلى:
- ارتفاع معدلات التوتر والقلق المجتمعي.
- انتشار ثقافة العنف كوسيلة للتعبير عن الغضب، أو الاحتجاج.
- تعزيز الانقسام بين فئات المجتمع، ليس فقط في الرياضة، بل في كل مجالات الحياة.
- التأثير السلبي على الأطفال والشباب الذين يشاهدون هذه السلوكيات ويظنون أنها طبيعية، أو مقبولة.
من الناحية العلاجية والوقائية، ما الحلول التي تقترحونها كخبير نفسي؟
الحل لا يكون فقط في الردع الأمني، بل يجب أن يبدأ من:
. تعليم مهارات إدارة الغضب، والانفعال داخل المدارس والأندية.
. برامج الدعم النفسي الجماعي للمشجعين، خاصة في المباريات الكبرى، عبر ورش توعية وتنمية نفسية.
. تعزيز خطاب التسامح والروح الرياضية عبر الإعلام واللاعبين أنفسهم.
. توفير بيئة نفسية صحية داخل الأندية، ليس فقط للاعبين، بل للجماهير أيضًا.
. إشراك الإختصاصيين النفسيين في تنظيم الفعاليات الرياضية، لمتابعة الحالة النفسية العامة وتقديم تدخلات فورية عند الحاجة.
. إعادة بناء شعور الانتماء الإيجابي، بحيث لا يكون حب النادي قائمًا على كراهية الطرف الآخر.
دكتور .. ما رسالتكم الأخيرة للجماهير الرياضية؟
رسالتي بسيطة لكنها جوهرية: كرة القدم ليستْ معركة، بل لعبة تُفرِح، تُقرِّب، وتُسعِد. الخسارة جزءٌ من الرياضة، مثلها مثل الفوز. الوطن أكبر من أي مباراة، وأكبر من أي نادٍ. فلنكن جماهير راقية تفرح بالفوز، وتتقبل الخسارة، وتترك الملاعب مساحة للفرح لا للفوضى.
في نهاية المطاف، تبقى كرة القدم أكبر من مجرد مباراة، وأعمق من مجرد فوز أو خسارة. هي شغف. هي انتماء. لكنها يجب أن تبقى في إطارها الأجمل: إطار الفرح، والروح الرياضية، والاحترام المتبادل.
ما يحدث اليوم في ملاعبنا من شغب وفوضى لا يشوه صورة الرياضة فحسب، بل يجرّ خلفه جراحًا اجتماعية ونفسية عميقة قد تدوم طويلاً. لهذا، أصبح لزامًا علينا جميعًا — جماهير، إدارات، إعلام، خبراء، وأسر — أن نقف وقفة حقيقية وشجاعة، نُعيد فيها تعريف معنى التشجيع، ومعنى الانتماء، ومعنى أن نكون أبناء وطن واحد مهما اختلفت ألوان قمصاننا.
لنجعل من صوت الهتاف ألحانًا للفرح، لا صرخات للغضب، ومن الملاعب ساحات للتسامح والتلاقي، لا ميادين للفوضى والانقسام. فالوطن أكبر من أي مباراة، وأجمل من أي نتيجة… والرياضة، في النهاية، لا تُبنى إلا على قيم الحب، والاحترام،